23 ديسمبر، 2024 3:26 ص

الاحزاب العراقية وقادَتها وثقافة ما ننطيها

الاحزاب العراقية وقادَتها وثقافة ما ننطيها

بَعد إنتهاء أزمة الولاية الثالثة لنوري المالكي بإختيار رفيقه في الحِزب حيدر العبادي، تبَيّن لنا بأن إشكالية التشَبّث بالسُلطة لدى النُخب السياسية العراقية حِزبية أكثر مِنها فردية. ففي حين نجَحت الضغوط الداخلية والخارجية بمَنع المالكي مِن البقاء بالسُلطة لولاية ثالثة، فانها عَجَزت عَن ازاحَة حِزبه عَنها، وهو ما شَكل لأشهُر عامِل قوة للمالكي وعامِل ضُعف لمُعارضيه حَتى مِن داخل التحالف الوطني. فالدَعوة كان يَرفض التخَلي عَن السُلطة، ولم يَكن يُقدّم مُرَشّحاً غير المالكي، والذي إستفاد مِن هذا الأمر بإصراره على البقاء لولاية ثالثة، لحين ظهور جَناح داخل الحزب نفسه قرّر التضحية به لصالح الإحتفاظ  السُلطة، كما فعل قبل 8 سَنوات مَع الجَعفري، فحينها رَفَضَ الجَعفري التنحي لذا تمّت التضحية به وجِيء بالمالكي، واليوم رَفضَ المالكي التنحي فتمّت التضحية به وجِيء بالعبادي، الذي يجب أن يَخرُج مِن عَباءة الدَعوة المُترَهِّلة المُثقلة بغُبار إشكالات الماضي وإنتِكاسات الحاضِر، وأن يَستند على مَدنيّته أكثر مِن طائفيّته، وأن يُراهن على عِراقِيّته أكثر مِن دَعوَجيّته، وأن يُوَدّع شركة الدعوة البائسة التي أستثمَر فيها حَتى الآن ما فيه الكفاية ليَستثمِر في العراق، هذا إن أراد أن يُكتَب له النجاح وأن يَذكره التاريخ بخَير.

تكمُن مُشكلة الأحزاب العراقية في أنها بغالبيّتها ليست أصيلة، بمَعنى أنها لم تتشَكل بنائاً لحاجة المُجتمَع، وإنما تأثراً بآيديولوجيا أحزاب وحَركات سياسية عالمية وتقليداً لها، وقد سَعَت للوصول الى السُلطة لتطبّق هذه الآيديولوجيات على المُجتمَع العراقي ولتقولبه ليَتلائم مَعها، فالحِزب الشيوعي تشَكل تأثراً بالحَركة الإشتراكية واليَسارية العالمية، وحِزب البَعث تشَكل تاثراً بالفكر الناصري الذي تأثر بدَوره بالفِكر القومي البسماركي، وحِزب الدَعوة تشَكل تأثراً بحَركة الأخوان والثورة الإيرانية، وبالتالي هي لا تملك إرثاً فكرياً واقعياً ومُؤسّساتياً، وإنما مُستوردة لأفكار وآليات عَمل جاهِزة، وليسَ لها مِن تسمية حِزب سِوى الشِعارات التي فشلت بتحقيقها لأنها ليسَت إبنة ظروفها الجغرافية وبيئتها المُجتمَعية. أما غالبية أعضائها فيَنضَمّون أليها ويتحَرّكون ضِمن أطُرها ويُنظرون بأفكارها ليسَ عَن وَعي وقناعة بواقعية طروحاتِها، بَل إما لأنّها مودة وواقع وتيار كان مَوجوداً على الساحة فسَبحَت مَعه، أو لأن شِعاراتها دَغدغت عُقد النقص المُجتمَعية والمَناطقية والطائفية لدَيهم، وهي عُقَد أثّرَت فيما بَعد على الكثير مِن هذه الأحزاب وحَوّلتها مِن تنظيمات فكـرية وجَماهيرية الى تكتّلات طائفية وعَشائرية ومَناطقية، بل وأحيانا الى مافيات نفعية وحَتى إجرامية كما حَدَث مَع البَعث والدَعوة، وهي ظاهِرة مَرَضية يَبدو أنها تصيب الأحزاب العراقية حينما تصِل للسُلطة لأن أعضائها وقادَتها هم بغالبيتهم نِتاج نفس البيئات المَريضة المُعَقدة. بالنهاية يُصبح الحِفاظ على السُلطة وما يَرتبط بها من مَيّزات الشُغل الشاغِل والهَم الوَحيد لهذه الاحزاب وقادَتها، ويَنسون شِعاراتهم التي سبق ورَفعوها لجَماهيرهم التي انخدَعَت بها، لانهم في الحَقيقة لم يُأمِنوا بها وإنّما شُبّه لهُم، أو إستخدَموها سُلماً للوصول الى السُلطة والإستِمتاع بجاهِها وسُلطانِها وأموالها للتعويض عَن عَوامل النقص الاجتماعية التي تنخُر رؤوسِهم، ولتغذية فيروسات الحِقد والكره الطائفية التي تُعَشعِش في نفوسهم.

بالتالي مُجتمعنا ليسَ بحاجة الى أحزاب فكرية وتنظير سَفسطائي بقدر حاجَته الى رُموز سياسية مِن بيئته، واعية تفهم طباعه وحَريصة على مَصالحه لا أكثر، وكفى مُبالغة بالقول أن هذا المجتمع ممكن أن يَنهَض ليُصبح على شاكِلة المُجتمَعات الغربية بل وحتى العربية، فهو أمر صَعب المنال بَل مُستحيل على الأقل لنُصف قرن قادم، لأنه مُجتمع قبلي تنخره الطائفية، وجاهِل بقيَم وأسُس بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وهي ليسَت مِن أولوياته وإهتماماته أصلاً، لذا هو يَحتاج أولاً لإعادة التوازن والوَعي المَفقودان لدى أبنائه الذين لا يُفرقون بَين العلمانية ومُعاداة الدين، وبَين التدَيّن والتطَرّف، وبَين الليبرالية والإباحية، وبَين الحُرية والفوضى، وبَين الحُقوق والواجبات، وهذه المُهمة لن تنجَح فيها سوى رُموز سياسية لها ثقلها التأريخي وحُضورها الإجتماعي لدى شرائِحه ونِتاج بيئَتها وتعرف طبائع أهلها وحاجاتِهم ونقاط ضعفهم. ولتكن لنا أسوة حَسَنة في تجربة الإمارات العربية المُتحدة والزعامة الرائِدة للشيخ البَسيط والخالد الراحِل زايد، حينما نجَح هو وشيوخ آخرين أصَلاء مُخلصين بأن يَفهموا حاجات مُجتمَعهم، وأن يَستوعِبوا طِباع شرائِحه المُختلفة ويُوفروا لها الإستقرار والرَفاهية ويَنهضوا به في دولة باتت اليوم قبلة تهفو لها أنظار العالم. بالإضافة الى نموذج الرئيس التونسي الراحِل بورقيبة، والرئيس المصري الحالي السيسي اللذان نجَحا في إستقطاب مَحَبة ودَعِم مُجتمعاتهم لأنهم فهموا حاجاتها ومُتطلباتها وسَعوا لتلبيتها وتوفيرها، وهو الأمر الذي فشلت به أحزاب دولهم العقائدية بحَديثها وعَريقها. هذه وغيرها نماذج أثبَتت حَتى الآن فاعليّتها في مُجتمَعاتنا ذات الطبيعة الرَمزية، في مُقابل أحزاب تقودُها شِلَـل مُعقدين أو مَرضى أو حَرامية أو حتى مُجرمين تستبيح دِمائهم ثأراً لتأريخ مُلتبس وتسرق أموالهم لتملأ كروشَها وحِسابتها تعويضاً لجوع قديم، فلا حِزب البَعث الذي تحَوّل الى إقطاعية لآل المَجيد عَمّر العراق أو تكريت أو حَتى العوجة، ولا حِزب الدَعوة الذي تحَوّل الى إقطاعية لآل العَلي عَمّر العراق أو طويريج أو حَتى جَناجة!

حَتى في حِزب البَعث يَبدوا أن المُشكلة لم تكن في صدام والبكر بقدر كونها في الحِزب نفسه، فالبَكر تنَحّى وصدام حوكِم وأعدِم، ولكن حِزب البَعث هو الذي لم يقتنع بالهَزيمة حَتى الآن ولا يُريد الإقرار بها، ليسَ كما يَدّعي تمَسّكاً بالمَباديء وحِرصاً على مَصالح العراق وشَعبه التي كان أوّل المُفرطين بها، وإنما لهفة على السُلطة التي أفلتت مِن يَديه، لهذا إختصَر ما كان يَدّعيه تاريخاً مِن النضال في سبيل الوحدة والحُرية والاشتراكية والأمة العربية الواحِدة وإختزله في غزوة همجية بدائية على جارة آمِنة، وفي حَرب عِصابات بإسم المُقاومة تحت قيادة شَبَح كعزة الدوري، أو في تحالفات قذرة مَشبوهة مَع تنظيمات إرهابية كالقاعدة وداعِش!! كذلك الحال مَع حزب الدَعوة الذي إختصَر ما كان يَدّعيه تأريخاً جهادياً لبناء مُجتمَع إسلامي وإختزله في مُمارسات وجَرائم طائفية يُرَوّج لها أمثال حنان الفتلاوي، أو في صَفقات فساد وسُحت حَرام يُديرُها أمثال أحمد المالكي!!

يَبدوا بأن المالكي يوم قال بأنه لن يُعطيها لم يَكن يَقصِد نفسه بقدَر حِزبه، لهذا قال “هو يكدر واحد ياخذها حَتى (ننطيها)” وليس (أنطيها)، وهو كان يَقصد بالتأكيد حِزبه والمحيطين به، ويبدوا أن حِزب الدعوة لا يُريد إعطائها بالفِعل، وهو مَدعوم بهذا مِن جِهات عَديدة أولها المَرجعيّة التي دَعَت للتغيير ولكن مِن داخِل الدعوة في إصرار وتأكيد مُثير للإستِغراب مِن قبلها على إحتفاظ حِزب لطالما تمَسّح بعبائتها وأساء للتشَيّع الذي تمثله بالسُلطة دون غَيره مِن الأحزاب والتيارات الشيعية، وهو لغز قد لا نستطيع فك طلاسِمه الآن، لكنها بالتأكيد سَتكشف لنا إن عاجلاً أو آجلاً، سواء بتنحّي هذا الحزب عَن السُلطة بالعَقل والمَنطِق والعيني والأغاتي، أو بتنحّيته عَنها بالقوة وبنهاية كالتي إنتهى اليها سَلفه حِزب البَعث، ليَعود كما عادَ حِزب البَعث ثلة مِن المُلثمين يُطاردها الخزي والفشَل.