23 ديسمبر، 2024 5:46 ص

الاجندات السياسية في ازمة الكهرباء العراقية!

الاجندات السياسية في ازمة الكهرباء العراقية!

في بلد مثل العراق، لم ينعم طيلة تأريخه الحديث والمعاصر، بالاستقرار الحقيقي، لايمكن فصل اي مشكلة او ازمة تمر به عن الاجندات والحسابات والمصالح السياسية الخارجية او الداخلية، ولعل ملف  الكهرباء، ذلك الملف الحيوي المهم والحساس، ظلت تتجاذبه كواليس السياسة واروقتها ودهاليزها المظلمة، وتستغله مختلف الاطراف، اما لتحقيق مكاسب معينة، او لتصفية حسابات معينة.

   واذا كانت ازمة كهرباء العراق، قد بدأت قبل ثلاثين عاما، حينما اجهزت الولايات المتحدة الاميركية ومعها حلفائها الثلاثين على البنى التحتية والمنشات الحيوية العراقية، كجزء من متطلبات او ذرائع حرب تحرير الكويت من قضبة نظام صدام، فأن صورة اليوم تبدو قاتمة اكثر من اي وقت مضى، وبينما كان مؤملا ان تنفرج الازمات وتتصحح المسارات بعد الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام  2003، اختلطت الاوراق كثيرا وتشابكت الخيوط، وظلت الازمات الكبيرة-لاسيما ازمة الكهرباء-تدور في حلقة مفرغة، لتبلغ ذروتها في صيف كل عام.

   ولعل الكثيرين في العراق من شتى المشارب والاتجاهات والاختصاصات، يتفقون على ان هناك ثلاثية تلقي بظلالها الثقيلة على ملف الكهرباء، وربما على ملفات اخرى، وهذه الثلاثية تتمثل بأميركا والارهاب والفساد، وكل واحدة منها ترتبط بالاخرى وتتداخل معها وتؤثر فيها او تتأثر بها.   

   وسواء نظرنا الى المشهد من زاوية واسعة جدا تستوعب تفاعلات وتداعيات العقدين الماضيين، او من زاوية ضيقة لاتتعدى احداث الاسابيع القلائل الماضية، فأن المعطيات والحقائق التي تتبلور على ارض الواقع هي ذاتها، وان اختلفت، فبشكل بسيط وقليل جدا.

   وقد يكون الصراع المحتدم بين شركتي جنراك الكتريك الاميركية، وسيمنز الالمانية حول من يستأثر بملف اصلاح وتطوير الطاقة الكهربائية في العراق، كأنتاج ونقل وتوزيع، احد ابرز الدلائل والمؤشرات على التوظيف والاستغلال السياسي للازمة من قبل الولايات المتحدة الاميركية، بأعتبارها الطرف الرئيسي المهيمن على مقاليد الامور منذ اسقاط نظام صدام واحتلال العراق قبل ثمانية عشر عاما، اذ اتاحت تلك الهيمنة فسح المجال لـ”جنرال الكتريك” الدخول الى الساحة العراقية، وايصاد الابواب الى اقصى قدر ممكن امام الاخرين.

   ورغم ان الشركة الاميركية التي يتجاوز عمرها المائة وثلاثين عاما(تأسست في عام 1892)، دخلت الى العراق في عام 2003، اي بعد الاحتلال بعدة شهور، لتنفيذ مهمة محددة، تمثلت بأعادة اصلاح منظومة الطاقة الكهربائية، الا انها فشلت وعجزت عن تحقيق ولو الحد الادنى من النجاح، علما انها في بلدان اخرى، نجحت في اعوام قلائل فيما فشلت به في العراق على  امتداد  ما يربو من العقدين من الزمن، وهي قبل اكثر من شهر، قالت عبر الرئيس التنفيذي لها في العراق رشيد الجنابي، “إن العراق يواجه في المرحلة الراهنة تحديا كبيرا في موارد الطاقة، لكن هنالك العديد من الحلول المؤهلة لمعالجة هذا النقص، وتمتلك الشركة تقنيات مبتكرة وموثوقة للمساهمة في ردم الفجوة ضمن قطاع الطاقة العراقي، وان هذه الحلول تدعم الخطة التي وضعتها الحكومة العراقية لتحسين واقع الكهرباء في البلاد”.

   ومثل هذا الكلام قيل عدة مرات خلال الاعوام الماضية، دون ان تكون له انعكاسات واقعية وعملية على الارض، ففي شهر ايلول-سبتمبر من عام 2018، صرح مدير قطاع الطاقة في الشركة الاميركية، فريدريك ريفيرا، ، قائلا، “ان جنرال إلكتريك سلمت الحكومة العراقية إستراتيجية لتطوير قطاع الطاقة الكهربائية في البلاد ورفع قدرة المنظومة الوطنية وتشغيل المزيد من الأيدي العاملة، عبر ادخال التكنولوجيا الحديثة في مشاريع الطاقة”.

  في مقابل تمكين “جنرال الكتريك”، تعرضت منافستها الرئيسية، شركة سيمنز الالمانية الرائدة في ذات المجال، الى الكثير من المعوقات والعراقيل والمصاعب، التي لم يتردد مسؤولين كبار في الشركة في التصريح بها، وما قاله الرئيس التنفيذي للشركة جو كيزر قبل اكثر من عامين يؤشر الى ذلك بكل وضوح، اذ ادلى في حينه بتصريحات اكد فيها ان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب “كان له دور في محاولة عرقلة اتفاق الشركة مع الحكومة العراقية والدفع باتجاه منح الصفقة بالكامل لشركة جنرال إلكتريك الأميركية، حيث بلغت ذروة التنافس بين الشركتين في عهد رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي للفوز بعقود بقيمة اربعة مليار دولار، ولكن-بحسب مصادر رسمية-بعد ضغوط عدة استمرت جنرال إلكتريك في الحصول على عقود الكهرباء داخل البلاد، حتى انها استأثرت بأكثر من 55% منها وفق ما افصح عنه المتحدث بأسم وزارة الكهرباء احمد العبادي.

   وفي وقت لاحق، اكد القاضي والنائب السابق في مجلس النواب العراقي وائل عبد اللطيف، “إن الولايات المتحدة وشركة جنرال الكتريك أجبرتا رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي على التراجع عن إكمال عقد كهربائي مهم كان من المؤمل توقيعه مع شركة سيمنز الالمانية رغم أن العبادي هو صاحب الفكرة وهو من ذهب إلى الشركة الألمانية لكنه تراجع في اللحظات الأخيرة عن التوقيع بضغط أميركي لحماية وجود جنرال إلكتريك في العراق وعقودها المستمرة”.

   ومرة اخرى عادت سيمنز لتتجدد استعدادها ورغبتها في حل أزمة الكهرباء في العراق، من خلال إنشاء خارطة طريق فنية وإستراتيجية متكاملة لتحقيق التكامل في تجهيزِ الطاقة، وإنهاء أزمة المواطنين بشكل تام، بشرط عدم تدخل السفارة الاميركية ببغداد في عملها، في اشارة واضحة الى حجم الضغوط والعراقيل الاميركية عليها في الفترات السابقة.

    وطبيعي ان هذا التوظيف والاستغلال السياسي السيء يتداخل مع الفساد المالي والاداري، والبيروقراطية الشائكة ليبدد اي فرص او امكانيات للتوصل الى حلول عملية ناجعة لازمة الكهرباء العراقية، والا اين ذهبت اكثر ستين مليار دولار انفقت على هذا القطاع الحيوي طيلة ثمانية عشر عاما، دون ان يتغير شيء سوى الوعود الوهمية من قبل الشركات الاجنبية، لاسيما جنرال الكتريك، والتسويف الحكومي، ومثلما يقول النائب السابق في البرلمان العراقي رحيم الدراجي، “إن أكثر من خمسة وستين مليار دولار انفقت على الطاقة الكهربائية خلال السنوات السابقة، وان تلك الأموال اهدرت نتيجة فساد جميع العقود التي وقعت في هذا الملف، وبأسعار تبلغ خمسة أضعاف السعر الحقيقي لها ليسيطر من خلالها الفاسدون والمتنفذون على أموال العراقيين”.

   ومما لايقبل الشك، ان جنرال الكتريك وشركات اخرى، كان لها حصة غير قليلة في عوائد الصفقات والعقود الفاسدة، وهذا يصدق على مجالات وقطاعات اخرى، وقد كان للسفير الاميركي بول بريمر، خلال العام الذي قضاه رئيسا لما يعرف بسلطة الائتلاف المؤقتة(CPA) في العراق بعد سقوط نظام صدام، دورا سلبيا خطيرا وكبيرا في التاسيس لمنظومات الفساد والهدر المالي والانحراف، مثلما اسس لمعادلات سياسية تقوم على المحاصصة الطائفية والقومية والمذهبية، افرزت واقعا سياسيا قلقا ومرتبكا ومضطربا ومتأزما على طول الخط.    

   والملفت انه بسبب التراكمات المتلاحقة، وتشعب حلقات الفساد، ووجود اغلب محركاتها في المراكز العليا، ناهيك عن ارتباطها بدوائر خارجية، لم يعد ممكنا لاي مسؤول، ابتداءا من رئيس الوزراء، مرورا بالوزراء والمؤسسات الرقابية والقانونية المختصة، وصولا الى المفاصل المتوسطة والصغيرة، لم يعد ممكنا محاربة الفساد واجتثاث جذوره العميقة، وهذا ما ينطبق على ملف الكهرباء، وكذلك النفط وغيرهما.

   العامل الاخر في ثلاثية ازمة الكهرباء، يتمثل بالارهاب، ومايؤكد البعد السياسي هنا، هو ان حجم الاستهدافات والحملات التخريبية لابراج وخطوط نقل الطاقة الكهربائية في مختلف مدن ومناطق العراق، خلال الاسابيع القلائل الماضية، تزايدت بشكل ملحوظ، بحيث انها ادت الى حصول شلل شبه تام في الكهرباء، تزامن مع  تجاوز مستويات الحرارة نصف درجة الغليان، اذ ان عشرات ابراج الضغط العالي تعرضت للتخريب، علما ان كلفة اصلاح البرج الواحد تبلغ عشرين الف دولار(ثلاثين مليون دينار عراقي)، وفق ما تذكر مصادر حكومية.

   ويوعز المتحدث باسم وزارة الكهرباء، تفاقم الازمة الى عدة عوامل، من بينها عمليات التخريب المستمرة، مع اهمية التذكير بأمرين، الاول، هو اعلان تنظيم داعش مسؤوليته عن بعض او معظم عمليات استهداف ابراج وخطوط نقل الطاقة، والثاني، هو ان طيران التحالف الدولي الذي يجوب سماء البلاد طولا وعرضا، لم يتخذ اي اجراء او يقوم بخطوة في هذا الشأن، واكتفى  بالتزام الصمت ومراقبة ما الذي يفعله داعش!.         

    وما يعزز البعد السياسي في مجمل ملف الكهرباء، هو الحملات الاعلامية المتواصلة  ضد ايران، وتحميلها المسؤولية، لانها اوقفت او قللت ضخ  الغاز المطلوب لتشغيل محطات توليد الكهرباء، هذا في الوقت الذي يؤكد مسؤولون من طهران، استمرار الاخيرة بتزويد بغداد بالغاز رغم تراكم الاستحقاقات المالية وعدم تسديدها وفقا للاتفاقيات المبرمة.

   الى جانب ذلك، فأنه منذ اكثر من عام راحت اوساط ومحافل سياسية واعلامية داخلية وخارجية، تتحدث وتروج كثيرا لاهمية الربط الكهربائي مع دول الخليج، كبديل اقل كلفة مما هو قائم حاليا، ومن ثم الترويج للمكاسب الاقتصادية الكبيرة-في مجال الكهرباء والمجالات الاخرى-التي سوف تتحقق من وراء انفتاح العراق على كل من مصر والاردن.

   هذه الصورة المرتبكة والمضطربة والقاتمة  لكهرباء العراق، التي رسمتها وصاغتها وبلورتها بالدرجة الاساس الاجندات والمصالح السياسية، لايمكن فصلها وعزلها عن استحقاقات سياسية قريبة، من بينها الانتخابات البرلمانية المبكرة بعد ثلاثة شهور، والمطالبات بأنهاء التواجد الاميركي في العراق، والهجمات الصاروخية المتواصلة، والضغوطات على طهران. وكل ذلك دفع ومازال يدفع ثمنه المواطن العادي المغلوب على امره، سواء استسلم للامر الواقع، او قرر ان يثور غاضبا متظاهرا محتجا في الشوارع والميادين والساحات.