من مراقبة التطورات الأخيرة، ومن مجمل الشتائم التي بدأت تتسارع ضد المتظاهرين على ألسنة مسؤولين كبار جدا في نظام الولي الفقيه، ومن بعضِ وكلائه العراقيين واللبنانيين، ومن هجمة الحشد الشعبي على المتظاهرين في بغداد بالعصي والقضبان الحديدية، يتوضح أن الاحتجاجات العراقية ليست كلُها فورة سطحية يمكن تبريدها بتوفير بعض الخدمات، وطرد بعض المسؤولين، وإحالة بعض الفاسدين إلى القضاء. بل إنها، على ما يبدو، لم تصبح بعدُ تحت سيطرة السلطة الحاكمة وأحزابها ومليشياتها المتصارعة.
وهذا ما يشجعنا على استنتاج أمرين، الأول أن إيران والمرجعية وأحزابهما تتوقع وتخشى تحول هذه التظاهرات إلى انتفاضة، وربما إلى ثورة تعصف بالنظام كله، إذا انضمت إليها محافظت سنية عربية وكوردية. وثانيها أن (رقعة) العبادي أصغر كثيرا جدا من (شق) عباءة النظام، وأنه لا ينوي ولا يريد أن يصبح جدية فيغوص بمضعه أكثر في شرايين النظام لتصل إلى عضلة قلبه المهتريء.
والظاهر أن بعض الشباب الثورريين المتنورين التقدميين بدأ يتمرد على السقف الأعلى من المطالب التي في إمكان النظام بلعُها، والعملُ على تحقيق بعضها، لامتصاص النقمة، وتبييض وجه حزب الدعوة والتحالف الوطني والمرجعية وإيران.
ولعل أهم ملامح التمرد على السطوة التضليلية التجهيلية الإيرانية الخانقة خلوُّ تظاهرات المئات من الآلاف (الشيعية)، وليست السنية، من صور الخميني وخامنئي، ومن الرايات السوداء والخضراء التي تاجرت بها هي وأحزابها كل هذه السنين. وهذا وحده سبب يكفي للبطش بها، وبكل طريقة ممكنة.
طبعا، لم يعد خافيا على أحد مدى خيبة أمل المرجعية وإحباطها وغضبها من طبقة الحكام الذين اختارتهم، ووثقت بهم، وكفلتهم، وسلطتهم على البلاد والعباد، والذين تأكد لها أنهم، بفسادهم وتفاهة الكثيرين منهم، وخسته وبذاءته وجهالته ولصوصيته الزائدة جدا عن حدها المقبول، قد لا يتسببون بهدمهم، وحدهم، بل بهدم المعبد كله على ساكنيه أجمعين.
فليس أكثر من المرجعية إدراكا لحجم النقمة الشعبية في الشارع الشيعي نفسه، والسني أيضا. وليس أشد منها إيمانا بأن التدخل الإيراني، بضراوته وشدته وعمقه وسعته، تجاوز قدرة الوضع المتأزم في العراق على احتماله، والسكوت عليه.
وقد يكون اقتناعُها بأن حملات عسكرة المجتمع الشيعي وتجييشه التي نجحت، طيلة الإثنتي عشرة سنة الغاربة، باسم محاربة الإرهاب الوهابي السني، لم تعد تصلح الآن لمنع الأغلبية الغاضبة من التظاهر، ولا لإسكاتها وتمييع نقمتها وتبريدها، الأمر الذي دفع بها إلى الإيعاز لـ (ولدها) المطيع حيدر العبادي باحتضان المتظاهرين، وتطييب خواطرهم، وتبريد احتجاجاتهم، بعمليات جراحية عاجلة، ولكن بسيطة، وبتخدير محلي، لاستئصال بعض الورم، وتصغير بعضه الآخر، أو تأجيل علاجه إلى ما بعد مرور العاصفة.
لكن مسؤولين كبارا في النظام الإيراني أكثر خبرة بأمور السياسة من المرجعية، وأبعد نظرا من حيدر العبادي، يرون غير ذلك. فهم يدركون أن مخزون الغضب الشعبي العراقي الشيعي، وليس السني فقط، أكبر من الكهرباء والماء، وأكثر من مجرد محاسبة بعض الفاسدين، وطرد حفنة من المسؤولين الفضائيين.
ويعرفون، بحنكتهم ودرايتهم، حجم الحقد المختزن في شعوب المنطقة، والإقليم، وربما العالم، على إيران واحتلالها المفضوح والمكشوف للعراق وسوريا وللبنان، وما يشكله ذلك من خطر حقيقي وجاد على مصالح حكومات مهمة عديدة في العالم. وقد تصبح التظاهرات الاحتجاجية العراقية، في هذا الوقت بالذات، حواضن مناسبة لتدخلِ قوى وحكومات وأجهزة مخابرات عديدة، لتخرجها من كونها فورة (بسبب نقص الخدمات)، وتجعلها ثورة (على الاحتلال والرجعية والظلم والفساد)، تمهيدا لتصفية حسابات دولية كثيرة مؤجلة مع إيران في سوريا واليمن ولبنان وفلسطين والبحرين والكويت.
ومن الطبيعي، والحالة هذه، أن يُضطر الخائفون من هذا الاحتمال إلى تبديل نوعية الشتائم الموجهة للمتظاهرين، واستخراج نمط جديد منها. فلن يكون مقبولا ولا مقنعا اتهامُ التظاهرات الحالية بـ (الصدامية) و(الداعشية) و(الوهابية)، وهي التي لم يتورط فيها غيرُ أبناء المحافظات الشيعية، لحد الآن.
فقد أعلن رئيس الاركان العامة للقوات المسلحة الايرانية اللواء حسن فيروز آبادي في تصريحات نشرتها وسائل إعلام إيرانية، يوم الاثنين الماضي، أن ” فئات (غير مسلمة) تقود التظاهرات الشعبية الحاصلة في مدن العراق، لاثبات عدم كفاءة الحكومة العراقية”.
وهو بهذا التوصيف يعني واحدا من اثنين، إما أنه وجدَ أكثريةَ المتظاهرين من النصارى، وهذا ما يُحرم على متظاهرين شيعة ومسلمين مجاراتَهم والانقياد لهم، (ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضُهم أولياءُ بعض، ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين)، أو أنه يعني أن المتظاهرين المسلمين، وهم شيعة، قد ارتدُّوا عن دينهم، وأصبحوا
مشركين، وعادوا إلى معاداة الحسين، ومعاداة وكيله المهدي المنتظر، ووكلاء وكيله، أجمعين. وهو في الحالين لا يختلف كثيرا عن داعش والقاعدة والإخوان المسلمين.
كما نقل تقرير أورده موقع “الوعي نيوز” الذي يموله مستشار خامنئي (علي أكبر ولايتي) رسالة قال فيها “إن ولايتي أجرى خلال اليومين الماضيين اتصالات هاتفية مع زعماء سياسيين شيعية، بينهم رئيس الوزراء حيدر العبادي، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى عمار الحكيم، حذرهم من السعي إلى تقديم نوري المالكي للمحاكمة”.
وفي سياق متصل، وصفت وكالة أنباء “تسنيم” الممولة من فيلق القدس التابع للحرس الثوري نوري المالكي بأنه “قائد إسلامي عربي تجاوز حدود العراق”. وقالت الوكالة في مقال تحليلي بعنوان “ما الذي يقرأه الإيرانيون الاستراتيجيون ولا يراه بعض العراقيين؟” إن المالكي: “أحد أبرز أقطاب جبهة المقاومة والممانعة في المنطقة.” وعادت الوكالة بالذاكرة إلى زيارة المالكي لطهران في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قائلة إن الإيرانيين “يدركون بعمق طبيعة التضحية التاريخية النادرة التي قام بها المالكي، والتي أنقذ بها العراق وشيعته ومحور الممانعة برمته من أكبر كارثة تاريخية كانت ستحول العراق الى ساحة حرب أهلية طاحنة لا تنتهي إلا بعد احتراق الوسط والجنوب، واحتلال كل المناطق السنية، وإعلان كردستان استقلالها، ثم تنهار الجبهة السورية، ويضعف محور الممانعة الذي تتصدره إيران.” وختمت الوكالة تقريرها بالإشارة إلى الصفات التي وصف بها الولي الفقيه نوري المالكي، والمديح الذي وجهه له، وقالت إنه “تقويم شرعي واستراتيجي دقيق من مرجعٍ ديني كبير مبسوط اليد يعطي للسيد المالكي ما يستحقه من التقدير والتبجيل والثناء”.
أما نوري المالكي، من جانبه، فقد استخدم أسلوبه المفضل في شتم المتظاهرين، حيث قال “لقد بدأت تظهر في التظاهرات شعارات ضد الدين، وضد العلماء، وضد المراجع، وضد الحركات الإسلامية، وإن انزلاقة هذه التظاهرات ستُذكرنا بانزلاقة تظاهرات الأنبار والموصل، وما ترتب عليها”.
إن الحد الفاصل بين الثورة والفورة في التظاهرات العراقية المستمرة هذه الأيام، يكمن، دون ريب ولا جدال، فيما سيطرأ من تطورات على جسد التظاهرات ذاته.
فسوف تصبح ثورة إذا ما تحركت الجماهير في المحافظات الأخرى العربية والكوردية، واشتعل الوطن كله بالأصوات المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة، وسلطة الدولة المدنية الحديثة العاقلة، وإذا ما استطاع النصف العلماني التقدمي الوطني من المتظاهرين أن يفرض صوته على أصوات المتسللين الذين دستهم المرجعية والائتلاف ومليشيات الحشد الشعبي لإفراغ التظاهرات من محتواها الثوري، وتحويلها إلى حفلة تكسير عظام بين جبهة المرجعية (النجفية) ومعها النصف الحمائمي في المعسكر الشيعي، وبين جبهة كبار المساعدين
المتشددين للولي الفقيه، ومعهم النصف الصقوري في حزب الدعوة والتحالف والحشد الشعبي ومليشياته الطائفية المتشددة.
وسوف تكون فورة وتنطفيء شعلتها، رويدا فرويدا، إذا ما توقفت عند حدود المطالبة بالدواء والغذاء والماء والكهرباء، واكتفت بما اتخذه العبادي من إجراءات سطحية عابرة. حينها لن يجد الإيرانيون ولا نوري المالكي في المتظاهرين كفارا ولا وهابيين، ولا يحزنون.
أما الهيئة القياديّة للتحالف الوطني فقد سارعت إلى عقد اجتماع عاجل في مكتب رئيس التحالف إبراهيم الجعفري، وبحضور نوري المالكي، نفسه، إلى جانب حيدر العبادي، ناقشت فيه الأوضاع المستجدة. وذكر بيان لمكتب الجعفري أن “التحالف الوطني تابع الإصلاحات التي قدَّمها رئيس الوزراء بتوجيه من المرجعيّة العليا التي دعت للإصلاح في المجالات كافة، وتدارَس تفعيل هذه الإصلاحات، بعد أن اعتمدها مجلس الوزراء، وأقرَّها مجلس النواب، وناقش الإصلاحات الجديدة المطلوبة، خدمة لمصالح شعبنا المُضحِّي، وتحقيق طموحاته المشروعة، وحاجاته الأساسيّة”.
وحيا التحالف الوطني “ تفاعل الشعب العراقي مع قواته المُسلـَّحة، وأبناء الحشد الشعبي، في الدفاع عن العراق وشعبه”، وأكد أن ” الحرب ضد الإرهاب لها الأولويّة في هذه المرحلة المصيريّة ”.
يتمنى ملايين العراقيين في بغداد والمحافظات الجنوبية، ومعهم ملايين الذين احتل داعش والقاعدة ودراويش عزت الدوري منازلهم ومزارعهم ومصانعهم ومدارس أولادهم، أن تتصاعد الاحتجاجات، وأن تتسع، وأن ينخرط فيها المُهجَّرون، والمغتربون، وأن يعلن ثوارُها الأشاوس أن تحرير الموصل والرمادي من داعش هو الجهاد الأصغر، وأن تحرير بغداد من الاحتلال الإيراني، ومن حكم المليشيات والمرجعيات، هو الجهاد الأكبر.
وهذا، لو حصل، ما سوف يعيد العراق، إلى الصدارة، وقد يغير تاريخ المنطقة والعالم، ويجعل من العراقيين أساتذة وروادا في صناعة الثورات، وإشعال الانتفاضات، أكثر من المصريين والتوانسة. وهذا هو ديدنهم، من مئات السنين.
هذا العــــراق، وهذه ضرباته
كانت له، من قبل ألفٍ، ديدنا