لنستعرض معاً تاريخ الأرض العراقية منذ نشوء فكرة النظام والحكومة، سنجد أن الاحتلال هو العلامة الأصلية، وان الاستقلال هو الهامش. لايبدو هذا الأمر للوهلة الأولى معقولاً، إلا أن التاريخ يفرض واقعه بكل قسوة. والملفت للنظر أن الاحتلالات العراقية من العيار الثقيل، ومن النادر أن يستمر أحدها لأقل من قرن من الزمان. واذا تفضل أحد الغزاة ورحل ـ طوعاً أو كرهاً ـ قبل انتهاء المدة المعهودة، فإن ذلك سيعقبه ـ مباشرة ـ احتلال غاشم جديد، لأن هذا ديدن الحياة في بلاد الرافدين.
باستثناء العهد الاسلامي، الذي لم ينجُ من خروق «احتلالية»، كالمماليك والبويهيين والسلاجقة، فإن ما تبقى من عمر الحضارة العراقية كان متفيئاً ظل الغزو. ولايمكن كتابة تاريخ العراق أو المرور به من دون رؤية وتحسس التدخل الخارجي، حتى وإن كان شقيقاً أو صديقاً. لكن الجدير بالذكر أن أغلب الغزوات الثقيلة كانت تأتي عابرة جبال طوروس وزاجروس، أما الاحتلالات العابرة للصحراء فقد كانت أكثر رحمة وألفة.
إلا أن التاريخ لايحدثنا عن الاحتلال العابر للقارات، فهذا النوع من الاحتلال مثله مثل العولمة لم يولد الا حديثاً، دشنه الانكليز قبل مئة عام، وقفله الأمريكان هذه الأيام برحيلهم عن ديارنا. ابرز ما ميّزه هو ذلك السقوط السريع لما يسمى بالنظام الوطني، الذي سرقه البعثيون قبل أن يكتمل.
الاحتلال الامريكي العابر للقارات يجمع أغراضه ويشد أحزمته بعد أن غيّر وجه المنطقة، وسيترك أشكالاً لا عهد لنا بها من المجسات الخفية التي تكرس وجوده واجنداته. سننعم ببعض الاستقلال، وسنلتفت قليلاً الى وجودنا في هذه المنطقة المترعة بالأزمات، لأن علينا تدارك ما فاتنا من الأحداث.
نعم، سيرحل الاحتلال الامريكي، وسيكون الاحتلال قبل الاخير، فأنا أعدكم أن احتلالاً آخر ستنعم به أرض الرافدين، قد يكون الضيوف المكروهون الجدد جيراناً، وقد يكونون أشقاءً، وربما سيأتون من مدن بعيدة، سمعت بنا ولم نسمع بها. ولكنه سيكون مغلفاً بمبررات جديدة وأشكال أكثر تطوراً.
لا أزعم أني «فتاح فال» ولا قارئ فنجان، لكني متأكد من أن الاحتلال الامريكي لن يكون الأخير. قد يطول بنا العمر لنرى المقبل من الاحتلالات، كما رأى كثيرون رحيل الانكليز وقدوم الأمريكان. وقد يطول العمر باستقلالنا حتى يلحق أبناؤنا أو أحفادنا بالإحتلال الموعود، وعندها: سيقاتلون، ويكتبون، وربما يبايعون!
الاحتلال القادم لن يكون الأخير بدوره، بل سيكون قبل الأخير ايضاً، فقدرنا أن نعيش في عهود الاستقلال التي يخلفها الاحتلال، فكل احتلال لن يكون الأخير..