يعاني العراق اليوم من ظروف امنية وسياسية واقتصادية واجتماعية بالغة الدقة والتعقيد اذ تحتل داعش نحو ثلث البلاد والعمليات العسكرية الكبيرة المدمرة تلقي بظلها على المشهد اليومي للعراق الذي يعاني ايضا من مشاكل اقتصادية جمة ناتجة عن الفساد المستشري الذي اخذ ينخر بضراوة في جسد الدولة العراقية رافقه انخفاض مستمر في اسعار النفط الخام التي تمثل المورد الرئيس للموازنات العامة ولكل الفعاليات الاقتصادية في البلاد في ظل مطالبات جماهيرية واسعة النطاق لم يشهد لها العرق بديلا تنادي وبشدة بالاصلاح بعد ان اخذ الفساد يؤثر ويستقطع من لقمة المواطن العراق . وفي خضم هذه الظروف المعقدة تستمر السياسة النقدية في العراق بتبديد عائدات العراق من العملات الاجنبية تحت يافطة تثبيت سعر صرف الدينار العراقي في مواجهة الدولار الامريكي وبمستويات دعم كبيرة جعلت من الدينار العراق مقوما باكثر من قيمته الحقيقية . ومع اننا قد حذرنا في مقالات سابقة من مخاطر هذه السياسة منذ عدة سنوات إلا ان المقال الذي نشر في صحيفة «بلومبيرغ» البريطانية، يوم الاربعاء 26/8/2015، وقالت فيه أن إحتياطيات العملة الاجنبية في البنك المركزي العراقي إنخفضت الى 59 مليار دولار منذ الثالث والعشرين من شهر تموز الماضي، عادة الدينار العراقي واحداً من اكثر العملات عرضة للخطر في منطقة الشرق الأوسط وقالت الصحيفة في تقرير، إن «أزمة العملة في اي بلد تكون ذات عواقب وخيمة على اقتصاده، وأن التهديد الذي يمثله إنخفاض قيمة الدينار العراقي نتيجة انخفاض احتياطيات العملة الأجنبية في العراق وهبوط اسعار النفط قد يتسبب بجعل المعركة ضد تنظيم داعش أكثر صعوبة». وأكد التقرير، أن «ثاني اكبر منتج للنفط في منظمة اوبك بعد السعودية يعتمد فقط على عائدات النفط لتمويل عملياته العسكرية ومحاولة قمع الاضطرابات التي تتعلق بالاقتصاد العراقي». وأشار الى أنه «في الـ25 يوما الأولى من شهر آب الحالي باع البنك المركزي 4.6 مليار دولار من العملة للحفاظ على الدينار بمعدل ثابت، وهو ما يعني أن معدل التدفق اليومي للدولار بلغ 184 مليون دولار». وأضاف أن «الدينار العراقي هو واحد من اكثر العملات عرضة للخطر في منطقة الشرق الأوسط بالرغم أنه من المرجح استقرار سعر الصرف في الوقت الحالي»، منوهاً الى أن «انهيار قيمة الدينار يمكن أن
يتسبب بارتفاع تكاليف المعيشة للعراقيين الذين يحتجون في الوقت الحالي ضد الفساد الحكومي وانقطاع الكهرباء ونقص المياه». وذكر التقرير أن «العراق سيكون قادراً على تمويل العجز الحاصل عام 2015، لكن في حال إستمرار المعركة ضد تنظيم داعش وانخفاض اسعار النفط فسيصطدم العراق بالجدار». من جانبه، قال المحلل الاقتصادي ومؤلف كتاب «الاقتصاد السياسي للعراق» فرانك غونتر، إن «إستمرار هذه العاصفة بشكلها الحالي يعني استمرار فقدان العراق لاحتياطياته مما يدفع الحكومة العراقية الى خفض قيمة الدينار»، مبيناً أن «العملة العراقية قد تضعف بنسبة 20% خلال العام المقبل». تشير الارقام التي ينشرها البنك المركزي العراقي على موقعه الالكتروني الى ان الكمية المباعة للمصارف (27مصرف) و(4) من شركات التحويل المالي من تاريخ 4/1/2015 ولغاية 27/8/2015 قد بلغت (28,467) مليار دولار بسعر صرف ثابت قدره 1166دينار /دولار وقد يصل هذا الرقم الى 30 مليار دولار نهاية آب الحالي .في حين ان مبيعات النفط العراقي الى الخارج قد بلغت خلال الاشهر السبع الاولى من عام 2015 نحو 5و31 مليار دولار . واذا مااضفنا نحو 5و3 مليار دولار التي تمثل مبيعات العراق النفطية لشهر آب الحالي فإن عائدات العراق النفطية من كانون الثاني لغاية آب ستصل الى 35 مليار دولار. وهذا يعني ان مزاد العملة العراقية الذي يمارسه البنك المركزي العراقي قد استنزف نحو 86% من اموال النفط العراقي . واذا مااخذنا بنظر الاعتبار مدفوعات العراق الى شركات النفط الاجنبية التي تعمل في اطار جولات التراخيص والبالغة 9 مليارات دولار التي استلمتها تلك الشركات عن استحقاقاتها لعام
2014 فضلا عن المبالغ التي يلزم العراق بدفعها للشركات الاجنبية عن استثماراتها لعام 2015 والبالغة نحو 18 مليار دولار يضاف الى كل ذلك استيرات الححكومة العراقية وفي مقدمتها الاستيرادات العسكرية ، فإن ذلك يؤشر لنا الحجم الكبير من الاخطار المحدقة بالاقتصاد العراقي والعملة العراقية .لان الاستمرار بدعم العملة العراقية سيؤدي لاحقا الى استنزاف الاحتياطي النقدي المحدود لدى البنك المركزي العراقي ومن ثم عجزه عن الاستمرار في سياسته هذه وهو ما سيعرض العراق واقتصاده وامنه للخطر الكبير ان الاستمرار في استخدام البنك المركزي العراقي لاحدى الوسائل التقليدية للمحافظة على سعر صرف الدينار في سوق الصرف الأجنبي . وهذه الوسيلة تتمثل بالمزادات اليومية التي يبيع فيها البنك المركزي العراقي نحو 200 مليون دولار يوميا . ومع أن هذه الوسيلة قد نجحت في تحقيق هدفها النقدي الرئيس المتمثل بالمحافظة على استقرار سعر الدينار إلا أنها قد أفرزت بالمقابل بعض النتائج السلبية والضارة على الاقتصاد العراقي منها : 1- إن استخدام البنك المركزي العراقي لجزء مهم من موجوداته الأجنبية لغرض تثبيت سعر الدينار يؤدي مع
استمراريته الى استنزاف الاحتياطي النقدي للبنك المركزي العراقي ومن ثم يفقد البنك المركزي مع الزمن قدرته في الحفاظ على القيمة التعادلية للدينار العراقي لا سيما وان المبالغ التي يستخدمها البنك المركزي من الدولار ، هي كبيرة جدا وتزيد عن 60 مليار دولار سنويا إذا ما إستمر البنك المركزي على بيع هذه الكميات الكبير من الدولار الأمريكي . والمعروف بان مبيعات البنك المركزي العراقي قبل عدة سنوات لم تتجاوز 30 مليون دولار يوميا .
2- إن استقرار سعر صرف الدينار كهدف نهائي للسياسة النقدية لم يؤد إلى استقرار أسعار السلع والخدمات التي تجنح نحو الارتفاع المستمر والكبير ، وهو ما يعني ضعف فاعلية سياسة تثبيت سعر الدينار في تخفيض معدلات التضخم في العراق . 3- إن تثبيت سعر الدينار بإجراءات نقدية فقط يؤدي (وهو ما حاصل فعلا في العراق) إلى تقييم العملة العراقية بأكثر من قيمتها الحقيقية . وهذا يعني أن ثمة مبالغة في سعر صرف الدينار العراقي قياسا إلى العملات الأخرى . وهذا يعد احد الأسباب المهمة لهروب رأس المال نظرا للقيمة المنخفضة للدولار في مواجهة الدينار ، كما أن احتمال تخفيض سعر الدينار لأي سبب كان يمكن أن يؤدي إلى أن يتحول الناس من الأصول المحلية إلى الأصول الأجنبية وهذا هو نفس مبرر استبدال العملة أي الاستعاضة عن العملة المحلية بالعملات الأجنبية من اجل تجنب الخسارة المحتملة . 4- إن الوضع الحالي المضطرب امنيا وسياسيا في المنطقة و انخفاض اقصاء حصيلة الصادرات العراقية النفطية بسبب الانخفاض الكبير في اسعار النفط في السوق العالمية ومن ثم انخفاض مروع في العائدات المالية النفطية التي تسهم بحوالي 90% من ابرادات الموازنة العراقية لعام 2015، يستلزم المحافظة على الاحتياطي النقدي للبنك المركزي من خلال اعتماده على سياسة مرنة تأخذ بنظر الاعتبار الظروف السياسية والاقتصادية المستجدة في ضوء ما سبق يمكن القول بان السياسة النقدية في العراق كي تكون فاعلة ينبغي أن تكون جزءا من سياسة اقتصادية كفوءة . وما دمنا بصدد سعر الدينار فأن المحافظة على استقراره يتطلب أولا وقبل كل شئ العمل الجاد على تطوير وتنمية الاقتصاد العراقي من خلال رفع كفاءة الأداء في القطاعات الاقتصادية المختلفة وتوسيع قاعدة المعروض السلعي من الناتج المحلي ، وهذا سيؤدي لاحقا إلى رفع القوة الشرائية للدينار ومن ثم تحسين سعر صرفه قياسا إلى العملات الأخرى . لذلك يغدو من المناسب اعتماد سياسة اقتصادية فعالة تقلل من التكاليف الباهضة لتثبيت سعر الدينار إلى أدنى حد ممكن من خلال تخفيض النفقات التشغيلية وبالذات تخفيض رواتب الدرجات الخاصة والغاء امتيازاتهم المالية التي ترهق الموازنة العامة في البلاد . ان اعتماد نظام سعر صرف ثابت هو شبيه بوضع الاقتصاد في قالب محدد، وهذا يتطلب سياسة مالية متشددة ولا يسمح بالتجاوزات.
أما إذا أغدقت الحكومات في الإنفاق أو ارتفع العجز الداخلي والخارجي، يصبح هذا الرداء ضيقاً وتبدأ التشققات بالظهور عليه مما يستدعي اتخاذ تدابير إصلاحية وإخضاع الاقتصاد للانضباط المالي . ان السحب من الاحتياطيات الخارجية لدعم العملة لا يكفي للحفاظ على سعر صرف ثابت، إلا إذا واجهته سياسة تصحيحية مالية ونقدية، كذلك لابد من وضع مرونة اكبر لسعر الصرف أو سقفين اعلى وادنى لسعر صرف يتحرك خلالهما بحرية بدلا من جمود عملية التغيير .