22 نوفمبر، 2024 11:11 م
Search
Close this search box.

الاحساس بنبض الإيناس بلآلي الجناس

الاحساس بنبض الإيناس بلآلي الجناس

لا تختلف مفردات اللغة من حيث المشابهة والمشاكلة عن مفردات سفرة الطعام، ولكن الاختلاف يقع في التذوق والقدرة على التنوع وتطويع المفردة اللغوية ومثلها الغذائية في أطباق شهية، كلنا يمر على مفردات اللغة قراءة أو سماعاً أو مشاهدة، وكلنا يمر على السوق والبقال والمزارع، ولكن قلة قليلة من المارة من له القدرة على تحويل المفردة اللغوية الى ابداع لغوي، والمفردة الغذائية الى طبق شهي، وشتان بين الطبقين، فالأول ينادي هل من مزيد، والثاني يدق ترهل الجسد خطر الإنذار لصاحبه، وتقريب المعنى يدعونا الى ضرب الأمثال، والأمثال تضرب ولا تُقاس.

وعلى مائدة اللغة ومحسناتها وبدائعها يبرز طبق الجناس، الذي يترك أثراً محموداً طرباً عند السماع أكثر منه عند القراءة، ليس أقل هذا ما أشعر به وأحسه، حيث يصدق هنا بعض قول الشاعر العراقي بشار بن برد العُقيلي (96- 168هـ):

يا قوم إذني لبعض الحي عاشقة … والأذن تعشق قبل العين أحيانا

أقول “بعض” لأن سماع الجناس كله طرب واحساس لمن يدرك معنى الجناس، في الشعر العربي القريض منه والدارج، وفيه يصدق قول الشاعر العراقي المعاصر المقيم في مالمو (السويد) الأديب فائق الربيعي المولود عام 1958م:

وعذرا قوافي الشعر، والشعر كلّه … هبابٌ، إذا لم يُعطِ من نفسه الشعرُ

وأظن أن الجناس القائم على الإحساس هو من القوافي التي تعطي من نفسها الشيء الكثير لتطرب النفس قبل الأذن إن سمعت، والروح قبل البصر إن قرأت، ويأتي المحقق والأديب الدكتور محمد صادق الكرباسي ليدغدغ مشاعرنا وأحاسيسنا بديوانه الجديد “الإيناس بلآلي الجناس” الصادر في بيروت حديثا (2014م) عن بيت العلم للنابهين في 166 صفحة من القطع الوزيري، وقدّم له وعلّق عليه الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز مختار شَبِّين، وضمّ خمسين قصيدة جناسية توزعت على جميع حروف اللغة العربية الثمانية والعشرين من الهمزة إلى الياء.

غناء اللغة

لا توجد لغة على وجه الأرض أغنى من اللغة العربية من حيث المفردات الأصيلة ومولداتها، ليس هذا ادعاءً فضفاضا ولكن قواميس اللغة ومعاجمها هي الحاكية عن هذه الحقيقة والدالة عليها، وزاد من غنائها شعاع بلاغتها ونور بدائعها ومحسناتها اللفظية التي تكاد تتميز بها اللغة العربية التي حفظها الإسلام وزاد من رونقها وله كل الفضل عليها، بل كان ولازال عامل توحيد للعرب والمسلمين، ولهذا تداعى على الأمة الإسلامية الأعداء والجهلة لتمزيقها عبر تضعيف هذه اللغة ومحاولات البعض تقديم اللهجات المحلية أو احياء الموات منها ليس رغبة في التراث وإنما في فصل الأمة عن مصدر قوتها، ولهذا يرى الأديب الكرباسي: (إنّ الأمة العربية والإسلامية جسد واحد وإن تقطعت أوصالها من قبل أعداء المسلمين بالاحتلالات وبمحاولات تغيير اللغة ودعم اللهجات المحلية للابتعاد عن لغة القرآن التي قوّمت اللغة العربية وجعلتها حيّة إلى يومنا هذا، فلولا القرآن لم تبق للعرب والعربية قائمة، فعلى العرب أن يدركوا أهميّة القرآن، وعلى المسلمين أن يسعوا الى تعلم لغة القرآن من أي قومية كانوا لا على حساب لغاتهم الأم ولكن حرصا على العقيدة والحضارة وبالتالي ففي هذا مقاومة للعدو والغازي لأرضنا وعقيدتنا وفكرنا).

والجناس الذي هو في أبسط تعريف له: اتحاد الكلمتين في رسم الحرف واختلافهما في المعنى، يمثل واحداً من البدائع اللغوية الثرية في اللغة العربية، مثل قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) سورة الروم: 55، فالساعة الأولى هي القيامة والثانية هي الساعة الزمنية، وهو من الجناس المماثل، وإذا تم استخدامه في الشعر، يخرج البيت في أبهى صوره، أما إذا تشكلت قافية القصيدة كلها من الجناس المحبب الى الذائقة السمعية والبصرية والنفسية، فذلك لعمري الإبداع بعينه، لأن الشاعر تمكن حينئذ من صياغة محكمة لقصيدته عبر تشكيلها من الجناس من أول البيت إلى آخره، فيكون لكل بيت معناه الخاص وبالتقاء الأبيات يبرز المعنى العام لمراد الشاعر من القصيدة، وهو أشبه بحي سكني من مجموعة بيوت ذات طراز واحد تسكن فيه عوائل مختلفة، بمجموعها تعطي للحي رونقاً وللحياة ألفة وسكينة وتعكس نبض سكانه، وبتعبير الدكتور عبد العزيز شبين في تقديمه على الديوان: (وما الشعر إلا التقاط لنبض الحياة عبر الحواس، يترجمه الخيال تشكيلا، وترسمه اللغة كتابة، وبالتقاء اليواقيت والدرر في نثر البيان ومنظومه تتجلى شخصية الكتاب أو الكاتب أو الشاعر في أسلوبه، ولذلك قيل: روح صاحب الكتاب أو الديوان كامنة بين حروفه، يجسّدها المنهج، فكراً وبلاغة).

وفي نهر الإبداع، يجري زورق جناسات الكرباسي في “الجناس بلآلي الجناس” التي تجانست قوافيها مع تجانس خطوات الكرباسي اليومية من داره الى حيث محبرته في المركز الحسيني للدراسات وبالعكس، وهي حركة يومية ضمن نطاق أدب الطريق يستغلها في نظم الشعر في الأغراض المختلفة، وهذه ميزة

تحسب لهذا الديوان وصاحبه. وحسب تعبير الناشر في مقدمته: (وميزة هذا الديوان أنه من أدب الطريق، كما يحلو للشاعر الكرباسي أن يسمّيه، لأنه كان ينظم قصائده وهو متنقل بين بيته ومكتبه، ليقدم حجة للناس للاستفادة من الوقت المهدور، فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك)، نعم كان الكرباسي ولا يزال ينظم الشعر من حركة الطريق اليومية بين البيت والمركز حتى تكونت لديه أكثر من أربعة عشر ديواناً في آلاف الأبيات الشعرية المتنوعة المقاصد.

والجناس في واقعه دال على المجانسة والمؤالفة، ففي الأغلب الأعم لا تستسيغ الأسماع توارد الكلمات القريبة المخارج، ولكنها تطرب للكلمات التي من جنس واحد ومختلفة المعاني، لأنها تشعل لدى سامعها فتيل الفضول لمعرفة المعنى والمراد خاصة إذا جاء الجناس في المنظوم من الكلام. وكما هي اللغة العربية الممتدة بجذور مفرداتها في عمق الأدب العربي وتراثه، فإن الجناس في جانبه اللفظي له تنوعاته الكثيرة المتشعبة، صنفها أبو الفتح البستي المتوفى عام 401هـ في كتابه “جواهر البلاغة” على النحو التالي: المماثل، المطلق، المستوفي، المشابه، المركّب، المفروق، المشتق، المختلف، المضارع، المطرّف، المذيّل، اللاحق، المكتنف، المحرَّف، المصحّف، المقلق، الملفّق، القلب الناقص، القلب التام، والمستوي. وكلها من الجناس اللفظي غير التام، حيث يختلف ركنا الجناس في نوع الحروف وعددها وهيئة حركتها وترتيبها في مقابل الجناس اللفظي التام المتفق فيها اللفظان المتجانسان في الأمور الأربعة، وعموم الجناس اللفظي في مقابل الجناس المعنوي وهو على قسمين: جناس الإضمار وجناس الإشارة.

فمن أمثلة الجناس اللفظي غير التام المركّب قول الشاعر إسماعيل صبري الباشا المتوفى عام 1341ه من بحر الوافر:

طرقتُ البابَ حتى كلَّ متني … فلمّا كلَّ متني كلّمتني

فقالت: أيا إسماعيلَ صبري … فقلتُ لها: أيا أسما عِيلَ صبري

فكلّ متني الأولى والثانية من تعب المتن واعيائه لكثرة طرق الباب والثالث من التكلم والحديث، واسماعيل صبري الأول هو اسم الرجل والشاعر والثاني مركب من “أسماء” اسم المعشوقة و”عيل” التعب والإرهاق، و”صبري” من الصبر.

الجناس الخمسون

وبشكل عام فإن الجناس وأمثاله من فنون الأدب هو جزء من الإبداع يظهر قدرة الناثر او الناظم على استخدام المفردة الواحدة في اتجاهات مختلفة، وبتعبير الأديب الكرباسي: (أما استخدام مثل هذه المجازات والاستعارات من قبل الأدباء فهو أمر مطلوب لأن من قوة الشاعر وإبداعه أن يتمكن من التلاعب بالألفاظ وبالاستخدامات)، وتاريخ نشأته قديم، فالأديب الناظم أو الناثر باللغة العربية حرص على التميّز من أجل أن يكون علماً بين قومه، وربما أرجع البعض نشأة الجناس الى العصر الجاهلي، وقد رصد

المؤلف استخدام امرئ القيس المتوفى عام 80 قبل الهجرة استخدام المشترك اللفظي في القافية في إحدى قصائده، من الطويل، يقول فيها:

ألا أنعم صباحاً أيها الطلل البالي … وهل ينعمن مَن كان في الزمن الخالي

ديار لسلمى عافياتٌ بذي خالِ … ألحّ عليها كلُّ أسحَمَ هطّالِ

كُذبت لقد أصبى على المرء عِرسُهُ … وأمنعُ عرسي أن يزَنَّ بها الخالي

ثم ينتهي الشاعر في الأبيات التي بعدها بمفردة الخال المتنوعة المعاني، وأما الخال الأولى في الأبيات الثلاثة إشارة الى من خلا ومضى، والثاني اسم موضع والثالث الغريب والمتوهّم.

وأما الجناس الذي تكون فيه القصيدة ذات مفردة واحدة من أول القصيدة الى آخرها، متجانسة اللفظ مختلفة المعنى، فإن ما توصّل إليه المؤلف أنه: (بدأ في عهد هارون العباسي “170- 193هـ” في بغداد ولكنه تطور فيما بعد حتى ظهر بحلته هذه في القرن الحادي عشر الهجري، ونظن أن ابن معتوق “1025- 1087هـ” هو من الأوائل الذين استخدموا الجناس بشكله المتواضع المقتصر على البيت والبيتين).

والجديد في هذا المضمار أن الأديب الكرباسي الذي يسعى الى التجديد في كل حقل من حقول المعرفة، غاص في بحر الجناس واستخرج 49 حبة لؤلؤ ضمت كل لؤلؤة قصيدة من عشرة أبيات أو أكثر توج مسبحتها بشاهود من خمسين بيتاً جلست على أريكة كل بيت قافية من قوافي اللآلي التسع والأربعين.

وجاءت القصائد الجناسية حسب الحروف الهجائية، على أن بعض الحروف نظم فيه الأديب الكرباسي أكثير من قصيدة، وهي حسب عناوينها وحروفها: “النشءُ”، “الفتى السكب”، “الصليب”، “الحاجب”، “الغربة والغرب”، “حب أهل البيت”، “الجث”، “الهمجُ”، “ولد المصطفى الوضحُ”، الذِّيخُ”، “الندى يا ندى”، الوردُ المورد”، “عليٌّ يدُ”، “النجدِ”، “العمودِ”، “العهدِ”، “الخنذيذ”، “السرُّ”، “النشر للنشر”، “أنا والغمر”، العصفورِ”، “مرمرْ”، “الوتيرة”، “عجوز في عجوز”، “الحلسُ”، “ربُّ العرشِ”، “البوص”، “العَرْض”، “السَّمْطُ”، “الجُواظ”، “الريع”، “الوَتَغْ”، “معاني العُرف”، “هو الحقُّ”، “الخيفقِ”، “الرَّوْقِ”، “الطبق”، “العَتْكِ”، “أهلاً”، “الخال”، “الهلال”، “الهوجل”، “العَلجَم”، “الركنُ”، “العينِ”، “الدينُ”، “الوجه”، السهوة”، و”الوحيُ، وأخيراً قصيدة “ختام الجناس” التي حملت الرقم (50)، وهي سنام الابداع في هذا النمط من الجناس، فهي من بحر الرجز المسدس ومطلعها:

جنِّسْ جنيساً بالجناسٍ الأجنَسِ … مجنوُسُكُمْ جِنسُ الجِناسِ المُجنَسِ

فمفردة “جنِّسْ” أي وحِّدْ، والجنيس: الأصيل، الأجنس: الأكثر تجانساً، المجنوس: اللفظ الذي وقع عليه الجناس. الجنسُ: ماهية الشيء ومادته، الجناس: التآلف، المُجْنَس: المتآنس. ومعنى البيت:

وحّد أصيلاً بالأفضل تآلفاً … عملكم بتوحيد الأشياء هو نوع من التآنس.

ومن الإبداع في جناس الكرباسي أنه أدخل اسم المعلق والمقدم في إحدى الجناسات كجزء من التوثيق، مخاطباً اياه من بحر المسدس المديد المقطوع وهو من مولدات الكرباسي في القصيدة الخامسة والثلاثين بعنوان “الخيفق”، ومطلعها:

أفصح يا صاحبي عن معنى الخيفقِ … خذ يا شبِّينُ منِّي هذا خَيْ فَقِ

وفي آخرها:

زَمْزمْ عبد العزيز الهادي من جنا … سٍ فيكمْ قد بَدا ضرباً من خيْفَقِ

ولأنّ الخطاب موجه الى المعلق والمقدم الدكتور شَبِّين، فإن جوابه أتى عبر شرح للكلمات فكتب عن الخيفق الأولى كمفردة لغوية قامت عليها قافية القصيدة في أحد عشر بيتاً، والثانية مركبة من “خي+ فقِ” فالأولى أمر من وخى يخي بمعنى تحرّى وتوجّه، والثاني أمر من وقى يقي بمعنى احفظ والفاء حرف عطف (أو من خي مخفف الأخ). وخيفق الثالث في آخر القصيدة بمعنى السريع.

في الواقع، إن ما جاء به الأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي في هذا الديوان، قد لا يكون جديداً من حيث الجناس نفسه، ولكن أن تكون أبيات القصائد الخمسين كلها جناس فهو الجديد، وكما يؤكد الشاعر الدكتور عبد العزيز شَبِّين: (إن ديوان الجناس هذا يُعتبر فتحاً أدبياً وشعريا لم تَجُد به قرائح الشعراء منذ فجر التأليف الى يوم كتابة هذه السطور، ويُعدُّ رائعة لا نظير لها .. إن الشاعر الكرباسي بعمله المتفرّد قد وضع بصمات فارقة في سجل الشعر العربي .. ويُظهر الديوان من حيثُ معجمه تمكُّن صاحبه من اللغة وتبحّره فيها، كاشفاً بذلك عن إحكامه لأهم أدوات العملية الإبداعية في صناعة الشعر .. وبقصائده في الجناس يخطو صاحب الإيناس على درب الإبداع الشعري شامخاً بعمل يبقى وحيداً لا مثيل له في موضوعه وبابه).

أحدث المقالات