19 ديسمبر، 2024 3:43 ص

الاخلاق تطوق الاعناق

الاخلاق تطوق الاعناق

لا أريد هنا أنْ استعرض ما حَفَلَتْ به مذكرات الوزير العراقي السابق – عبد الكريم فرحان – من أسرار وأخبار ، فذلك أمرٌ لا أستطيع استيفاءه في هذه العجالة .
انه في مذكراته الموسومة ب(حصاد ثورة .مذكرات. تجربة السلطة في العراق (1958-1968)، سلّط الأضواء على كثير من الحقائق والوقائع التي لايستغني عن الوقوف عليها، المعنيّون بتاريخ العراق عموماً، والحريصون على الألمام بتفاصيل كل مرحلة من مراحله، ابتداءً بالعهد (القاسمي) وانتهاء بالعهد (العارفي) الثاني .
ومما ذكره الرجل في مذكراته :
انه كان قد خصص يوماً من أيام الأسبوع – ايام كان وزيراً للاصلاح الزراعي – لمراجعة المواطنين للوزارة .
يقول : (هامش ص203) :
{ في صباح أحد الأيام وكان يوم جمعه، رنّ جرس الدار، فخرجت لأتبين القادم .
كان رجلاً متوسط العمر ،
يرتدي عباءة وعقالاً ،
سلّم ، ثم تطلّع اليّ قائلاً :
أنت الوزير ؟
قلتُ :
نعم
قال :
تسمحُ لي بمراجعتك ؟
قلتُ :
اليوم عطلة ، وكان بوسعك مراجعتي في المكتب …..
قال :
لقد خصصت الوزارة يوماً واحداً، وهذا يضطرني الى الانتظار ، وأنا رجل فقير . لا أملك أجرة الفندق ….
يقول فرحان :
سجلتُ خلاصة القضية ، ودوّنتُ عنوانه .
وكان من أهل الناصرية وقلت له :
سافرْ على بركة الله .
وهنا لابُدَّ من وقفة تأمل :
ان الوزير حين رَنَّ جرس الدار خرج بنفسه ليرى من هو القادم ؟
وهذه من سمات البساطة والتواضع والترسل والبعد عن كل المظاهر الزائفة والحواجز المصطنعة ….
إنَّ التواضع من أعظم الصفات ولكنه من الكبار، ومن المسؤولين بوجه خاص، تكون له نكهة متميّزة تفوق سائر حالاته الأخرى .
ان هذا التواضع، جعل المواطن الفقير القادم من الناصرية، يشعر بانَّ في الدولة رجالاً فتحوا قلوبهم للمواطنين، وهم لا يتوانون عن الاهتمام بشؤونهم وقضاياهم، حتى لو تجاوزوا المواعيد، المحددة لمعالجة أوضاعهم، وهذا ما يدعوهم الى ان يكونوا من المواطنين الصالحين المشدودين الى الوطن ….
إنّ الوزير وفّر على المراجع الفقير، الوقت والمال ،ودوّن بقلمه، ما يجب ان يدوّن من قضيته، ودعاه الى الانصراف مرتاح البال،مطمئناً الى أنه حقّق ما يريد، وتلك درجة عالية من العناية والرعاية، يُشكر عليها ويحمد، لامن قِبل هذا المواطن فحسب بل من قِبل كل المواطنين .
اننا هنا لانتحدث عن نبيّ أو وصيّ نبي ، وانما نتحدث عن احد ضباط تموز، الذين خاضوا غمار العمل السياسي، ورسا عليهم الاختيار لتسنم أعباء الوزارة، فكان منهم ما كان، من انفتاح على المواطنين واهتمام حقيقي بانجاز معاملاتهم …
والسؤال الآن :
مَنْ من الوزراء يفتح باب داره اذا سمع رنين الجرس ؟
انهم سيقولون :
ان الاوضاع الأمنية لاتسمح لنا بذلك، والحق معهم ولكننا نقول :
مَنْ منهم يستقبل المواطن في مكتبه بمثل هذه البساطة التي استقبل بها صاحب المذكرات المواطن الناصري الذي وفد عليه ؟
وهل هناك مانع أمني يحول بينه وبين المراجعين ؟
ان إحاطة المسؤولين أنفسهم بالحواجز والعوائق، التي تحول بينهم وبين المواطنين، ليست مما يرضاه الخلق السمح ولا ترتضيه أيضاً الحسابات الشرعية والسياسية .
ان اهم واجبات المسؤول الخدمة الحقيقية للوطن والمواطنين .
ولا ينبغي له بحالٍ من الأحوال أنْ يغفل عن هذا الواجب المقدسّ .
ان كل ما يُقدّمُ للمسؤول من رواتب ومخصصات وامتيازات، انما هو مشروط بهذا الشرط – الخدمة الحقيقية – وعلماء القانون يقولون :
(المشروط عَدَمٌعند عَدَمِ شَرْطِهِ )
ومعنى ذلك :
ان الاخلال بما يجب أنْ يقدمه من خدمة للمواطنين، ينفي استحقاقه لكل تلك الرواتب والمخصصات والامتيازات .
إنّ اعتبار (المنصب) فرصةً لاحتلاب المغانم، نظرية ما أنزل الله بها من سلطان، وانها لوخيمة العواقب ، لافي الآخرة فحسب بل في الحياة الدنيا أيضاً .
اننا نقرع أجراس الانذار ، مُذَكرّين الناسين من المسؤولين بواجباتهم .
ان خدمة المواطنين ليست مِنّةً من المسؤولين عليهم، بل هي حق صريح للمواطنين ، وواجب مفروض على المسؤولين ، لاتبرء ذممهم من دون أدائها على الوجه الصحيح .
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات