22 نوفمبر، 2024 6:07 م
Search
Close this search box.

الابداع في نقد غرامشي للدين

الابداع في نقد غرامشي للدين

” ان نقد الدين هو الشرط الممهد لكل نقد”  (كارل ماركس)

ساد اعتقاد لدى عامة الناس في الثقافة العربية أن الجدلية المادية عند ماركس تتناقض جوهريا مع الدين وأنها تنشر الالحاد والاباحية أو على الأقل تعتبره مسألة شخصية لا يجوز اقحامه في معترك الحياة السياسية وهذا الأمر لا توجد حوله كتابات كثيرة وظل قضية خلافية ومسألة يمكن مراجعتها، والاشكال الذي يطرح هنا يتمثل في امكانية وجود موقف آخر لماركس من الدين ومدى قدرة أنطونيو غرامشي تجاوز النظرة التقليدية لماركس للدين كزفرة لمخلوق مضطهد وأفيون للشعب وتقديم هذا الفيلسوف الايطالي الذي واجه بشجاعة كبيرة النظام الفاشي الشمولي لموسيليني نظرة ايجابية عنه ؟
ما يبرر الاهتمام بغرامشي هنا هو قراءته العقلانية للظاهرة الدينية وتوظيفه اللامع لكلام ماركس عن “صلابة المعتقدات الشعبية” وقوتها باعتبارها عقائد عضوية ضرورية تاريخيا وصحيحة نفسيا لأنها ّتتدخل في تنظيم الكتل البشرية وتشكل الأرض التي يتحرك عليها البشر ويعون مواقفهم ويناضلون”[1]، ولكون هذه المعتقدات من العناصر التي تتكون منها الثقافة الوطنية ويمكن توظيفها ثوريا من أجل بناء المشروع المجتمعي المستقبلي وتمييزها عن العقائد التحكمية التي تؤدي وظيفة رجعية وتخدم الطبقة المهيمنة وتقتصر مهمتها على اتاحة الفرصة لبروز حركات فردية ومجادلات عقيمة.
هل تتمثل مهمة الفيلسوف الديمقراطي الذي ينظر لوجوده غرامشي في الفضاء العمومي في مقاومة النزعة الإيمانيّة (الاعتقاد) والضياع الديني (الإلحاد) في الآن نفسه؟ ماذا يقصد غرامشي بكلمة الروح عندما قال:”لا يمكن الكلام على الروح في مجتمع منقسم الى فئات دون استنتاج ضروري”؟ وهو يرى أن المقصود بذلك هنا هو روح الكتل الاجتماعية “أما بعد تحقيق وحدة المجتمع فيمكن الكلام على الروح ( في اطمئنان)”[2].
هذا الكلام هام وبثير العديد من النقاط خاصة حول قضية المادة بماهي مبدأ فلسفة غرامشي فها نحن نراه هنا يصل الى مبدا آخر هو الروح في ظل محتمع لاطبقي.فالى أي مدى يستقيم هذا الكلام؟
يطرح غرامشي سؤال مهم آخر هو: هل يجب على انسان الشعب أن يبدل معتقداته اذا كان لا يعرف كيف يدافع عن موقفه في النقاش؟ والجواب عنده هو أن تعمل فلسفته على رفع المستوى الفكري للجمهور واصلاح فلسفة الطبقات الشعبية وتكوين حس سليم يتصف بالقدرة على الاقناع والتأثير. لذلك هو يحاول هنا أن يصلح الكاثولوكية وخاصة اصلاح تصورها للانسان الذي تضع في فرديته سبب الشر.فكيف تمكن من النظر الى الدين نظرة ايجابية في ظل اخضاعه الى النقد ومناداته بعلمنته وفي ظل دعوته الى توظيفه اجتماعيا طالما أنه يمتلك قيمة سياسية وليس قيمة فلسفية؟
زد على ذلك الانتباه الى إسقاط المترجم العربي ميخائيل إبراهيم مخول الذي نشر الكتاب ضمن سلسلة “أصول الفكر الاشتراكي” منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1973 لبعض نصوص غرامشي حول علاقة الدين بالسياسة والثقافة وخاصة فصل الدلالة اليوطوبية للدين[3] وفصل أخر حول “الحس السليم والأديان” سأقوم باستنطاقه ذكر فيه غرامشي أن العناصر الأساسية التي يتكون منها الحس المشترك هي الأديان أكثر من النسق الفلسفي للمفكرين ودعا الى التمييز النقدي بينها ورأى كل دين بما في ذلك الكاثوليكية يمكن أن يتشعب الى عدد غير محدود من الأديان المتميزة والمتعارضة أحيانا، اذ هناك كاثولكية الفلاحين وكاثوليكية البرجوازية الصغيرة وعمال المدن وهناك كاثوليكية النساء وكاثوليكية المفكرين وهي خليط من اتجهات ونزعات متعددة وتفتقد الى الوحدة. غير أن أنواع الكاثوليكية التي تهيمن على الحس المشترك ليست الصور الأكثر انتشارا وبلورة بل ان الذي يلعب دور المحدد للحس المشترك هي الصور السابقة والموروثة والهرطقات والنزعات التجديدية والثورات العلمية المرتبطة بديانات الماضي. ان الذي يهيمن على الحس المشترك هي العناصر الواقعية المادية التي هي انتاج مباشر للاحساس وهو أمر لا يتعارض مع العنصر الديني بل بالعكس هي عناصر اعتقادية وخارج مجال النقد Acritique.[4]
لابد من رصد مجموعة من الملاحظات التي يبديها غرامشي تجاه مسألة الدين وفهم الأسباب والمغزى التي جعلته يعطي للظاهرة الدينية معنى ايجابيا:
*أولا تشبيهه لعلاقة ماركس ولينين بعلاقة اليسوع وبولس،فاذا كان عمل ماركس قد انصب في اتجاه انتاج تصورات جديدة للعالم تغذي الثقافة في حقبة تاريخية معينة فان دور لينين تمحور حول الانتقال من الطوباوبة الى العلم ثم الى العمل بأن تحققت فلسفة ماركس كنظرية مطبقة مدعوة الى أن تكون دولة، وبالمثل اذا كان المسيح هو الواضع لتصور العالم فان القديس بولس هو المنظم والمحقق والناشر لهذا التصور.
*لا سبيل الى حياة دون فلسفة ولكن لكي تصل الفلسفة الى كل الناس لابد ان تتحول الى فطرة سليمة وحس مشترك لان الفلسفة عند الجمهور لا يمكن ان تكون الا ايمانا ، هنا يدعو غرامشي الى ضرورة الانطلاق من الفلكلور واحترام مكونات الثقافة الوطنية وبما أن الجمهور له مجموعة من المعتقدات الصلبة فانه يجب نقدها من أجل بناء حس عام جديد يتم تأصيله في وجدان الجمهور بقوة المعتقدات التقليدية وعن طريق صلابة الأراء الدينية وقدرتها على التأثير والاقناع والتجميع.
وبالتالي لايجب أن نتعامل مع المعتقدات من وجهة نظر صحتها أو خلوها من الحقيقة الواقعية باعتبارها نوع من الميتافيزيقا بل يلزم أن ننتبه الى وظيفتها الاجتماعية ونجاعتها السياسية في الضبط والتأطير.
• يؤكد غرامشي على أن دخول الفلسفة الجديدة في معركة مع اللوحة العقائدية القائمة يؤدي حتما الى الخسارة واضعاف لماهو جديد ويقترح احداث حركة تقدمية ذات ايقاع بطيء وممنهج داخل المعتقدات الدينية التقليدية تهدف الى التعامل مع معطيات المقدس والايمان وفق مقتضيات العلم والفلسفة.
• يقول غرامشي حول هذا الموضوع:”لقد قامت قوة الديانات وخصوصا الديانة الكاثوليكية في الماضي والحاضر، على شعورها القوي بضرورة الوحدة في العقيدة عند الجمهور الديني كله وعلى نضالها في سبيل الحيلولة دون انقطاع الطبقات المتفوقة فكريا عن الطبقات الدنيا”.[5]
اذا كانت الثورات الثقافية الواعدة هي التي تقطع مع الاهتمامات الفكرية الضيقة للنخب وتتجه نحو الجمهور وتقيم روابط عضوية مع الناس فانه من المنطقي أن تعول على صلابة المعتقدات الشعبية وديانة الجماهير ختى تتمكن من التغلغل والانتشار.اذ صحيح أن الدين من حيث الحقيقة الابستيمولوجية هو فلسفة طفولة البشرية ولكنه من حيث مقامه الوجودي لا يتناقض بالضرورة مع وظيفة ثورية ممكنة. وصحيح أن الموقف العقلاني يقتضي القيام بعلمنة جذرية للمقذس وخلع لللأسطرة عنه ولكن ذلك لا يمنع من استخدامه من أجل تمتين اللحمة الاجتماعية والتماسك النفسي للانسان. ألم يقل ماركس في هذا الاتجاه:” موقف الدولة من الدين، الدولة الحرة خاصة، انما هو موقف الناس الذين يشكلون الدولة من الدين وحسب.” [6]
يترتب عن ذلك أن نقد المجتمع والاقتصاد والثقافة لن يتحقق ويصل الى مبتغاه الا بعد القيام بنقد للدين وتحييده عن التوظيف الرجعي والرأسمالي واكتشاف أبعاده العقلانية وطاقته الثورية. فماهو دور الفلسفة في تفجير هذه الثورة الثقافية؟ وألا يتطلب الأمر وثبة جدلية من النظر الى العمل وصعود من النقد الى البراكسيس؟ أليس الإبداع الحقيقي هو الفعل المغير لوجه التاريخ ؟
[1] جاك تكسيه غرامشي دراسة ومختارات ترجمة ميخائيل إبراهيم مخول سلسلة أصول الفكر الاشتراكي منشورات وزارة الثقافة الإرشاد القومي دمشق 1973 ص217
[2] جاك تكسيه غرامشي دراسة ومختارات ترجمة ميخائيل إبراهيم مخول سلسلة أصول الفكر الاشتراكي منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1973 ص200
[3] Jacques Texier Gramsci et la philosophie du marxisme
Signification utopique de la religion : « cela ne signifie pas que l’utopie ne puisse avoir une valeur philosophique, car elle a une valeur politique , et toute politique est implicitement une philosophie, encore qu’à l’état de fragments et l’ébauche . c’est en ce sens que la religion est la plus gigantesque utopie , c’est-à-dire la plus gigantesque « métaphysique », qui ait apparu dans l’histoire, car elle est la tentative la plus grandiose de concilier sous une forme mythologique les contradictions réelles de la vie historique : elle affirme en effet que les hommes ont la même nature q’existe l’homme en général, en tant que créé par dieu, fils de dieu, et partant frère des autres hommes et comme les autres hommes,et qu’il peut se concevoir tel en se voyant lui-même en dieu, auto-conscience de l’humanité , mais elle affirme aussi que tous cela n’est pas de ce monde , mais sera réalisé dans un autre monde( utopique). Ainsi fermement parmi les hommes, les idées d’égalité, de fraternité , de liberté, parmi ces couches d’hommes qui ne soivent ni les égaux ni les frères des autres hommes,ni libres par rapport à eux. C’est ainsi qu’il est arrivé que dans toute agitation radicale des foules, d’une façon ou d’une autre, sous des formes et des idéologies déterminées, ont été posées les revendications. » Ed Seghers paris 1966 p154/153
[4] Le sens commun et les religions : « les éléments principaux du sens commun sont fournis par les religions et par cosequent le rapport entre sens commun et religion est bien plus étroit qu’entre sens commun et système philosophique des intellectuels. Mais pour la religion aussi il faut distinguer critiquement . toute religion , même la religion catholique ( disons même surtout la religion catholique , si on pense à ses efforts pour sauvegarder son unité superficielle, pour ne pas se fragmenter en église nationales et en stratifications sociales) est en réalité une pluralité de religions distinctes et souvent contradictoires : il y a un catholicisme des paysans, un catholicisme des petits-bourgeois et des ouvries de la ville , un catholicisme des femmes et un catholicisme des intellectuels lui aussi bigarre et dépourvu d’unité. Mais sur le sens commun, n’influent pas seulement les formes les plus grossies et les moins élaborées de ces différents catholicismes, actuellement existants : on eu également leur influence et son composante de l’actuel sens commun les religions précédentes et les formes précédentes de l’actuel catholicisme, les mouvements hérétiques populaires, les superstitions scientifiques qui se rattachent aux religions passées etc. Dans le sens commun prédominent les éléments réalistes matérialistes, c’est-à-dire le produit immédiat de la sensation brute, ce qui d’ailleurs n’est pas en contradiction avec l’élément religieux, bien au contraire, mais ces éléments sont superstitieux, acritiques… » Jacques Texier Gramsci et la philosophie du marxisme Ed Seghers paris 1966 p108

أحدث المقالات