-1-
لانُذيع سراً اذا قلنا :
بان قراءة التاريخ بامعان، وتدَّبر حكاياته بِعُمق، يضعان بين يدي القارئ حصيلة مهمة من التجارب والفوائد والدروس، وكلّ ذلك يقوده الى انتهاج مَسْلَكٍ يبتعدُ به عن الترسل، والتعامل الساذج مع الأشخاص والأحداث …
-2-
انك قد تصل الى قناعةٍ مفادُها :
وجوبُ الاحتراز حتى من أقرب الناس اليك ، وأقربُ الناس ابنكُ الذي قد يدفعه الطيش أو العقوق، الى اخبار السلطة عنك، بما يُدخلك عندها في القائمة السوداء ، التي تقتضي المُعاقبة والملاحقة ..!!
-3-
واذا كانت الدكتاتورية البائدة قد جندّت الأقربين فضلاً عن الأبعدين ، لموافاتها بالأخبار والأسرار ، فانّ التاريخ يوقفنا على وقائع تطّوع فيها بعض الأبناء الأشرار ، للإخبار عن آبائهم، بما سوّد صفحاتهم أمام السلطات …
-4-
واليك الآن هذه القصة ، التي أوردها (ابن مسكويه) في تاريخ الأمم ج3 ص247، لتكون على يقينٍ مما نقول :
” كان (ابراهيم بن عثمان) كثيراً ما يذكر (جعفر بن يحيى) والبرامكة فيبكي جَزَعاً عليهم وحُبّاً لهم ،
الى أنْ خرج من حدّ البكاء ودخل في باب طالبي الثأر …”
لقد كان يقول حين يخلو بجواريه :
” واجعفراه ،
واسيداه ،
والله لاقتلن قاتِلَكَ ، ولأثأرنَّ بدمك “
ويتضح من هذا أنه كان شديدَ الوفاء (لجعفر) البرمكي، الذي قتله الرشيد شر قتلة سنة 187 هجرية .
ومن طبيعة الأوفياء أنهم لاينسون مَنْ أكرمهم وأحسن اليهم …
وحين واصل (ابراهيم) ما كان يصنعه حين يذكر (جعفر البرمكي)، جاء ابنه (عثمان) الى (الفضل بن ربيع) فأخبره بقوله –اي بقول ابيه – فدخل الفضل وأخبر الرشيد “
ثم ان الرشيد استدعى خادماً لابراهيم بن عثمان اسمه (نوال) واستَنْطَقَهُ فأخبره هذا، بانه سمع من (ابراهيم) غير مرّة يقول في (جعفر) ما نُقل الى الرشيد .
وتضيف القصة ، عنصراً جديداً لايخلو من غرابة أيضاً فتقول :
اراد الرشيد ان يمتحن ابراهيم بن عثمان بمحنة تزيلُ الشك عن قلبه ، والخاطر عن وَهْمِه ، فقال
اني أريد محنة ابراهيم بن عثمان فيما رفع ابنه اليه ،
فاذا رُفع الطعام فادعُ بالشراب ، وقُلْ له :
أحبّ أمير المؤمنين أنْ ينادِمَك ، إذْ كنتَ بالمحل الذي أنتَ به ، فاذا شرب، فانصرف وخلّني وايّاه ،
ففعل ذلك الفضل بن الربيع “
وأبعد الرشيد الغلمان، وخلا بابراهيم ثم قال :
” يا ابراهيم
كيف موضع السر منك ؟
ياسيدي انما أنا عُبَيدُك وأطوعُ خَدَمِك ..!!
قال :
إنّ في نفسي أمراً من الامور، اريد ان اودعك، وقد ضاق صدري، وأسهرتُ له ليلي
قال :
ياسيدي اذاً لايرجع عني اليك أبداً، وأخفيه عن جَنْبي ونفسي
قال :
ويحك اني ندمتُ على قَتْلِ جعفر، ندامةً ما أُحسن أنْ أصفها ، فوددتُ اني خرجتُ من ملكي، وانّه بقي لي، فما وجدتُ طعم النوم منذ فارقتهُ، ولا لذة العيش منذ قَتَلْتهُ “
بهذا الأسلوب الرهيب الذي نسجه دهاء الرشيد استُدرج (ابراهيم بن عثمان) للوقوع في الفخ، والاعراب عن حقيقة مشاعره ازاء (جعفر البرمكي) فما كان منه إلا أن (اسبل دموعه ، وأذرى عبرته ، ولم يملك نفسه وقال :
رحم الله أبا الفضل
وتجاوز عنه ،
والله ياسيدي :
لقد أخطأتَ في قَتْلِه …
ولم يوجد في الدنيا مِثْلهُ
وكان منقطع القرين ،
زيناً في الناس أجمعين .
فقال الرشيد :
قُمْ عليك لعنة الله يا ابن الفاجرة …!!! “
وكانت نهاية المطاف :
أنْ ضُرب (ابراهيم بن عثمان) بالسيف – بأمر الرشيد – ودفع حياته ثمناً لوفائه …!!!
-5-
والقصة في جانب آخر منها، تُحذّر اللبيب من الوقوع في الفخ، حيث أفضى ابراهيم بن عثمان بمكنونات نفسه للرشيد، ولم يحسب أي حساب لما يمكن ان تكون عليه (المسرحية) التي مثلّها الرشيد بمهارة !!
-6-
اننا نسير في حقول من الألغام ، القابلة للانفجار السريع …،
وعلينا خلال المسيرة التوقي والاحتراز،
وما وقع بالامس يقع اليوم وإنْ اختلفت الدواعي والوسائل والأشخاص…..
وهنا تكمن العبرة .
*[email protected]