19 ديسمبر، 2024 5:07 ص

الاحتـلال الأمريكي للعراق وأبعـاد الفيدرالية الكرديـة

الاحتـلال الأمريكي للعراق وأبعـاد الفيدرالية الكرديـة

لعـب الأكراد دوراً مؤثراً فـي تاريخ العراق السياسي الحديث ، إذ شـكلت مطالبهم القومية وحركاتهم المسلحة وارتباطاتهم الخارجيـة ، دافعاً وراء الإبقاء على أزمـة الهوية كأحد ابرز معالـم الواقع السياسي للعراق الحديث منـذ نشأته مطلع العشرينات من القرن المنصرم إلى اليـوم . وإذا كانت تطلعات الأكراد القومية ومـا رافقها من ممارسات صدامية قـد كشفت خللاً بيناً فـي الآليات الحكومية المنتهجة لصيـاغة المشروع الوطني العراقـي . فان التوظيف الخارجي للمسألة الكردية وما رافقها مـن دعم إقليمي ودولي مباشر للحركة الكردية المسلحة قد ساهم بدوره ولسنوات طويلة في عرقلة أي جهود حكومية مخلصة لرأب الصدع وضمان حقوق بعض الجماعات التـي ظلت تشعر بالتهميش والابتعاد عن مجرى الحياة السياسية العراقيـة .
وقـد أثار الاحتلال الأمريكي للعراق في نيسان /2003 ، ومـا رافقه من انهيار معالم الدولة العراقية تسـاؤلات مهمة حول مستقبل الوحدة الوطنية فـي العراق عموما والمسالة الكردية في العراق بشكل خاص فـي ظل الرعاية الأمريكية للأحزاب الكرديـة وطموحاتها المتعلقة بتحقيق الفيدرالية وضم مدينة كـركوك الغنية بالنفط وتشكيل حكومة وبرلمـان كردي مارس كل مظاهر السيادة والاستقلال عن الحومة المركزية العراقية ومـا أعقب ذلك من مشاريع سياسية واقتصاديـة ، كرست الواقع الكردي ، مثل قانون أدارة الدولـة المؤقت ، والدستـور الدائم ، وقانـون تشكيل الأقاليم ، ومن ثم الدستور الكردي وقانون الاستثمار فـي إقليم كردستان ، كمـا أثار تساؤلات أيضا حـول الضمانات التي من الممكن إن تحصل عليها القـوى السياسية العراقية الأخرى مـن عدم تحول الفيدرالية الكردية إلى مشروع سياسي قومي يهدد سلامة العراق ووحدة أراضية لاسيما فـي ظل استمرار الأحزاب الكردية فـي سياساتها لتكريس مظاهر السيادة فـي إقليمها بعيداً عن سلطة الحكومـة المركزية . ثـم تساؤلات حول الموقف الإقليمي من تصـاعد مكتسبات أكراد العراق علـى حساب تراجع حقوق الأكراد فـي الدول المجاورة . فهـل ستسلم تلك الدول بالأمـر الواقع أم أنها ستواصل معارضتها السياسيـة وضغوطها العسكرية على نحو يمنع انتقـال عدوى الوضع الكردي العراقي إلى أقاليمها الملتهبة بالعنف والتمـرد ؟ ثم السؤال الأهم حول حـدود التحالف الكردي الأمريكي ، فهـل سيفي الأمريكان بوعودهم للأحزاب الكردية في الفيدرالية والسلطة والثروة ؟ وهـل تدرك تلك الأحزاب أن لتحـالفات الولايات المتحدة اشتراطاتها وحدودها ؟ وهـل تدرك أن الإخفاقات التـي يواجهها المشروع الأمريكي فـي العراق قد ستنعكس بلا شك على حدود ذلك التحالف ؟ ألـم يع الأكراد دروس التاريخ وتجربتهم مع وزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجـر ؟
إن هـذه الدراسة عنيت بالإجابة على تلك التساؤلات وغيرها ، وهـي تهدف إلى تسليط الضوء على تـطورات المسألة الكردية فـي العراق ونجم عنها من بروز تحالف كـردي أمريكي سعى الأكراد إلى توظيفه لصالح تعزيـز مكاسبهم السياسية التي حصلوا عليهـا بعيد الاحتلال الأمريكي . وقـد انطلقت الدراسـة من فرضية مفادها أن الامتيازات التي حصل عليها الأكراد في الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية سترتب آثاراً واضحة على مستقبـل الوحدة الوطنية في العراق نظراً لارتباطها بتطلعات كردية ذات طابـع قوي متحفز ولإمكانية انعكاس مطلب الفيدراليـة على أقاليم عراقية أخرى فـي الجنوب والوسط والغـرب ترفع ذات المظالم التي استند إليها الأكراد مما يهيئ لتفكيك بنيـة الكيان العراقي المستندة إلى ارث سياسي شديد المركزيـة .
وفـي ظل سياسات الاحتلال الأمريكي لإعادة صياغة البنيـة السياسية والاجتماعية وفق نمط التفكيك والتقسيم الـذي يديم مصالحه في العراق وفـي ظل ضعف الشعور الموحد بالهوية الوطنية وسيادة الهويات التحتيـة ـ الطائفية والقومية العشائريـة ـ لمختلف شرائح الشعب العراقـي فان مفهوم الهوية الواحـدة يصبح مغيباً وقاصراً عن الحضور في الذهنية العراقيـة .
تـعد الفيدرالية ، إحدى الصيغ الدستورية والقانونية التـي يتم اللجوء إليها لتنظيـم وتوزيع الاختصـاصات والسلطات بين الحكومة المركزية والأقاليم المحلية فـي الدولة الواحدة . هـي أرخاء لقبضة الحكومة المركزيـة وتثبيت اللامركزية الإدارية والسياسية على نحو يسمح لأقاليم الدولة بالتمتع بقـدر كبير من الصلاحيات والسلطات في أدارة شؤونها الذاتيـة .
إن الفيـدرالية تعني المشاركة السياسية والاجتماعية في السلطة من خلال رابطة طوعية بين شعوب وأمـم وأقوام أو تكوينات بشريـة من أصول قومية وعرقيـة مختلفة أو لغات أو أديان أو ثقافات متباينـة ، وذلك في اتحاد طوعي يوحد بيـن عدة كيانات في دولة واحدة أو نظام سياسـي واحد مع احتفاظ الكيانات التـي توحدت بهويتها الخاصة من حيث التكوين الاجتماعي والحدود الجغرافية وصلاحياتها الإداريـة .
وتعـرف الفيدرالية أيضا بأنها نظـام سياسـي تتقاسم فيه الحكومة المركزية صلاحياتها الدستورية وواجباتها الإداريـة مع الأقاليـم المختلفة التي تُكَّون الدولة ، وبذلك فان الأقاليـم المختلفة تأخذ بعض مهمات وصلاحيات حكومة المركـز .
مـن هذا التعريف يتضح أن الفيدرالية فـي حد ذاتها وسيلة وليست غاية الغرض منها فـي الأصل تنظيم تقـاسم السلطات المركزية الإدارية والقانونيـة مع السلطات المحلية بهدف تحقيق التوازن في توزيع الحقوق والواجبات والمسؤوليـات .
يُعـد وجود روابط قومية ودينية واجتماعية بيـن سكان مناطق معينة تختلف إلى حد ما عن بقية مناطق البـلاد الأخرى ، احـد أهم الأسباب التي تدعو إلى الأخـذ بنظام الفيدرالية ، إضافـة إلى بعد السلطة المـركزية عن هذه المناطق وتعُقـد مشكلات الأخيرة وتعدد حاجاتهـا ، ويمكن إن يضـاف إلى ذلك توسع مهـام الدولة مما يُصعب مهمتهـا فـي أدارة جميع أنحاء البـلاد .
والفـيدرالية كصيغة للحكم لا تتحـدد بإطار واحد وإنما هـي ذات إشكال وصيغ مختلفـة تتباين حسب طبيـعة الدولة وتركيبها السكانية وظروفهـا السياسية والاقتصادية وأحوالها الجغرافية ، فهنـاك الفيدراليـة التي تستند إلى أساس جغرافـي وأخرى تقوم على مقومات إدارية وأخرى عرقية ومذهبيـة .
إن مـراجعة تاريخ الدولة العراقية منـذ تأسيسها عام 1921 ، يُظهـر أن العراق لم يألف النظام الفيـدرالي أو الاتحادي وإنما اتبع كغيره مـن دول المنطقة الشكل السياسي والإداري البسيط والمـوحد والقائم على الحكم المركزي في العهديـن الملكي والجمهوري ، وعلى هـذا ، فأن طرح الفيدراليـة كصيغة اتحاديـة تنظم علاقة أقاليم الدولة وتكويناتها الاجتماعيـة بالسلطة المركزية يعد طرحاً مستحدثاُ فـي التجربة العراقية ويتخوف الكثير من أن يؤدي تطبيق الفيدرالية فـي هذا الظرف المعقد الذي يمر به العراق مـن حيث التهاب المشاعر الطائفية والقومية والانفلات الأمنـي وضعف سيطرة الحكومة المركزية إلى الكثير من المشكلات السياسية والاجتماعية التـي يدفع ثمنها العراق في وحدته واستقراره السياسـي .
لقـد شهد العراق طيلة ثمانيـن عاماً تاريخاً طويلاً من العنف والقلق المتبـادل بين قواه الاجتماعية ولم تبـذل محاولات جدية لتأسيـس عراق تتوزع فيـه السلطة والثروة بشكل عادل تجد فيـه التكوينات الاجتماعية جـزءاً من حريتها ومطالبها وتطرد مخاوفها وشكوكها . كما عرف العراق ومنذ انتهاء السيطـرة الاستعمارية البريطانية ومروراً بثـورات وانقلابات العهد الجمهوري تجميعاً للقوة والسلطة بيد المركـز ولم يسمح بـأي نوع من المشاركة لأقاليم العراق فـي ممارسة السلطة وإدارة شؤونها السياسيـة والاقتصادية . ومـع بداية السبعينات من القرن الماضي أخـذت السلطة فـي العراق تزداد فـي مركزيتها حيث بدأت تتجـه نحو التجمع فـي يد نخبه سياسية وحزبية ضيقة حتى وصل الأمر في عهد الرئيـس صدام حسين إلى تجميعها فـي يد عائلة واحدة وعشيرة واحدة وشخص واحـد .
إن هـذا التاريخ الثقافي الطويـل للعنف في العراق والتطبيق الطويل للمركزية وعدم انتشار ثقافة التقـاسم للسلطة بين المركز والإطراف يضع عوائـق كبيرة أمام تطبيـق وتأسيس الفيدرالية في العراق ويدفع حسـب اعتقاد البعض باتجاه تكريس الانقسام فـي المجتمع العراقي فـي ظل سيادة الثقافة الاثنية وتغلغل مفهوم الاستبداد واحتكـار السلطة لدى فئات محرومة من العراقييـن . ومع ذلك يجهد أنصار الفيدرالية أنفسهم فـي تقديم الحجج والأسانيد القانونية والفكرية لتعزيز القناعة في نجاح التجربة الفيدرالية فـي العراق على اعتبـار أنها ستتيح الفرص لإنهـاء الهيمنة على السلطة وتفسح المجال لتوسيـع مشاركة جميع فئات الشعب العراقـي في العملية السياسية بمـا يدعم مفهوم المواطنة غيبته الدكتاتورية والاستبـداد الذي مورس في الحقب الماضيـة .
إن التصـور الكردي لطبيعة وحدود الفيدراليـة لازال يكتنفه الغمـوض ، فرغم أقـرار المسؤولين الكرد ومـوافقتهم على الفيدرالية الإدارية والجغرافية كمـا ورد فـــي قانـون أدارة الدولة والدستور الدائم ألا إنهم لازالـوا ينطلقون فـي تصريحاتهم ومواقفهم من اعتبـارات قومية متعصبة تقلل في كثير من الأحيـان مصداقيتهم فـي بناء عراق ديمقراطي تعـددي تتعايش فيه الجماعات بكل اختلافاتهـــا القومية والمذهبيـة .
فـالفيدرالية التي يؤمن بها الأكراد تقوم على رؤية قوميـة تشمل جميع المناطق التي يتواجد فيها العنصر الكردي . والـدستور الكردي الذي أقر فـي أيلول/2006 ، يعطي صلاحيـات فيدرالية غير محددة للأكراد تقترب في شموليتها مـن واقع الدولة المستقلة . ففـي ذلك القانون نصوص تؤكد على أن للأكراد جيشـاً وعلماً ونشيداً وطنياً وميزانية مستقلة وقضاء خاصـاً وتمثيلاً دبلوماسياً خاصاً فـي الأمم المتحدة والدول الأجنبية وتلك مميزات تتعلق بدولـة مستقلة أكثر من تعلقهـا بإقليم يسعى للحكـم الذاتي والفيدرالية ، وقـد عزز الكرد من هواجس العراقيين حينما ثبتوا فـي الدستور المذكور أن حدود الإقليم الكردي تتعـدى ما هو قائم فـي المحافظات الكردية الثـلاث (اربيل ودهوك والسليمانية) إلى مناطق عراقيـة أخرى يعتقدون بتبعيتها لهم ومنها بطبيعـة الحال كركوك ومناطق أخرى فـي الموصل وديالى وصلاح الدين وواسط مما يثير مخاوف كبيرة حول أبعاد الفيدرالية الكرديـة .
لا يجـادل احد فـي أن الأكراد عانوا كغيرهم فـي العراق من إشكالية الاندمـاج في هوية وطنية جامعة نـظراً لتطلعاتهم القومية في الاستقلال من جانب وبسبـب أخطاء بعض النظم العراقية التـي ظلت تنظر إلى المسألة الكردية على أنهـا مجرد تمرد لمجموعة خارجة عن القانـون تتلقى دعماًُ ومساعدات أجنبية للاخـلال بالأمن الوطني العراقـي .
كـان لبقاء المسألة الكردية دون حلول سياسية حقيقية اثـر واضح في استمرار ثقافة الإقصاء في الواقع العراقـي إذ فشلت غالبية النظم العراقية فـي تنمية تجربة ديمقراطية تقوم على الاعتراف بالمواطنة كإطار عـام يجمع كل العراقيين بغض النظـر عن انتماءاتهم الطائفية والعرقيـة ، كما فشلت فـي بناء أطر رضائية جامعة تسمح بالتعايـش المشترك والقبول بالشريك الأخر في الوطـن . وقـد شكلت لغة السلاح والقوة العسكرية المفرطة فـي أحيانا كثيرة بديلا مقنعاً لجأت إليه اغلب الحكومات العراقيـة لحل إشكالية الاندماج الكردي في الهوية العراقية وهـو ما ساهم لاحقاً في إنعاش كثير من مظاهر التهميش والتطـرف في المشهد السياسي العراقـي وزيادة الاحتقان والتوتر في الشارع العراقـي بشقيـه العربي والكردي وتلك ولاشك كانت من أهم علامات اليـأس من اكتمال مشروع سياسي وطني يجمع عليه العراقيون يحل إشكاليات هويتهم الوطنيـة .
كـان دخول الولايات المتحدة وإسرائيل وإيـران على خط الدعم المالي والعسكري والسياسي من اكبر الأخطاء التـي ارتكبتها الحركة الكردية العراقية حيث افقد التدخل الأجنبي مطـالب الأكراد بعدها الوطني واصبغهـا بمقاصد دوليـة هدفها أضعاف العراق وزعزعة استقراره الداخلـي وذلك لغايات تخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية حيـال العراق وعموم المنطقة العربية وهـو ما تأكد بشكل سافر بعــد عام 1991 ، حيـث لعب التدخل الأمريكي ـ البريطاني المبـاشر بذريعة حماية الأكراد دوراً فـي اختراق وحدة العراق الوطنيـة ، وشكلت الحماية العسكرية لإقليم كردستان والدعم السياسي والاقتصادي والعسكري للأحزاب الكردية فـي إنعاش مطالب الأكراد القوميــــة باتجاه مخل بسيادة العراق واستقلاله السياسـي .
لـم تكن سياسة التحالف الكردي مع المشـروع الأمريكي الرامي لتفكيك العراق ورفع القيادات الكردية لشعـارات قومية وعنصرية تكرس انفصالها عن النسيـج السياسي والاجتماعي العراقي لتمر دون أن تحدث ارتباكاً واحتقاناً فـي الشارع العراقي بعـد أن أخذت تبدي كثير مـن الأحزاب العراقية ومؤسسات المجتمع المدنـي وقطاعاته الجماهيرية انتقاداتهـا المعلنة لأداء الأحزاب الكرديـة المنفلت عن قواعد العمل السياسـي ،  فـالاستغلال المريب لمعاناة العراقيين عموماً والمساهمة عن قصد في زيادة أزماتهم السياسية والأمنيـة والاقتصادية والمساهمة مع القوى الظلامية الساعية فـي تفكيك  عرى النسيج الاجتماعي والسياسي للمجتمع العراقـي قد خلق ردة فعل عنيفة فـي الشارع العراقي واظهر نوعاً من التشفـي لأي خطوة يقوم بهـا أعداء الأكراد لتحجيم اندفاعاتهم القوميـة .

إن وحـدة العراق الوطنية باتت فـي ظل الاحتلال الأمريكي تقف على مفترق طرق خطيـر ومتعدد الاتجاهـات غير محسوم النهايات0 فـإذا كان الاحتلال يشكل اليوم التحدي الكبير لكل العراقيين بما أفضى إليه من زرع بـذور الحرب الاهلية وتفكيك نسيج العراق الاجتماعـي وتخريب السلم الأهلي بين أبنائه وإلغاء الدور المركـزي للدولة العراقية وإشاعة الفوضـى والإرباك في مفاصل الحياة الامنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ، فـان تحدي المحافظة على ضبط الترابط الداخلـي والوحدة الوطنية بين مكونات العراق الاجتماعية بـات يمثل التحدي الأخطر الذي يواجـه العراقيين جميعاً وبكل ألوان طيفهم السياسي والاجتماعـي .

إن مستقبـل المسألة الكردية وضمان تمتع الأكراد بحقوقهـم القومية لا يمكن أن يتم بعيداً عن الإجماع الوطنـي الذي يحفظ للعراق وحدته الوطنيـة ، فذلك الإجماع بـات أمرا لازماً لتحصيل الحقوق وتثبيت المطالب لاسيما فـي ظل الأوضاع المنفلتة والمصالح الفئويـة والحزبية التي أصبحت تهدد أمن العراق وسلامته الإقليمية ، كمـا انه شرط من شروط إخراج الاحتلال الأمريكي وتحجيم دوره فـي اختراق وحدة العـراق الوطنية ونسيجه الاجتماعـي .

إمـا موضوع الفيدرالية فمن المستحسن للقيـادات الكردية إذا ما أرادت استرضـاء الأغلبية العربية في العـراق وكسب تأييد الشارع العراقـي لمطالبها السياسية أن تبتعد عن التمسك به في هذه المرحلة الحساسة مـن تاريخ العراق ، لأن هـذا الموضوع ارتبط بنتائج الاحتلال الأمريكي ورؤيته الرامية إلى تقسيـم وتفكيك النسيج الوطني العراقـي .

إن حـل المسالة الكردية في العراق ينبغي أن يكـون حلاً عراقياً وطنياً خالصاً يتم فيه الابتعاد عن أي ضغوطات أجنبية تـريد الاحتلال بالوحدة الوطنية العراقيـة . لقـد اثبت تاريخ الحركة الكردية في العراق أن خيار الاستعانة بالقوى المعادية للعراق هـو خيار فاشل أضر بتاريخ الحركة الكردية ونضالها القومي وجلب الكـوارث الإنسانية للشعبين العربي والكـردي في العراق مثلما اثـبت أن لجوء النظم العراقية إلى الخيـارات العسكرية وأساليب العنف لحل المسألة الكردية هـي خيارات فاشلة أيضا جلبت الفوضى وعدم الاستقرار وضياع فرص التنمية الحقيقية للبلـد .

فـي الواقع العراقي الراهن بات لجوء الأكراد إلى الخيـار الوطني وضمن جبهة تضم القوى والتيارات العراقية الأخـرى ، شرطاً ضرورياً بهدف أيجـاد إجماع وطني على حل جميع الإشكاليـات التي يعانيها العـراق .. فحسم هـذه الإشكاليات باتت ضرورة لازمة لنهوض العراق من جديد وفق أسـس تقوم على حكم الدستـور والقانون الذي يتيح للأكراد كمـا لغيرهم الحصول على حقوقهم دون تمييز أو أكـراه .

قسـمت الدراسة إلى أربعة فصول عالجـت في الفصل الأول ، ولادة الـدولة العراقية الحديثة وظهور التطلعات القومية الكردية فتنـاول أصل الأكراد وتوزيعهم الجغرافي وتقسيماتهم القبلية والاجتماعية كما تنـاولت أزمة الهوية التي عاناها المجتمع العراقـي منذ بداياته إلى يومنا هـذا والتي نجمت عن ضعف الآليات النظمية التـي انتهجت في تعزيز مفهوم المواطنة والمشاركة المتساوية في الثروة والسلطة مما جعل بعض الجماعات تحجم عن الاندماج والتلاحم فـي هوية الوطن الجامعة وتتمسك بهوياتها الضيقة مع التـأكيد على أن أزمة الهوية لم تكن افتعالاً نظيماً خالصاً بقدر مـا كانت أيضا افتعالا خارجياً ساهمت به الدول المحيطة للعراق والقوى الدولية المؤثرة التـي تمكنت من توظيف قيادات بعض الجماعات العراقية فـي تنفيذ أجندات سياسية تتعلق بمصالحتها الرامية إلى تعطيل دور العراق فـي المنطقة إضافة إلى تناول المؤلف أزمة اندماج الأكراد فـي المجتمع العراقي ورغبتهم الملحة منذ تأسيس الدولة العراقية في الانفـصال عن العراق وتشكيل دويلتهم المستقـلة .

وقـد مثلت حركات التمرد الكردي المستمرة تعبيراً أصيلا عن سعـي الأكراد لتحقيق أهدافهم القومية في هـذا الاتجاه مع تأكيد المؤلف علـى أن سعـي القيادات الكردية لتحقيق طموحاتهم القومية لـم يمنع قطاعات كبيـرة من الشعب الكردي من الانغماس فـي مفردات الدولة العراقية السياسية والاقتصادية مما هيــأ لتبوء شخصيات كردية مواليـة مناصب سياسية كبيرة حفرت أسماءها فـي ذاكرة الدولة العراقيـة ، كما تناول الفصل النتائج السياسية التـي حصدها الأكراد جراء كفاحهم القومي والتي تمثلت فـي قانون الحكم الذاتي عام 1970 ، الذي شكل خطوة كبيـرة إمام انفراج سياسي سلمي للمسـألة الكردية دفعـت القيادات الكردية للبناء عليها نحو طموحات أوسع مستثمرين الظـروف الدولية التي مرت بها المنطقة والأوضاع الاستثنائية التي مر بهـا العراق بعد حرب الخليج الأولى عـام 1980 ، وحرب الخليج الثانية عام 1991 ، ومـا رافقها من تدمير قـدرات العراق العسكرية والاقتصادية وفرض حصار اقتصادي وسياسي اخـل بوحدته الوطنية فكان أن رفع الأكـراد سقف مطالبهم القومية نحو الفيدراليـة التي عُـدت شكلاً سياسياً وقانونياً مستحدثاً فـي الواقع العراقي يتخوف كثير مـن المحللين والمراقبين من أن يـؤدي تطبيقها إلى تفكيك كيان الدولـة العراقية الموحدة لاسيما في ظل انتشار الوعي الاثني (الطائفي والقومي) لـدى فئات عراقية أخرى من غيـر الأكراد بدأت تبحث هــي الأخرى عما يبرر انبعاث هوياتها الضيقـة .

وتـناول الكتاب في الفصل الثاني انعكاسـات الاحتلال الأمريكي للعراق علـى تصاعد المطالب الكردية فـي الفيدرالية وحق تقرير المصير تمثلت في كثير من القوانين والتشريعـات التي أقرتها سلطات الاحتلال الأمريكـي فأتاحت للأكراد حق التمتع بوضـع أداري وسياسي شبه مستقل ، ومـن أهم تلك التشريعات قـانون أدارة الدولة العراقية المؤقت والدستور العراقـي الدائم وقانون أدارة النفط وقـانون تشكيل الأقـاليم فضلاً عن الدستور الكردي الذي أقرت فيـه صلاحيات سياسية واقتصادية قَّربـت إقليم كردستان من وضع الدولة المستقـلة . وتنـاول المؤلف أيضا واقع مدينة كركـوك والصراع القومي بين قومياتها الثـلاث (العربية والتركمانية والكردية) للهيمنة على مصيرها والسياسات التـي تبنتها القيادات الكردية لضمان السيطـرة على المدينة الغنيـة بالنفط وبما يعزز طموحاتها السياسية ومواقفها التفاوضيـة .

إمـا الفصل الثالث فتناول الدور الأمريكي فـي توظيف المسألة الكردية ودعمها في العراق سواء لمرحلة مـا قبل الاحتلال أو بعدها مع الإشـارة إلى حجم التحالف الاستراتيجي بين أدارة الاحتلال والأحـزاب الكردية وما أفضى إليـه من رعاية متميزة لطموحات الأكراد القوميـة .

وإمـا الفصل الرابع والأخير فتنـاول الموقف الإقليمي مـن موضوع الفيدرالية الكردية حيث يظهر موقـف إقليمي موحد حيال التصدي لاندفاعـات أكراد العراق وطموحاتهم السياسية ، ولعل ابرز المواقف الإقليمية حزماً فـي هذا الاتجاه هو الموقـف التركي الذي عبر فـي أكثر من مرة عن انتقاد صريح للطريقـة التي تعالج بهـا الإدارة الأمريكية ملف احتلالها للعراق ومـا أفضى إليه من انتشار مظاهر الفوضى وشيـوع المطالب الاثنية التي تهـدد بتفكيك النسيج السياسي والاجتماعـي للدولة العراقية مع ما يعكسـه من نتائج تضر بالأمن القومي التركـي .

* الكتـاب :
الاحتـلال الأمريكي للعراق وأبعاد الفيدرالية الكردية ، تـأليف : دهام محمد العزاوي ، ط1 ، الدار العربية للعلوم ناشـرون ومركز الجزيرة للدراسات ، بيروت / الدوحـة ، 2009 / 199ص .

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات