-1-
لا نذيع سرّا اذا قلنا :
ان الابتكارات هي العملة النادرة ، لا في العلوم فحسب بل في العلوم والآداب والثقافة والفنون …
ان اصحاب البراعة في الابتكار هم – في الغالب – نُخبُ قليلة ، ولكنهم يتفوقون بابتكاراتهم على فئات كثيرة من زملائهم، الذين لم يلامسوا خط الابداع الابتكاري …
-2-
وللشعراء ابتكاراتُهم التي لا تُنكر ..،
وانها ليست محصورةً في المعاني التي يصطادونها اصطيادا …
وانما تكون لهم ابتكاراتُهم حتى في مكافأة من آنسوا منهم لُطفاً ، وارتاحوا اليهم لِمَا لمسوه من حُسْنِ أخلاقهم وسيرتهم .
-3-
وقد وقفنا على قصة مؤثرة ، ذات دلالات بليغة لا في المضمار الأدبي فحسب بل في ميادين الاعتداد بالنفس ، والقدرة على إحداث المفاجأة الغريبة ، والحصول على القدح المعلّى بجدارة وفنّ …
والقصة باختصار ، كما رواها المقريزي في كتابه (المقفى الكبير) ج1/466 – 467 تقول :
ان دعبل الخزاعي وولده عزما على الحج ، وفي طريقهما اليه أخذا كُتبا الى ” المطلّب بن عبد الله ” أمير مصر، وقد صحبهما في الطريق رجل يُعرف (بأحمد السراج) كان بارّاً بهما ، وقد رأيا منه خُلقا وأدبا .
وقد علم بمقصدهما أيضا .
فأرادا – ومن باب المكافأة له على حسن الصنيع – أنْ يُنحِلاهُ قصيدةً تُمكنّه من الحظوة عند (المطلّب) ونيل جوائزه …
وحين عرضا الأمر عليه ، قال :
(إن شِئْتُم)
وأراهما سروراً بذلك وتقبلا له “
فعملا له القصيدة ، واتفقا معه على أنْ يقرأها عند المطلّب .
يُلاحظ هنا :
ان تكريم دعبل وولده للسّراج كان (معنويا) ولم يكن (مادياً)، وقد تمثّل بإعداد “قصيدةٍ” قُدّمت له لتكون المدخل الى قلب (المطّلب) وعطاياه..!!
وانهما ابتكرا هذه الوسيلة لتمكينه من ذلك ..!!
انّ هناك الكثيرين ممن يسطون على كتابات وقصائد لكتُّاب وشعراء مختلفين، وينسبونها الى انفسهم جزافا ، وهم في ذلك يسرقون النتاج الفكري والأدبي ، مثلما يسرق غيرُهم الأموال ، في عملية دنيئة وقحة ، مرفوضة عند كل المنصفين، وبكل المعايير والموازين .
أما هنا : فنحن أمام من يُقدّم (القصيدة) على طبق من الرضا، الى مَنْ يريد إكرامه ومكافأته، والاكرام بالقصيدة ما هو الاّ ابتكار لأسلوب جديدٍ في التقدير والإكرام ..
وحين وصل دعبل وابنه مصر ، ودخلا على المطّلب وأوصلا اليه الكتُبُ وأنشداه ما أنشداه ، فرح بهما ، وسُرّ بذلك .
ثم انهما حدّثاه عن (احمد بن السراج) ووصفاه له، فاستدعاه ودخل عليه السّراج فأنشد :
لم آت مطّلِباً إلاّ بمطّلَبِ
وهمةٍ بلغتْ بي غايةَ الرُتبِ
أفردتُه برجائي أنْ تشاركه
فيّ الوسائلُ أو ألقاهُ في الكُتُبِ
وأشار الى الكتب التي أوصلها دعبل وابنه اليه ..!!
وكانت تلك مفجأة صاعقة لهما حتى قال دعبل :
( وكان ذلك أشدّ شيء مَرَّ علينا )
ولم يكتف ابن السراج بذلك حتى قرأ قصيدة للمطلب جاء فيها :
اني استجرتُ باستارينْ مستلماً
ركنين : مطّلباً والبيتَ ذا الحُجب
فذاك للآجل المرجو آملُه
وانت للعاجل المرجوّ في الطَلَبِ
هذا ثنائي وهذي مصر سانحة
وأنت أنت وقد ناديتُ عن كثبِ
” فصاح المطّلب :
لبيك لبيك ..!!
ثم قام اليه فأخذه بيده ، وأجلسه مَعَه ، وقال :
يا غلمان :
البدر !
فأمر له بشيء كثير “
وهكذا فاجأ (ابن السرّاج) دعبلاً وولده، وأظهر أنه ليس ممن تُنتحل له القصائد، بل هو مِمِنْ يعرفُ مِنْ أين تؤكل الكتف ، وكيف يصطاد بالشعر قلوب الأمراء .
لقد استدرج ” ابن السّراج ” دعبلاً وولده الى موقف لم يكونا قد حَسِبا حسابه، وهذا هو معنى المفاجأة الغريبة ،
وقد ختم اللقاء باساءة لهما، بعد أنْ كانا قد أكبراه على حسن تعاطيه معهما ..
والأمور – كما قيل – بخواتيمها .
ان التاريخ سجّل لدعبل وولده منقبة أخلاقية تُمدح ، وسجّل ” لابن السّراج” موقفاً لا يرتضيه المنصفون …