19 ديسمبر، 2024 1:15 ص

الاختصاص العام والاختصاص الدقيق في جامعاتنا

الاختصاص العام والاختصاص الدقيق في جامعاتنا

تحدّثت مرة مع بروفيسور روسي في كليّة الاداب بجامعة موسكو حول موضوعة الف ليلة وليلة في الادب الروسي وترجماتها الى الروسية وتفاعلاتها وتأثيرها وردود فعل الادباء و القراء الروس تجاهها …الخ , وهو متخصص في الادب الروسي في القرن الثامن عشر, وقد أجابني بشكل تفصيلي عن كل أسئلتي العديدة عندها وبكل رحابة صدر , وعندما سألته كيف تعامل المترجمون الروس مع الشعر العربي الموجود في الف ليلة وليلة , قال لي من الافضل ان تطرح هذا السؤال على البروفيسور فلان لأن اختصاصه الدقيق هو الشعر الروسي في القرن الثامن عشر , أمّا هو فان اختصاصه الدقيق هو النثر ( السرد) الروسي في القرن الثامن عشر , ولازلت لحد الان أتذّكر جملته التي قالها لي – ( من المؤكد انه سيعطيك جوابا اكثر دقّة وموضوعيّة وشموليّة منّي).
تذكرت هذه الحادثة (التي جرت قبل اكثر من خمسين سنة تقريبا ) عندما اطلعت قبل أيام على جداول الدروس , وعلى قوائم التدريسّيين الذين يقومون بتدريسها في عدة أقسام علمية بكليّة اللغات في جامعة بغداد (وهي الكليّة التي عملت فيها اكثر من ثلاثين سنة من حياتي , وتدرجت علميا فيها وصولا الى درجة الاستاذية) , فوجدت هناك خللا و تراجعا الى الوراء مقارنة مع الوضع الذي كان سائدا فيها بالنصف الثاني من القرن العشرين, وتذكرت كيف كنّا نلتزم وبشكل صارم بهذه التقاليد العلمية العريقة والثابتة في قسم اللغة الروسية مثلا ونحترمها ونخضع لها بمحض ارادتنا , ولهذا أصابني الاحباط – ان صحّ التعبير – عندما قرأت , ان تدريسيّا متخصصا بالادب الروسي يقوم بتدريس مادة تتعلق بعلم اللغة الروسية او بالعكس , اي انه تمّ خرق تلك التقاليد العلمية الثابتة التي تستند الى مفهوم الاختصاص العام والاختصاص الدقيق ( وهو المبدأ العلمي السائد في كل جامعات العالم المتقدّم طبعا ) , والذي يحدد بالتالي اناطة مسؤولية التدريس للمدرسين في الجامعات حسب اختصاصهم الدقيق بشكل صارم . ان هذا المفهوم العلمي السليم كان يتم خرقه في قسم اللغة العربية بجامعة بغداد عمدا , وذلك عندما كانوا يرسلون الى اقسام علمية اخرى مدرسي اللغة العربية لتدريس مادة اللغة العربية العامة في تلك الاقسام , اي لتدريس مادة اللغة العربية لغير المختصين بها , ونجد عند استفسارنا من هؤلاء التدريسيين عن مواضيع اطاريحهم , بان اختصاصهم الدقيق هو الادب العربي وليس اللغة العربية , وكنّا غالبا ما نثير معهم في اقسامنا هذا الجانب العلمي الدقيق , فيخبروننا بانهم من (المغضوب عليهم!!!) في قسم اللغة العربية , ولهذا كانوا يبعدونهم عن القسم كي لا يقوموا بتدريس المواد المرتبطة باختصاصهم الدقيق في قسمهم . ومع ذلك , فمن الممكن التساهل بشكل او بآخر بالنسبة لمدرسي اللغة العربية , اذ كان يجري تدريس تلك المادة في اقسام غير الاختصاص حسب كتاب منهجي محدد ومطبوع ومتوفر عند كل الطلبة , لهذا , كان مدرس المادة لا يخرج بتاتاعن اطار الكتاب المنهجي هذا , ولا يحتاج الى الاجتهاد والتوسع , خصوصا ان تلك الكتب المنهجية كانت تتناول مواضيع لغوية تقليدية ومتكررة في كتب قواعد العربية العامة في المدارس , ومع ذلك , فان هذا العمل يعدّ خرقا لمفاهيم العلم ومتطلباته , ولكن الحالة تختلف تماما في اقسام اللغات الاوربية , فتدريس الادب الروسي مثلا من قبل متخصص باللغة الروسية وخصوصا في الصفوف الثالثة والرابعة مسألة مرفوضة تماما من الناحية العلمية , لأن هذا التدريسي لا يستطيع التوسع في محاضرته امام الطلبة , ولا يمكن له حتى ان يشرح المادة العلمية تلك كما يجب , خصوصا وانه لا يوجد كتاب منهجي محدد في تلك المواد , وان مسيرة الدرس تعتمد بالاساس على محاضرة الاستاذ قبل كل شئ .
ختاما لهذه الملاحظات السريعة عن الاختصاص العام والاختصاص الدقيق وعلاقتهما المتبادلة والمتشابكة واهمية ذلك في مسيرة حياة الانسان , اود ان احكي للقارئ هذه الحكاية –
طلب منّي أحد أقاربي مرة ان ارافقه في موعد له مع طبيب متخصص في احدى العيادات الاستشارية , وقال لي هذا القريب , انه يرجوني ان استمع الى ملاحظات الطبيب وارشاداته لانه دائما ما ينسى او لا يستوعب كل مايقولونه الاطباء له , وذهبت معه طبعا , وبعد ان اطلع الطبيب على وثائق المريض وفحصه سألني– لماذا أتيت بمريضك الى عيادتي؟ فقلت له الحقيقة , فقال – ان الطبيب المختص بمرض اقاربك يحمل نفس لقبي , وقد توهم مريضكم وحجز موعدا عندي , لهذا ساحوّلكم الى ذلك الطبيب لان اختصاصه الدقيق هو الذي يؤهّله لفحص مريضكم وعلاجه , أما أنا فان اختصاصي الدقيق لا يؤهّلني لذلك , وقد شكرت الطبيب في حينه على هذا الموقف العلمي السليم , وخرجنا من عيادته ممتنين له.
كل العلوم تنطلق من قاعدة الاختصاص العام والاختصاص الدقيق , بما فيها طبعا العلوم الانسانية , ايها الزملاء الاعزاء !