لَمْ تَنتَهِ حياةُ الإِمامِ مُوسَى بنِ جعفرٍ(ع)، فِي الخَامِسِ و العِشرينَ، مِن شَهرِ رَجبٍ، مِن عامِ ثلاثَةٍ و ثمانينَ بَعدَ المِئَةِ، مِن الهِجرَةِ الشَّريفَة. لقدّْ بَدأَتْ حياةُ خلودِ الإِمامِ الكاظِمِ(ع)، عندَما أَكرمَهُ اللهُ تعالى بالشَّهادَةِ، في سَبيلِ إِحياءِ شَريعَتِهِ السَّمحاء. فبدأَتْ حَياةُ الإِمامِ(ع) ،حيّةً تعيشُ في أَرواح مُحبّْيهِ، و ضَمائرِ عاشِقيهِ، يَنهلونَ مِن تَجربتهِ الرِّساليَّةِ مَعاني الجَلَدِ و الصَّبرِ و الكِفاحِ، ضِدَّ أَسالِيبِ عُتاةِ الأُمَّةِ، و طواغِيتِها و جبابِرَتها و ظَلَمَتِها. فَلا زالَ الرِّساليّونَ السَّائرونَ، على مَنهَجِ أَئِمَّةِ أَهلِ البيّتِ المَعصُومينَ(ع)، حتّى اليومَ، يَدفعونَ الدِّماءَ البريئةَ، كضريبةٍ لوَفائِهِمْ و تَمسُكِهِمْ، بخَطِّ الإِسلامِ الصَّحيحِ، و حُبِّهم له.
إِنَّ الوعدَ الإِلهيّ، ببَقاءِ ذِكْرِ أَهلِ البيّتِ(ع)خالدٌ، ذَكَّرَتْ بِهِ السَّيدَةُ زيّنبُ بنْتِ الإِمامِ عليّ(ع)، عندَما أَلقَتْ خُطبَتَها، في مَجلِسِ يَزيدٍ بن مُعاويَةِ (لعَنَهُمَا اللهُ)، قائلةً: (فَو اللهِ الّذي شَّرَفنا بالوَحي و الكِتابِ، و النُبوَّةِ و الانتِخابِ، لا تَدرِكُ أَمَدَنا، ولا تَبلِغُ غايتَنا، ولا تَمْحو ذِكرَنا، ولا يُرحَضُ عنكَ عَارُها.).
لقدّْ كانتْ تنتظرُ الإِمامَ موسى بن جعفرٍ(ع)، مهامٌّ رساليّةٌ عظيمةٌ. فقدّْ أَدركَ الإِمامُ(ع)، فترةَ اتّساعِ نُفوذِ الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ، وهي في شَبابِ قوَّتِها، و جَبَروْتِ سُلطَانِها. فأَصبحَ(ع)، إِماماً للأُمَّةِ بعدَ استشهادَ أَبيهِ(ع)، عَامِ(١٤٨ه). (فعاصر في سنيّ إِمامته (١٤٨-١٨٣ه)، أَربعة من حكام بني العباس، تتمثل في بقية ملك المنصور أبي جعفر(١٣٦-١٥٨ه )، ثم ملك ابنه المهدي (١٥٨-١٦٩ه) ، ثم ملك ابنه الهادي موسى(١٦٩-١٧٠ه)، ثم ملك أخوه هارون الملقب بالرشيد(١٧٠-١٩٣ه) ، واستُشهد الإمام الكاظم عليه السلام بعد مضي ثلاث عشرة سنة من ملك هارون.)(انتهى)(الإمام موسى الكاظم (ع) سيرة و تاريخ/ علي موسى الكعبي(بتصرف)).
في فترةِ إِمامَةِ الإِمامينِ الصَّادقِ و الكَاظِمِ(ع)، حَصَلَتْ الثَّوراتُ التاليَةُ، ضِدَّ ظُلمِ و طُغيانِ السُلطةِ، الّتي كانَ حُكَّامُها العبَّاسيّون، يُبَذِّرونَ ثَرواتِ الأُمَّةِ، على مَجالسِ الغِناءِ و الفَواحِشِ، و يُحاربونَ كُلَّ صَوّْتٍ، يدعوا إلى إِقامَةِ حُكْمِ الإِسلامِ، بالحقِّ و العَدل. فانطَلَقَتْ أَهَمُّ الثَوّراتِ المُناصِرَةِ للعَلويينَ، في تلكَ الفَترة. الأَمرُ الّذي هَدَّدَ سُلطانَ العبّاسيينَ بشدَّةٍ، و كانَ من هذهِ الثَوّراتِ مايلي:
1. ثَوْرَةُ محمَّدٍ ذِي النَّفسِ الزَّكيَّةِ، (محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب) ،سنة ( ١٤٥ ه ).
2. ثَوْرَةُ ابراهيمَ أَخي مُحمَّدٍ ذِي النَّفسِ الزَّكيَّة( ١٤٥ ه ).
3. ثَوْرَةُ عبدِ اللهِ الأَشترِ بن محمَّدٍ ذِي النَّفسِ الزَّكيَّة( ١٥١ ه ).
4. ثَوْرَةُ الحُسيّنِ شهيدِ معركَةِ (فَخٍّ)، (هو الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى بن الحسن السبط(ع))(169ه).
5. ثَوْرَةُ يَحيى بن عبدِ اللهِ، (هو يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)). و أعلن دعوته سنة ( ١٧٦ه ).
6. ثَوْرَةُ إدريسَ بن عبدِ الله.(هو إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى ابن الحسن بن علي بن أبي طالب(ع)، مؤسس دولة الأَدارسة في المغرب، و تمّ له الأمر في رمضان سنة ( ١٧٢ ه )).
7. ثَوْرَةُ يوسُفَ البَرِمِ،(وهو رجلٌ من موالي ثقيف بخراسان و بخارى)، سنة ( ١٦٠ ه )).(المصدر السابق).
لقدّْ واجَهَ المنصورُ العبَّاسيّ و ولديّهِ الهاديّ و المهديّ، و أَخيهِ هارونَ، تلكَ الثَّوْراتِ، بأَشْرَسِ عُنْفٍ و أَشَدِّ بَطشَة. كما كانَ يَقتُلُ كُلَّ مَن يُشتَبَهُ بِهِ، بأَنَّهُ مواليٌ للثوّارِ العَلويّين. (وكان ولاةُ الحكَّامِ العباسيّينَ، يقتلونَ النّاسَ خِلسَةً على التُّهمةِ بالدعوة للثوّار العلويين، قال العباس بن سَلَمْ مولى قحطبة 🙁 كان أبو جعفر(العباسي)، اذا اتَّهمَ أَحداً من أَهلِ الكوفَةِ، بالمَيْلِ إِلى إِبراهيمَ (أخي محمد ذي النفس الزكية)، أَمرَ أَبي(سَلَمَاً) بطلبهِ، فكانَ (سَلَمٌ)، يُمهلُ حتّى اذا غَسَقَ الليّلُ، و هدَأَ النَّاسُ، نَصَبَ سُلَّماً على مَنزِلِ الرَّجُلِ(المطلوب للسلطة)،
فطرقَهُ في بيّتهِ، فيقتُلَهُ و يأخذُ خاتَمَه. (حتّى قِيْلَ الى ابن سَلَمْ):(لو لَمْ يُوْرِثُكَ أَبُوكَ، إِلاّ خَواتِيْمَ مَن قَتَلَ، مِن أَهلِ الكوفَةِ، لكُنْتَ أَيسَرَ الأَبناء)(انتهى)(المصدر السابق/ بتصرف).
إِنَّ الإِمامَ مُوسَى بنِ جعفرٍ(ع)، سَارَ على مَنهَجِ والدِهِ الإِمامِ الصَّادِقِ(ع)، الّذي أَسَّسَ الحَركَةَ العلميَّةَ، لمَدرَسَةِ أَهلِ البيّتِ(ع)، و واصَلَ الاتِّصالَ بأَصحابِ والِدِهِ(ع)، و بذلكَ جَعَلَ الإِمامُ الكَاظِمُ(ع)، الحَركةَ العلميَّةَ و المُناظَراتِ العَقائديَّةِ و الكلاميَّةِ، و مُحاجَجَةِ الفِرَقِ المارِقَةِ عَن عَقيدَةِ الإِسلامِ، مِنَ الأَنشِطَةِ الّتي اهتَمَّ بها كثيراً. و بذلكَ يُمكِنُ القَولُ بأَنَّ الحَركَةَ الإِصلاحِيَّةَ العِلميَّةَ و الاجتِماعيَّةَ، ظلَّتْ تَسيرُ قُدُماً، برعايَةِ الإِمامِ الكاظمِ(ع). خُصوصاً أَنَّ هناكَ فَتَراتٌ مِنَ الاسْتِرخَاءِ، كانَتْ تَتَخلَّلُ فتراتِ انتِقالِ الحُكْمِ، مِن سلطانٍ إِلى آخر. و هذا ما حَدَثَ معَ الإِمامِ الكَاظمِ(ع)، فِي الفَترةِ الّتي هَلَكَ فيها المَنصورُ العبَّاسيّ في عامِ (158ه)، إِلى سَنةِ اعتِقالِهِ(ع)، على يَدِ هارونَ العبَّاسيّ، في عامِ (179ه).
في هذينِ العَقدينِ مِنَ الزَمنِ، أَثْرى بهِمَا الإِمامُ الكَاظِمُ(ع)، نَشَاطَ مَدرسةِ أَهلِ البيّتِ(ع)، فكانَ يُوصي هُشامَ بن الحَكَمِ، و هوَ مِنْ أَصحَابِهِ المُخلصينَ، و أَحَدِ أَعلامِ الحَركَةِ العلميَّةِ، فيَقولُ(ع) لَهُ: ( يا هِشَامَ ، كما تَركُوا لكُمْ الحِكمَةَ، فاترُكوا لَهُمْ الدُّنيَا).
إِنَّ الإِمامَ(ع) استَثمرَ فُرصَةَ انْهِماكِ الحُكَّامِ، فِي شُؤونِ الحُكْمِ و السُّلطةِ، و حُبِّ الدُّنيا و زَخارفِها، فَكانَ(ع) يُوَجِّهُ حامِلَ لوائِهِ هشامَ بن الحَكَمِ(رض)، ليأخُذَ مُهمَّةَ نَشرِ المَعَارِفِ، بيّْنَ شَرائِحِ المُجتمعِ، إِدراكاً مِنَ الإِمامِ(ع)، أَنَّ العِلْمَ و التَّبصُرَ، هُمَا الوَسِيلَتانِ الأَكثرَ أَهميَّةً في المجتمعِ، لتَنويرهِ و تَعريفهِ بالحَقائِق. فإِذا تَنَوَّرَ المُجتمَعُ و وَعى دورَهُ الرِّساليّ، فبِلا شَكٍّ سَيَشُقُّ طريقَهُ نَحوَ الحُريَّةِ و الكَرامَةِ، و تأْسِيْسِ مَنهجِ العَدلِ، و محاربَةِ الظُلمِ و الطُّغيانِ. فكانَ(ع)، يُلفِتُ انتِباهَ الأُمَّةِ، إِلى دَوْرِ الأَئِمَّةِ المَعصومينَ(ع) فِي حَياةِ الانسَانِ، و يَحِثُّ على التَمسُّكِ بولايتِهم، لأَنَّهم وحدُهم سُبُلُ نَجاةِ الأُمَّةِ، مِنْ مَهاوي الرَّدى و الظَّلال. فكانَ(ع)، يَلجأُ إِلى الدُّعاءِ، باعتبارِهِ و سِيلةً روحيَّةً تربويَّةً، لتَوثِيقِ صِلَةِ العَبْدِ بربِّهِ سُبحانَه، فكانَ مِن دُعائِهِ(ع):
(اللهمَّ إِنّي أُقِرُّ و أَشهدُ، و أَعترفُ ولا أَجحدُ. و أُسِرُّ و أُظْهِرُ، و أُعلِنُ و أُبطِنُ، بأَنَّكِ أَنْتَ اللهُ فَلا إِلَهَ إِلاّ أَنتْ، وحدَكَ لا شريكَ لكْ، و أَنَّ مُحمَّداً عبدُكَ ورسولُكَ، و أَنَّ عليَّاً أَميرُ المؤمنينَ، و سيّدُ الوَصيّينَ، و وارثُ عِلْمِ النَّبيين… إِمامي و مَحجّتي، و مَن لا أَثِقُ بالأَعمالِ، و إِنْ زكَتْ، ولا أَراها مُنجيَةً لي و إِنْ صَلُحَتْ، إِلاّ بوِلايَتِهِ و الائتِمَامِ بهِ، و الإِقرارِ بفَضائِلِهِ… اللهمّ و أُقِرُّ بأَوصِيائِهِ مِن أَبنائهِ، أَئِمَّةً و حُجَجاً و أَدِلَّةً و سُرُجاً، و أَعلاماً و مناراً، و سادَةً و أَبراراً… اللهمّ فادْعُني يومَ حَشري، و حينَ نَشّري بإمَامتِهِمْ، و احشُرني في زُمرَتِهِمْ، و اكتُبني في أَصحابِهِمْ، و اجعَلني مِن اخوانِهِمْ، و انقُذني بِهِمْ، يا مَولايَ، مِن حَرِّ النيران…).
هذا الإِصرارُ مِنْ قِبَلِ الإِمامِ(ع)، بالتَّمسُكِ و الالتِزامِ بخَطِّ الأَئِمَّةِ المَعصومينَ(ع)، و تَركِ سِواهُمْ، مِمَّنْ يَدَّعُونَ إِمَامَةَ الأُمَّةِ، و مَسْكِ زِمَامِ أُمورِهَا. الأَمْرُ الّذي جَعَلَ، سُلطانَ الجَوّْرِ و الظُلْمِ، هَارونَ العبّاسيّ، الّذي تَوَّلى رِقابَ المسلمينَ، و تَسَلَّطَ على أَموالِهِمْ و جَميعِ أُمورِهِمْ، بِمُلْكٍ وراثِّيٍّ عَضُوض، أَنْ يَقْدِمَ على مُؤامَرَةِ التَّخَلُّصِ، مِنْ وجُودِ الإِمامِ(ع).
و إِلى الآنَ، نَجِدُ حُكَّامَ الجَوّْرِ و سَلاطينَ الظُلْمِ، مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَداوةً، لمنْهَجِ أَهلِ البيّت(ع)، لأَنَّ دَعوتَهُمْ(ع)، تَأْمُرُ بعدَمِ شَرعِيَّةِ هؤلاءِ الحُكَّامِ، و عَدَمِ الاعتِرافِ بسُلطانِهِمْ. لأَنَّهُمْ وَصَلوا إِلى سُلْطَةِ الحُكْمِ، بِدونِ وَجْهِ حَقٍّ، كمَا أَنَّهُمْ يَحكمونَ بِأَهوائِهِمْ بيّنَ النَّاسِ، فيَظْلِمُونَ فَريْقَاً و فَريْقاً يَنْصُرون. فَسَلامٌ على الإِمامِ مُوسَى بنِ جعفرٍ(ع)، يَومَ ولِدَ و يومَ استُشهِدَ، و يَومَ يُبعَثُ حَيّْاً.