دائماً يظل المواطن العراقي يصنع بداخله الأمل حينما يمٌني النفس بأي تغيير يحصل على المستوى الشخصي أو العام ، كي يعتبره منطلقاً لبداية جديدة ، وإن حجم النكبات التي مرت على مجتمعنا منذ بداية احتلال العراق ولغاية نهاية الحقبة المالكية السوداء ، التي ضيعت البلاد ومستقبله وأدخلتنا في دهاليز ومتاهات ، تمكن خلالها نوري المالكي من إيصال المجتمع إلى أعلى حالات الإحباط ، لتكون بديلة عن حالات السعادة أو التنمية .
ولادة حكومة السيد حيدر ألعبادي العسيرة كان يصاحبها أملاً ممزوجا بالخوف والترقب من الجميع ، لأن السيد ألعبادي رفيق درب المالكي حزبياً وينهلان من ذات الفكر والتوجه ، ولكن ما حصل بطريقة تكليف ألعبادي بمهمة رئاسة الوزراء ، وما صاحبها من ردود أفعال عنيفة من الدائرة الضيقة المنتفعة لمن يمثل المالكي ، وحجم القدح والتشكيك بإمكانية السيد ألعبادي ، والتهم التي وجهت له من قبل أركان حزب المالكي ، يقابلها إصرار السيد ألعبادي على المضي قدماً لقبول التكليف وتشكيل الحكومة ، وما تبعها من بعض الخطوات التصحيحية لبعض المسارات التي صنعها من سبقه ، أعاد الثقة ولو جزئياً مصحوبة بالترقب لنفوس المواطنين أن هذا الرجل يريد أن يضع بصمة مختلفة عما سبقه .
ولكن حينما ننظر كمراقبين وإعلاميين لبعض ما يجري يصنع الحيرة في دواخلنا ، ويضع علامات استفهام كبيرة تنتظر الإجابة من السيد ألعبادي شخصياً ، ومن أطراف حكومته حسب مسؤولياتهم .
الأمر يتعلق بالاتفاق المشبوه والذي يسميه البعض بالغامض ، وهو ليس كذلك ، وإن تم التكتم على فقرات الاتفاقية التحريرية بعيداً عن الأعلام ورأي الشارع ، ولكن هل يُعقل أن يلتزم الصمت البرلمانيين من الكتل المختلفة ؟ وهم اللذين تقع على عاتقهم مسؤولية الأمانة التي وضعها الشعب بأعناقهم وأدوا اليمين على هذا الأساس في عدم التفريط بمصالح الشعب والوطن ؟؟
اتفاقية عادل عبد المهدي وزير النفط الحالي مع السياسيين الأكراد بخصوص حل إشكالية حصة المحافظات الثلاثة الشمالية من الموازنة ، من خلال حل الأشكال الأهم وحجر الاختلاف بهذه النقطة ، وهو ( قيام الطرف الكردي بالتصرف ببيع النفط العراقي من المحافظات الشمالية المذكورة ، خارج سلطة شركة تسويق النفط – سومو ) وعدم معرفة الحكومة ببغداد بآلية الإنتاج أو التصدير أو الأسعار أو المردودات ، وعدم معرفة الشعب العراقي بوجهة أموال النفط التي يتصرف بها السياسيين الأكراد من دون رقيب أو حسيب ، ومطالبتهم بالمقابل بالحصول على حصة من الميزانية العامة بنسبة لا تقل عن 17% من قيمة الميزانية العامة .
ماذا جرى ؟ وكيف تم الاتفاق بوقت قصير جداً ، وكأن عصى موسى قد سلمت للسيد عادل عبد المهدي ، وحل هذا الأشكال الذي استعصى طيلة السنين الماضية .
بالتأكيد الأمر ليس كذلك ، لأن الأمر ببساطة لا يرتبط بنوعية حوار وتفاوض المتفاوضين ، أو تنازل كل طرف قليلاً عن بعض التزاماته تجاه الأخر ، ولكن الأمر مرتبط أصلاً بقبول التنازل عن كركوك ، وتسليمها للبرزاني من دون مقابل حتى تصبح ظروف الانفصال وتقسيم العراق جاهزة ، وحتى يصبح لدى الانفصاليين عاملاً اقتصاديا يسندهم لأعلان دولة مستقلة ، المالكي بدوره وطيلة سنين حكمه لم ينجح بإيصال هذا المشروع إلى مرحلة الكمال المطلوبة ، لأنه كان يخاف من ردة فعل الشارع العربي والتركماني وآخرين ، ولم تكن الوسائل العملية متوفرة لديه ، ولكنه كان قد فعل وبكل فخر ، من تهيئة الأسباب الموجبة سياسياً وأمنياً لحصول ذلك وكان يعمل بكل جد ، وبالتشاور السري مع البرزاني ، من خلال غرفة عمليات مشتركة على أن يظهر المالكي بمظهر الحريص على العمل ضد فكرة الأقاليم ، والدفاع عن فكرة تقوية المركز ، كي يقول الأكراد وغيرهم أنها الدكتاتورية الجديدة وضياع حقوق المواطنين ، ويظهر البرزاني بطلاً بنظر الأكراد يدافع عن حقوقهم من الدكتاتور الجديد ، مقابل أن يغض البرزاني الطرف عن ممارسات قام بها المالكي والمقربين منه كان على البرزاني والكتلة الكردية بالبرلمان أن تمنع تمريرها ، ولكن فكرة كما يسمى شعبياً ( شيلني ، وأشيلك ) كانت هي شعار التعاون السري بين الرجلين ، وبخط موازي كانت إسرائيل والولايات المتحدة تعمل لصناعة حركة داعش بالمنطقة ، لضرب سوريا وتقسيمها كي تخلص إسرائيل نهائيا من سوريا الداعمة لحركات المقاومة ضدها ، مثل حماس وحزب الله ، فكان لابد من الاستفادة من وجود داعش لتحقيق الحلم الانفصالي للأكراد وشرعنة وجود كيان جديد ، لديه مشتركات متجذرة بكراهية العرب ، وتكريس احتلال فلسطين ، وضرب حركات المقاومة بالمنطقة ، وتقوية الحركة الصهيونية ، وكل تلك الأهداف وغيرها هي مطلوبة لبعض السياسيين الأكراد الحالمين وإسرائيل بذات الوقت ، فأصبح سيناريو داعش تصل لحدود أربيل وكركوك ، هي خير فرصة تاريخية ليتم الانتهاء من رسم حدود الدويلة الجديدة بكل طاقاتها السياسية والاقتصادية ، كان الوقت قصيراً جداً ومحدوداً قبل أن يخسر المالكي لكرسي رئاسة الوزراء ، فأتخذ البرزاني قراره على عجل حينما دخلت عصابات البيشمركة لكركوك فاحتلتها على مرأى من عيون الأشهاد ، بعدما وفر المالكي جميع الأسباب الموجبة لحصول ذلك ، وذلك بوجود جيش منكسر وقيادات عسكرية هربت وجلست في أربيل لاستلام مكافئاتها ولابد من تركيز الأعلام على ضياع الموصل وليس ضياع كركوك حتى ينشغل الرأي العام بمكان آخر .
ذهب السيد عادل عبد المهدي بليلة ظلماء لم يستغرق من الوقت إلا يوماً واحداً ليعقد أتفاق يقوم بموجبه الأكراد بتسليم 150 ألف برميل نفط خام يومياً للمركز مقابل تسليم حصة الأكراد من الموازنة ، وتعويض الأكراد بمبالغ نقدية عن بعض المتأخرات ، وتم زيادة حصتهم من الموازنة العامة إلى 18% أنه الدلال ، حيث وهب الأمير ما لا يملك.
أنها مهزلة ، ولكن الأهم أن هذا النفط الذي سيتم تسليمه هو بالأصل من نفط كركوك وليس من النفط المتنازع عليه أصلاً وتم تكريم الأكراد على فعلتهم بأنهم سيصدرون كمية مساوية لما سيسلمونه لبغداد حسب مزاجهم وطريقتهم الوهمية ، لأن حقول كركوك تنتج أصلاً 300 ألف برميل طيلة الفترة الماضية .
الأخطر من كل ذلك إن ما حصل هو اعتراف ضمني وواقعي بأن الأكراد استولوا على كركوك عملياً وأصبح نفطها تحت سلطتهم ، وتحولت إدارة شركة نفط الشمال بكل رصيدها الإداري
والمالي والمهني والاقتصادي ( ببلاش ) إلى البرزاني ، والغريب أن الأخوة التركمان لا صوت لهم لأن من المعروف عنهم أنهم كانوا يتناصرون مع أخوتهم العرب في كركوك طيلة السنين الماضية لأن ممارسات الأكراد من خلال سطوة البيشمركة و الأسايش كانت ترتكب جرائم القتل والخطف والاغتيال والتهجير بحق العرب والتركمان معاً ، لأن التركمان يمرون حالياً بمأزق تخلي أردوغان عنهم لصالح الفوائد الكردية المالية الهائلة ، نتيجة ضعف حكومة بغداد ، وهزالة جيشها الذي صنعه المالكي من ورق الفضائيين وتأجيل الدفاع عن دمائهم المهدورة إلى وقت آخر قد يحتاج البعض للمتاجرة بها .
لم يولد هذا الاتفاق المشبوه من الفراغ ، بل جاء نتيجة ما فصلناه من تحضيرات ، ولكن ماذا عن السيد ألعبادي ؟ أين رأيه بما جرى ؟ وكيف يرضى عن بيع كركوك وعدم الطلب من الأكراد إعادتها لعراقيتها ؟ وإن كان يعتقد أنه يضع الحجة بسبب عدم وجود قوات مسلحة مؤهلة حالياً لحمايتها ، مما دعاه للسكوت عن تواجد البيشمركة مؤقتاً ، فهل هذا يدعوه إلى التنازل وشرعنة تصرف الأكراد بعصب النفط في كركوك ليصبح واقع حال في ما بعد ؟؟ أنه سؤال يستحق الإجابة ممن يعنيه الأمر؟ أم هي فكرة إبراز النجاح السياسي بتقليل الأزمات بين مختلف الأطراف حتى وأن كانت على حساب الثوابت ومستقبل الأجيال ؟