يعتاش البعث، على إنتهاز فرص إنهيار التجارب؛ كلما تداعت حالة، أسهم بإعاقة ترميمها، وركب الخراب، ليزيد تصدع المحيط وتقوية كيانه، وأبرز مثال “الحرس القومي” الذي طوق عبد السلام عارف، مستغلا طيشه بإنقلاب أجهض الجمهورية، فهمشوه وإستولوا على السلطة يعيثون فسادا، الى ان أعانه جمال عبد الناصر على التخلص منهم، بعد تسعة أشهر، أحالوا البلاد خلالها الى حقل غزته آفة جراد نووي.
مهما بدا المشهد حالك الفساد، في العراق الآن؛ فالبعثيون كانوا وما زالوا وسيظلون أشد وأقسى… ما عثر واع بحجر مرتين… سلامهم أفظع من الحرب نفسها، ونزاهتهم مدنسة.. أنجس من الفساد، وحلالهم راكس في الحرام.
ما يتّبِعهُ البعث.. منذ نشأته والى الان، يشبه أسلوب التشكيلات المتصلة به، مثل “الاخوان المسلمون” و”القاعدة” و”داعش” لأنها كلها نابعة من مصدر واحد، لتلقي بقيح شرها فينا.. نحن الشرق الاوسط الـ… “حنطته تاكل شعيره”.
تاريخ البعث يعيد نفسه، فما ان تهاوى الوضع العام، وتردت العلاقة بين الحكومة والشعب، جراء مفسدين من الداخل، تدعمهم الدوائر الداعمة للبعث نفسه، من الخارج، عمدوا الى توسيع الفجوة.. يقتلون كل من يحاول ردمها او تضييقها.. يفتعلون الاسباب بتوريط أتباع لهم تغلغلوا في العملية السياسية، يدفعونهم نحو مزيد من التمسك بالفساد، بينما الشعب يتضور ألما، على حافة الأنفلات من عقال التأمل، نحو فعل أهوج، إمتثالا لحكمة الامام علي.. عليه السلام: “ما أجمل كلام السوء من فم مطالب بحق” وخليصه أبي ذر الفغاري: “عجبت لمن لا يجد طعاما في بيته كيف لا ينزل الى السوق شاهرا سيفه” فـ “الكفر في محله عبادة” والشعب “صاح الداد” والإصلاحات ما زالت شفاهية، لم يلمس منها فعلا على ارض الواقع، حتى بات المواطن يشعر بأنه يسرق ويستغفل في ذات الوقت.
لكن من ذا الذي يضع المواطن في الصورة، ويعلمه بأن دوائر مستحكمة الارادة، تطوق الإصلاحات وتحول بين الحكومة ونفسها.. “لا رأي لمن لا يطاع” ما يعني ان العلاج لا يبدأ بوزير فاسد، إنما بالقوى الدولية التي تشترط المحاصصة، لفرض إراداتها التي تزج بوزير فاسد،… تنتقيهم مفسدين من أرحام أمهاتهم.
كلها طواحين هواء مهولة، تقاتل سيف دون كيشوته الخشبي، يمنعون اي تصحيح لمسارات “اللادولة” التي نعيشها الان؛ حائلين دون تعافيها بالعمل النزيه؛ يقصدون من وراء ذلك تسقيطها نهائيا، وطرح البعث المتربص بديلا، عائدين الى ما قبل 2003؛ والمواطن راض.. مقتنع “حقي برقبتي” مقرا بالرضوخ لجور البعث وطغيان صدام وصلف زبانيته.
لكن هذا كله يحاولون تحميل وزره لفئة الاغلبية، متعمدين تناسي ان كل كيان جاء بموجب المحاصصة، حاملا مفسديه ومتخلفيه معه، وضمنهم نهازي الفرص والمتسللين بقصد التخريب، يحثون نحو الانحراف عن جادة الصواب، وهم متربعون وسط العملية السياسية، بموجب إستحقاقات فئوية، لا تتحملها فئة الأغلبية إنما نتاج شركة محيرة.
جئت بمصطلح “شراكة محيرة” حين رأيتهم يدعون للمشورة والعمل؛ فيتنحون محجمين عن إبداء رأي او السعي بفعل، جالسين على التلة، تاركين ما يسمونه “الاغلبية” تتحمل الوزر وحدها، وتؤدي أدوارهم التي إمتنعوا عن أدائها، ريثما يقع الخطأ الذي غالبا ما يسهمون بصنعه، فيضجون بالتشهير وإدعاء التهميش!
وكم من جرائم إرتكبت تحت ذريعة “التهميش” الاختياري الذي ذهبوا اليه عامدين لبلبلة الموقف، بتدبير من أسيادهم الدهاة الذين وقف الامام علي حائرا.. بينهم وتقواه: “لولا التقوى لكنت ادهى العرب”.
فالأغلبية التي تبوأت مقاليد الحكم، ليست خالصة القرار، إنهم يشاركونها، فقط لتقييدها وإلقائها في البحر، طاليبن الا تبتل بالماء!
لا ننكر الفساد وترهل البلد بأخطاء جسيمة، لكن لو الشركاء تفاهموا مع “الاغلبية” ما إنتهى البلد الى مواطن أعدم صدام نصف عشيرته، يترحم عليه الان، وهذا هو ما يخططون له وينفذونه من خلال الشراكة التي تحبط النتائج ولا تسهم بسقي بذرة صواب وسط غابة الفساد.
يجلسون على التلة، ليشهّروا بالاغلبية، جراء أخطاء أسهموا بصنعها، من خلال قائمة شروط، يفرضونها وينسحبون؛ فتتورط بها الـ… أغلبية!
يروجون الان ان صدام والبعث بديل أمثل عن “اللادولة” والعودة الى ما قبل 2003 أسلم لثروات العراق التي هدرت في حسابات شخصية،…
وهنا أسأل: – تلك الحسابات لرجال الاغلبية وحدهم؟ أم “شيلني وأشيلك”؟ ثم يظهرون على الفضائيات ملائكة مهمشين!
يدعون لعودة البعث وصدام، كما لو ان الشعب نسي الجوع والحروب والعسكرة والإعتقالات لأدنى شبهة، ونسي العزلة الحضارية التي لخصتها أولبرايت.. وزيرة خارجية بوش الابن: “العراق محاصر بحكومته منذ 17 تموز 1968 وليس بعد غزو الكويت في 2 آب 1990”.
العتب ليس على البعثية بطابورهم الخامس الذي يرتع تحت قبتي مجلسي النواب والوزراء نزولا للكيا والمقهى وإنتهاءً بالبيوت.. بين العوائل، إنما يجب ان يتحصن المواطن وإلا يدع البعثية ينتهزون فرصة إحباطه من إنتشار الفساد ليسلم عنقه مرة أخرى لسيف الجلاد البعثي.
لا ننكر ان الفساد أكل الاخضر واليابس والامال والتطلعات والنوايا والهمم، لكن البعثية وصدام، ما كانوا ولن يكونوا ارحم، وعلى المواطن ان يضغط بكل الوسائل، لإقصاء المفسدين ومعاقبتهم واستعادة اموال الشعب وخلق منظومة إقتصادية متفاعلة، تحول الدولار الذي ننفقه الى عائد ذي خمسة أضعاف،… لكن بعيدا عن صدام والبعث وأنياب الذئب الجريح، الذي إذا عاد، سننسى “الحرس القومي” لأنه سيكون مجرد سطر في رواية! فلا يخدعنا جور الفساد، عن حكاية الحصان الذي إستجار بالإنسان لحمايته من الأسد؛ فإمتطاه الى الأبد.