23 ديسمبر، 2024 8:17 ص

الاختلاس واهدار المال العام جرائم تهدد كيان الدولة

الاختلاس واهدار المال العام جرائم تهدد كيان الدولة

الجريمة سلوك إنساني، ويتجسد هذا السلوك بتوجيه الارادة الى فعل سلبي أو إيجابي أي عمل أو إمتناع عن عمل، وأن تتجه الأرادة للقيام بعمل جرمه القانون، او الأمتناع عن القيام بعمل أمر به القانون مع توفر الأرادة بهذا الأمتناع. أي أن يتزامن هذا الفعل أو الأمتناع عن الفعل بوجود نص قانوني يجرّم هذا الفعل، وان تكون الأسباب كافية لأحداث النتيجة الجرمية لهذا الفعل أو الأمتناع عن القيام به. ومن هنا تكون الجريمة هي فعل أنساني بأرتكاب عمل مخالف للقانون، وأن تكون النتيجة كافية لأحداث أثر لهذا الفعل.                      
وللجريمة ثلاثة اركان اساسية، الأول الركن المادي، والثاني الركن المعنوي والركن الثالث وهو الركن الشرعي. فالركن المادي تشترك فيه جميع الجرائم من جرائم الاختلاس الى جرائم الاستيلاء، وهو صفة الجاني بمعنى ان جريمة الاختلاس تفترض ان من يقوم بها تتوفر فيه صفة “موظف عمومي”. وتجدر الاشارة ان هذه الصفة تختلف حسب رؤية كل تشريع، ولكن الاكيد ان لاعتبار الجريمة يجب ان تكون هذه الصفة متوفرة في الجاني قبل اقدامه على الفعل والاّ عدّ الفعل جريمة اخرى في حالة انتفائها قبل الفعل او اكتسابها بعد الفعل. اما الركن المعنوي، وقد اختلفت التشريعات في الركن المعنوي لجريمة اختلاس المال العام، اذ يرى البعض ان الجريمة تتطلب قصدا جنائيا عاما لقيامها أي يكفي ان يتوفر لدى الجاني عنصري العلم و الارادة لاعتبار الركن مكتملا. اما البعض الاخر فيرى ان القصد الجنائي الخاص هو الواجب توفره لقيام الجريمة، بمعنى ان عنصري العلم و الارادة لا يكفيان لوحدهما بل يجب توافر نية تملك المال او الحصول على منفعة او ربح جراء القيام ببعض الافعال المكونة للجريمة. وفي رأينا ان القصد العام يكفي، أي علم الموظف بأن ما يقوم به منافيا لوظيفته وتعديا على نصوص القانون وان ارادته غير المشوبة بأي تأثير متجهة الى ارتكاب الفعل يكفي لترتيب مسؤوليته عن الجريمة. اما محل الجريمة، وهو المال العام، فيجب التنويه الى انه لكي تكتمل اركان الجريمة يجب ان يكون محلها مالا عاما. من المقرر أنه يشترط فى الضرر كركن لازم لقيام جريمة الإضرار العمدي المنصوص عليها في قانون العقوبات أن يكون محققاً، أي حالاً ومؤكداً لأن الجريمة لا تقوم على إحتمال تحقق أحد أركانها. والضرر الحال هو الضرر الحقيقى سواء كان حاضراً أو مستقلاً، والضرر المؤكد هو الثابت على وجه اليقين. يتعين أن يعلم الجاني وقت ارتكاب الفعل بكل الأركان والعناصر اللازمة لقيام الجريمة، ولذلك يجب أن يعلم الجاني أن المال مملوك لغيره. فإذا كان الجاني يجهل ذلك أو يعتقد خلافه اواعتقد أنه قد تصرف فى مال مملوك له فإن القصد لا يعد متوافراً لديه. الاختلاس هو كل فعل من شأنه التعبير عن إرادة الأمين فى تغيير الحيازة من ناقصة إلى كاملة.    
وقد عرّف المال العام بأنه “كل مال مملوك للدولة بأي صفة كانت الملكية ملكية عامة تمارس عليه الدولة سلطاتها بصفتها صاحبة السلطة العامة او تمتلكه ملكية خاصة ويخضع لقواعد القانون الخاص”. كما عرّفه البعض بشكل مبسط بأنه “جميع الأموال التي تعود للسلطة العامة”. المال العام هو عصب حياة المصالح العليا للبلاد، وعليه تتوقف الخدمات الأساسية والحيوية للمجتمع والمواطنين عامة، وكل هدر فيه هو بالتالي تقويض لركائز الأمن الوطني بكل مدلولاته، وانهيار لكل بنى المجتمع، وتعطيل كل قدرات وطاقات البنى الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والثقافية، واغتيال مادي ومعنوي للبنة أساسية من لبنات مشاريع خلق الثروات بكل أشكالها. وهو ما يطرح بصدده عدة أسئلة بدرجة أهميته القصوى في حياة الوطن والمجتمع والدولة، حول كيفية تحصيله وطرق صرفه، وبأية أشكال وصور يتم توزيعه وفق سلم الأولويات والمشاريع المزمع تنفيذها والعمل عليها، وغير ذلك من المتطلبات الأساسية والثانوية والعرضية، مع مصاحبتها لآليات المراقبة. بالطبع، في الدول الديمقراطية الحديثة استوفت مؤسسة المال العام كل شروط منظومتها، وحيثيات وجودها في إطار خدمة المصالح العليا لبلدانها. أما في الدول الغير ديمقراطية، والمتعثرة الخطوات نحو تحقيقها، لازال الغموض واللبس يكتنفها في كل مساراتها، ولم تطرح بعد الأسئلة حولها بالشكل المطلوب من بدايتها إلى نهايتها، بحكم جهل مواطنيها وجماهيرها بمعرفة مفهوم المال العام ومؤسساته. وهو ما يجعل كل الثروات الوطنية ذات الطابع العمومي “ثروات سائبة” في يد من يتربعون على كراسي الحكم ومؤسساته العمومية، وحكرا في يد المسؤولين، ووسيلة للاغتناء والإثراء من دون وجه حق ولا شرع. وهكذا في غياب الوعي الجماهيري بالثروات العمومية المتحصل عليها من خلال الضرائب ومؤسسات الإنتاج، تبقى الفرص سانحة للمسؤولين والقيمين عليها للتصرف فيها كيف يشاءون، وكأنها أملاك شخصية وليست عمومية والأكل من موائدها ما لذ وطاب منها كما يحلو لهم، وفق أهوائهم ونزواتهم الخاصة. إن الفساد وإهدار المال العام أو الاعتداء عليه يشمل أموراً وجوانب عديدة بداية من الموظف غير الملتزم والمعطّل لمعاملات المراجعين، إلى احتكار الشركات والوكالات للبضائع وقطع الغيار، إلى التلاعب بالأسعار أو الاعتداء على أرصفة المشاة التي رصدت لها الدولة ميزانيات ويتم تدميرها، أو الاعتداء على أراضي الدولة وضمها، أو العبث بالبيئة أو رصف وإعادة حفر الشوارع أو هبوطها بعد فترة قصيرة أو عدم الإنجاز في الوقت المحدد وخلق الأعذار والتغاضي عن المخالفات والغرامات، أو استخدام مواد مخالفة للمواصفات وقبولها من المشرفين، أو المدرّس في مدرسته وعدم الإخلاص، أو الطالب الذي يعبث ويشوه مدرسته، أو عدم احترام قوانين الطريق والمرور والغلو في استخدام الماء والكهرباء وعدم العناية بالنظافة ورمي المخلفات في الشوارع وتشويه المنظر العام وتخريب المرافق العامة وغيرها الكثير الذي يمكن أن يأتي تحت بند إهدار المال العام. “
تقتضي المصلحة الاجتماعية بالضرورة الكشف عن أية جريمة أو مخالفة إدارية تكون قد وقعت ومحاكمة مرتكبها. ولا شك في أن الفرد الذي يبلغ عما علم به من جرائم ومخالفات إدارية إنما يساعد السلطات المختصة في الكشف عن تلك الجرائم والمخالفات، والقبض على مرتكبيها ومحاكمتهم، ومن ثم فهو يؤدي خدمة للمجتمع. وقد رأى المشرع ترجيح مصلحة المجتمع في اكتشاف الجرائم والمخالفات الإدارية، على مصلحة الفرد المبلغ ضده في حماية شرفه واعتباره. وأن يقدم البلاغ لأحد الحكام القضائيين أو الإداريين. ومعنى هذا الشرط أنه يجب أن يحصل التبليغ أمام السلطات المختصة بتلقي البلاغات عن الجرائم والمخالفات الإدارية، فإذا كان البلاغ يتضمن جريمة، ينبغي أن يقدم إلى النيابة العامة أو إلى أحد مأموري الضبط القضائي. وإن كان ينطوي على مخالفة إدارية يتعين أن يقدم إلى المصلحة أو الجهة الإدارية المختصة. وإذا كان موضوع البلاغ يشكل جريمة جنائية وإدارية في وقت واحد، يجوز تقديم البلاغ إلى أي من الجهات المختصة.              
اخيرا لا بد من الاشارة الى ان التشريعات قد اولت حماية جزائية متشددة للمال العام وافردت للجرائم الواقعة عليه عقوبات متناسبة مع خطورة الاضرار بالمال العام. وقد اختلفت التشريعات في عقوباتها على جرائم المال العام، الا ان العنصر المشترك بينها هو التشديد فيها. رغم تطبيق العقوبات والتدابير فاننا نجد الجريمة لاتزال موجودة بل تزداد كثرة، وخاصة جريمة نهب وهدر المال العام والاعتداء عليه. ومعنى ذلك ان اسباب الجريمة موجودة وان العقاب ليس شديدا وليس فعالا، وان الاجهزة الرقابية لا تقوم بدورها على اكمل وجه، وان السلطة القضائية يجب ان تفعل عملها في مجال قمع جريمة نهب وهدر المال العام. وإذا كانت الوقاية خير من العلاج فلابد من الضبط والرقابة والحماية الكاملة وتحصين المال العام ضد جميع تلك التعديات والمخالفات من خلال حُسن الاختيار والتحري عن أولئك الذين يشغلون الوظائف الرئيسية والتي تقع تحت إمرتهم القرارات والصلاحيات، مع المراقبة الدائمة للوظائف الأخرى من الناحية السلوكية والمالية والتأكد من ذمتهم المالية بعدم الثراء على حساب الوظيفة والرقابة المالية والإدارية، والكشف عن الفجوات والعيوب التي يمكن أن تعرقل العمل، أو تلك التي يمكن للبعض استغلالها بالالتفاف حولها، مع وضع أنظمة صارمة للكشف عن أية مخالفات تقع وحظر ممارسة المسؤولين عن التجارة أو إنشاء شركات بأسماء مقربين والكشف عن ذممهم المالية، وتوفير آلية للإبلاغ عن الفساد والمفسدين والاختلاس والمختلسين، مع وجود قنوات اتصال وخطوط ساخنة سرية لاستقبال أية مخالفات في المال العام من جرائم الرشوة والاختلاس وغيرها، وحماية المبلّغين عن تلك المخالفات، وتشديد الرقابة والعقوبات على مرتكبي جرائم الاعتداء على المال العام بالتنسيق والتعاون مع هيئة الرقابة الإدارية والشفافية، التي هي السد المنيع لحماية المال العام في الكشف عن الفساد الإداري والمالي، والقضاء على الواسطة والمحاباة في التعيّنات الوظيفية التي يجب أن تأتي حسب المؤهل والكفاءة والمساواة في منح الفرص للجميع.               
ان المعاملة العقابية في السجون واثناء تنفيذ العقوبة بالمجرم ليست جدية تماما، حيث نسمع بأن أحد السجناء يدخل ويخرج ويستقبل النساء ويشتري الاغنياء والاثرياء، ولسارقي المال العام امتيازات داخل السجون ويبيعون المخدرات ويشربون الكحول وغير ذلك من القصص التي نسمعها والتي نتمنى ان تكون كاذبة وغير صحيحة وغير دقيقة، لأن من يسمع بذلك لا يخاف من السجن ولا يخاف من العقاب ويتشجع لنهب وسرقة المال العام والخاص وارتكاب الجرائم، وبالتالي تفقد العقوبة هدفها وهو الردع العام والردع الخاص. وما نرجوه ان تكون العقوبات قاسية بحق سارقي المال العام وان نعيد كل المال المسروق الى الدولة والى الخزينة والى اصحابه الشرعيين والحقيقيين وهم المواطنون.