يمثل الحوار المعمق مع المفكر والباحث العراقي حسين سعدون ، والذي اجرته معه قناه الشرقية قبل يومين ،يمثل جولة فكرية تحليلية في المشهد العراقي، بدءاً من أضواء ثورة تشرين وصولاً إلى أعماق الفلسفة اليونانية.
يُلخص سعدون المشهد السياسي الراهن بأنه يعاني من “خلل” جوهري، حيث يكشف الاحتجاج الشعبي عن أزمة أعمق تتجاوز مجرد الصراع على السلطة، وتطال أركان الديمقراطية نفسها. ويصف سعدون احتجاجات تشرين عام 2019 بـ “نقطة مضيئة” و**”نقطة عافية للنظام السياسي”، على الرغم من عدم تحقيقها لأُكلها الفوري، ويعتبرها بمثابة صمام أمان كشف عن فشل النظام في استيعاب مفهوم المعارضة السلمية على مدى 16 عاماً (منذ 2003).
ويرى أن لجوء المواطنين إلى الشارع يعود إلى فقدان قنوات الاتصال التقليدية وعدم وجود أحزاب سياسية حقيقية تخدم كـ”مذاهب في السياسة” تمثل الشارع. ويكشف تحليل سعدون عن أن الدافع الرئيسي للحراك لم يكن نخبوياً أو آيديولوجياً، بل اقتصادياً بامتياز (80% من الأسباب) نتيجة فشل “الاقتصاد الريعي” في توفير العدالة الاجتماعية وفرص العمل، مما دفع طبقة “ألاي التوك توك” (الطبقة الوسطى والكادحين) لتكون وقود التغيير. هذا الحراك، المدعوم بـ التكنولوجيا.
ان وثبة (ثورة بلا قيادة)، هو ما يضمن للمنظومة السياسية تنبيهاً دائماً ويقيها الجمود. ويؤكد الحوار على أن الديمقراطية في العراق لا تزال “تحبو”، وأن الخطر الأكبر هو “اختزال الديمقراطية بصناديق الاقتراع” فقط، متجاهلة الأسس الضرورية الأخرى كـ العدالة الاجتماعية،و تكافؤ الفرص، والكفاية الاقتصادية التي تؤهل الناخب.
وتبرز ملامح تعثر الديمقراطية من خلال غياب تكافؤ الفرص عبر استغلال شاغلي المناصب التنفيذية لموقعهم للترشح لمناصب تشريعية، وضعف السلطة التشريعية، حيث يفتقد النواب للوعي باختصاصاتهم (تشريع وقوانين) وينشغلون بالخدمات التنفيذية.
كما يُشير الحوار إلى افتقار العمل السياسي للتراكم وتأجيل التشريعات المهمة لدورات قادمة، إضافة إلى عزوف الناخب والإحباط نتيجة حالة اليأس التي تدفع الناخبين للمقاطعة أو بيع بطاقاتهم، كونهم لا يجدون برامج انتخابية حقيقية بل يتوقعون تكرار نفس الوجوه والمشاكل. بالانتقال إلى الغموض
و يتخذ سعدون موقفاً حاسماً من النخبة المثقفة، معتبراً أنه “لا يُعوّل عليها نهائياً” لأنها قابلة للشراء أو الهجرة، ويربط دور المثقف بالنموذج السقراطي، واصفاً سقراط بأنه أول معارض يقتل بسبب أفكاره بـ”الأسلوب الديمقراطي” (التصويت).
ويستخدم الباحث استعارة “ذبابة سقراط” ليوضح أن المجتمع العراقي يعاني من انخفاض حاد في الوعي، حيث “المثقف يُرجم من المجتمع قبل السلطة”.
وفيما يخص ظاهرة “المحتوى الهابط”، يرى سعدون أن المشكلة لا تكمن في المحتوى نفسه، بل في “المتلقي والبيئة” التي سمحت بظهوره، وأن الحل ليس في العقوبات (الغرامة أو الحبس) التي لا تؤتي أُكلها، بل في رفع الوعي والتدخل الحكومي لدعم البنية التحتية الثقافية (المكتبات، دور النشر، الأنشطة الفكرية) وهي أمور مهملة تماماً، مما يساهم في ظهور “تافهين آلهة اللحظة”.
و يخلص الحوار إلى أن إصلاح النظام الديمقراطي العراقي لا يمكن أن يتم عبر قنواته الرسمية وحدها، بل يتطلب حركة تصحيحية تبدأ من الأسفل، وأن الاحتجاجات الشعبية هي العلامة الصحية الوحيدة الباقية لنظام يسير ببطء في طريق التغيير، بينما تظل ثقافة الوعي وتكافؤ الفرص والعدالة الاقتصادية هي الشروط الغائبة لاستدامة أي ديمقراطية.