يرى الكثير من النقاد المتخصصين بالسياسة الدولية , ان اهتمام حكومات الدول بالاتفاقيات السياسية يتنوع بين الواضحة امام انظار الشعب وبين السرية المبرمة بأي حال من الاحوال وراء ظهره . والحكومة التي تهتم بالنوع الاول من الاتفاقيات , هي في الغالب حكومة اسلامية تتمتع بإرث حضاري وثقافي راسخ ومتميّز ولا يوجد شبيها له في اي أمة اخرى ,
لثرائه بالتجارب والأمثال والعبر ولا ترغب بانتهاكه في حال ابرام اتفاقية سرية تتنازل بها عن ضوابط عدل وحقوق وطنية بإطار سياسي علماني كالذي تتبعه امريكا والدول الاوربية فيضعها الشعب في دائرة للشك ,
وبهذا الانتهاك تكون حكومة اسلامية تتخذ من الدين غطاء لاستمرار وجودها , وتؤسس بهذا الشك فجوة اخلاقية تلتهمها تدريجيا وطامة كبرى تلتهم الوطن والشعب معها , لأنها انفصلت عن ذلك الإرث فكرا ومنهجا وشرعية لمصالح طبقتها السياسية الحاكمة , او لرضوخ وهيمنة او ولاءات خارجية لضمان بقاء اعضائها بالسلطة .
اما الدولة التي تهتم بالنوع الاول وفيها ملحق او فقرة من النوع الثاني , فإنها مع الثمن الذي تدفعه كما اشرنا اليه ستدفع الشعب ايضا الى تبني الشعور بخيبة الامل المستمرة من جرائها والانغماس في عملية النقد ليتمكن من الهروب من المناخ الذي صنعته تلك الخيبة والعبء النفسي الذي صنعته الحكومة ,
بينما الحكومة في ازاء هذه العملية النقدية وانفصالها عن الإرث الثقافي ستلجأ الى الصمت , والى إشاعة مشاريع وفعاليات استعراضية لأهداف لا وجود لها على الارض لتمتص بها نقمة الشعب تارة , وتكتم بها عيوبها امام الشعب تارة اخرى .
علما ان شدّة هذه العملية النقدية سينجم عنها , حتما , ذريّة من اصناف المناوئين في الداخل الذين شهدوا انتهاكات الدولة الخاصة بإبرام الاتفاقات السرية , والمناوئين في المنفى الذين اجبروا على الهجرة بسبب التهميش وفقدان العدالة ,
فضلا عن الارهاب وتفكك المجتمعات داخل الدولة من جرائه , وعن المتحزبين المعارضين لتوجهات الدولة المهيمنة على مفاصل الحكم بائتلاف احزابها الداعمة لمصالحها.
ولفهم هذا المبدأ الذي تتبعه الحكومة , لابد ان نعود الى الدعائم الجذرية التي اسسته , إذ لا يمكن لأي حكومة ان تلجأ اليه او تتبنّاه مالم يكن هناك تبنّي لثقافة سياسية غير متبلورة اخلاقيا وشروط خاصة تجعل الاتفاق السري ممكنا ,
سيما ان العملية النقدية هي عملية منتجة لبنية سياسية تروّج الى ازالة الحكومة عندما تتيقظ بها فكرة لماذا هذا النمط من الاتفاقيات السرية إن لم تكن هناك ميزة عمالة او زيف وعدم شرعية في جزء من تشكيل بنية الحكومة ؟!
وهذه الميزة هي التي تدفع حاليا الى اظهار عدم التكافؤ في العلاقات بين الدول وتتعارض حتى مع اجناس المشاريع الحقيقية على الارض , لذلك تلجأ الحكومات الى الاعلان عن مشاريع وفعاليات وزارية وهمية وزائفة لتقويض العملية النقدية من ناحية , ولردم جزء من فجوة عدم الثقة التي صنعتها وقبعت في اذهان الشعب من ناحية اخرى ,
الشواهد على هذا النوع من الحكومات كثيرة وخاصة في ظل الهيمنة الامريكية على الدول التي تمتلك بنية جزئية من تلك الثقافة السياسية المتجسدة على الدوام في شخصيات تافهة وفارغة من أي رؤية سياسية او جهد ثقافي انساني تميّزها بالنضوج من بين البنى الحكومية الاخرى .
وهذه الشخصيات هي اللعنة البشرية المنزلة على الشعوب , فمنهم من تسلق المناصب الحكومية باختيارات واهتمامات فئوية لفرض تلك الثقافة التي من اهم اهدافها ممارسة الحكم على حساب مصلحة البلاد والشعب ,
وهذه اللعنة تقود البلاد الى التمزق والتفكك لأن الشخصية التافهة عندما تكون احد اركان صانعي القرار السياسي , ستستمر بعقد الاتفاقيات السرية ولا تتعامل بوعي وجدية مع ثقافتها وارثها التاريخي من ناحية , لتوثق تأريخها بأسس بناء الوطن تؤيد نشاطاتها الانسانية امام الشعب , بل على العكس تكرّس الضعف لأنها هي نفسها ضعيفة اينما تسللت في مفاصل الدولة وتصنع لها اسباب النقد في مراحل مبكرة ومن بعد الزوال من ناحية اخرى .
ان اختلاق الحرب العراقية – الامريكية والتدمير الذي جاءت به للعراق لابد وقفت ورائه شخصية مؤثرة اظهرت ضعفا دفعها الى عرض اتفاقات سرية سابقة او لاحقة عرضتها على امريكا لتحفظ لها ديمومة حكمها , بينما تبينت بسبب العروض التي قدمتها المفتاح الذي استغلته امريكا لزوال حكمه لبسط نفوذها عليه , مثلما كانت وراء نكبة فلسطين عام 1948 شخصية عبد الحميد الثاني الضعيفة نفسها التي شجعت بريطانيا على احتلال فلسطين ,
وهذا الامر لا يدهش البعض من انه يشجع امريكا والغرب على التوسع نحو دول الشرق بهذه الطريقة كبديل عن الاستعمار القديم , ولا يدهش ان من اسس هذا التوسع هي قوى من داخل تلك الدول مهمتها عقد الاتفاقيات السرية مثلما تعقد الزانيات ارحامهن خوف الفضائح.