18 ديسمبر، 2024 11:50 م

الإِمامُ عليٌّ (ع) فَتَى الرِسَالَةِ وَ بَطَلُ الإِسْلاَمِ – 3

الإِمامُ عليٌّ (ع) فَتَى الرِسَالَةِ وَ بَطَلُ الإِسْلاَمِ – 3

فِي الحَلقةِ الثَانِيَةِ مِنْ هذا المقالِ، استعرَضتُ ثَلاثَ مَهَامٍ قامَ بها الإِمامُ عليٌّ(ع) وهي: (1). جَمعُ القرآنِ الكريمِ، و الأَحاديثِ النبويّةِ الشّريفة. (2). الحِفَاظُ على وِحدَةِ صُفوفِ المسلمينَ، و إِفشالِ مُحاوَلاتِ التّفرِقَةِ، داخلَ المُجتمعِ المُسلم. (3). مراقبَةُ شُؤونِ الدَّولةِ لحفظِ حُقوقِ النّاسِ، وَ تطبيقِ الشّريعةِ الرّبانيةِ على أَكملِ وجهٍ. وَ في هذهِ الحلقةِ مِنَ المقالِ، سأَستكّملُ الحديثَ عَنْ مَوضُوعِ، الدَوّرِ الرِقابيّ الّذي كانَ يقومُ بهِ الإِمامُ عليٌّ(ع)، وَ هوَ خارجَ مَنظومَةِ الحُكْم، وَ معارضٌ لمواقِفِها السلبيّةِ أيّنمَا وِجِدَتْ. وَ فِي الحلقةِ القادِمَةِ سأُناقِشُ المُهمّةَ الرابِعَةَ (التي أشرتُ إليها آنفاً)، الّتي تَوَلّاها الإِمامُ عليٌّ(ع)، وَ هوَ يَشغَلُ مَنصِبَ قيادَةِ الدّولَةِ الإِسلاميّةِ بنفسهِ، كخَليفَةٍ للمسلمينَ.
لقَدّ أَكدَّ الإِمامُ عليٌّ(ع)، فِي تجرِبَتِهِ وَ هوَ خارجَ إِطارِ الحُكْمِ، على مبدأ استقامَةِ الحَاكِمِ، واستقامَةِ المَحكُومِ، حتّى تَستقيمَ أُمورِ الدّولةِ كلِّها. فَشَغَلَ(ع) دَوّرَ المُعارضِ الرِّسالي لأَيّ خطأ كان، على مَدارِ رُبْعِ قَرنٍ مِنَ الزَمنِ. لا هدفَ لهُ(ع) إِلاّ نشر قيَمِ الرّسالةِ المُحمديّةِ الصحيحةِ، و إِشاعَةِ الرَّحمةِ و العدالةِ، وَ الإِنسانيّةِ والمساواةِ بيّن جميعِ الناس. كانَ الخُلفاءُ الراشدون(رض) يعرفونَ جيداً مَن هو ابن أبي طالب(ع). فهوَ الرَجلُ الذي لمْ يفكّر بالسلطةِ، و إِنّما كانَ(ع) كلُّ فكرهِ و جُهدِهِ مُنحصِراً باتجاهِ العمَلِ، مِنْ أَجلِ إِقامَةِ المُجتمَعِ الإِسلاميّ الصّالحِ، المُتفَاعلِ معَ رسالتهِ العقائديّةِ. وهذهِ الخَصيصَةُ مَنحتْ الإِمامَ(ع) ثقَةِ النّاسِ جميعاً به.
لذا استنابَ الخليفَةُ عُمَرُ بن الخطّاب(رض) الإِمامَ عليّ(ع) مرّتينِ، لشَغلِ مكانَهُ في موقعِ قِيادَةِ الدّولة. الأَولى؛ في السَنةِ الخامسةِ عشَرِ مِنَ الهِجرةِ، عندَ فتحِ بيّتِ المَقدس. (كان سبب قدوم عمر إِلى الشام، أنّ أبا عبيدة حصرَ (حاصرَ)بيت المقدس، فطلبَ أهله منه، أنْ يصالحَهُم على صلحِ أَهلِ مُدنِ الشَام، و أَنْ يكونَ المتولي للعقدِ عُمرَ بن الخطاب ، فكتبَ إِليه بذلك فسار عن المدينة، واستخلف عليّها عليّ بن أبي طالب)(الكامل في التاريخ/ ابن الأثير ج2ص500)
 و المرّةُ الثانيةُ في السنةِ الثامنةِ عشرةِ مِن الهجرةِ، فقدّ استخلفَ الخليفةُ عمرُ بن الخطّاب(رض) الإِمامَ عليّ، عندَما تَفشى مَرضُ الطّاعونِ في الشَام (طاعون عَمواس). فقرّرَ الخليفةُ أَنْ يطوفَ في البلدان. (فقال عُمرُ : إِنَّ مواريثَ أهلِ عَمواس قد ضاعت، فأبدأ بالشامِ فأُقسِّمُ المواريثَ، و أُقيمُ لهُم ما فِي نَفسي، ثمّ أَرجع.  فأَتقلّبُ في البلادِ و أُبدي إليهم أمري. فسارَ عن المدينةِ و استخلفَ عليّها عليّ بن أبي طالب)(المصدر السابق ص 561 ).  
كُنتُ قدّ أَشِرتُ في نهايةِ الحلقةِ الثَانيَةِ مِنْ هذا المقالِ، بأَنَّ هناكَ محاورةً جرَتْ بيّن الإِمامِ عليّ(ع) و الخليفةِ عثمانَ بن عفّان(رض)، سجّلَ فيها الإِمامُ(ع)، اعتراضَهُ على الخليفةِ، بسببِ تَفَشّي المَحسوبيّةِ و المنسوبيّةِ في أَجهزَةِ الدّولةِ. وَ بالرغمِ مِنْ أَنَّ المَقامَ يَفرِضُ عليَّ الاختصارَ، لكنْ لابدَّ ليّ أَنْ أَلفِتَ نَظَرَ القارئِ الكريم، إِلى أَنَّ هناكَ الكثيرِ مِنَ النّصائِحِ و المَشُوراتِ، قَدَّمَها الإِمامُ عليٌّ(ع) إِلى الخلفاءِ الراشدينَ الثلاثَةِ(رض). و فَضْلُ الإِمام عليّ(ع) في ذلك، ذائعٌ عنّدَ الخاصّةِ و العامّةِ. و مراجعاتُ الخلفاءِ الراشدينَ الثلاثَةِ للإِمامِ (ع)، لأَخذِ رأيِهِ و الاسترشادِ بعلمهِ، بَلَغتْ مائةً وَ عشرةَ مراجعةٍ، تجدونَ تفاصِيلَها في كتابِ (عليّ و الخلفاء/ للاستاذ نجم الدّين العسكري).
لقَدّ كانَ الإِمامُ عليّ(ع)، يعيشُ همومَ مجتمعهِ لحظَةٍ بلحظة. كما كانَ(ع) يعيشُ مسؤوليّةَ الحفَاظِ على بيّضَةِ الإِسلامِ وَ وِحدَةِ المُسلمينَ، بكُلِّ أَبعادِها الآنيّةِ وَ المُستقبليّةِ، لأَنّه رَجُلَ رسالةٍ، وَ ليسَ رَجُلَ مَرحلَةٍ. وَ لمّا لَمِسَ الإِمامُ عليٌّ(ع)، أَنَّ أُمُورَ الدَّولَةِ تكادُ أَنْ تُفلِتَ مِنْ زمامِ السَيطرَةِ، ذَهبَ(ع) إِلى الخَليفَةِ عثمانَ بن عفان(رض)، وهو يَحمِلُ النَصيّحةُ فِي قلبةِ الوفيّ للإسلامِ وّ الأُمَّةِ، ليقدِّمَها بلسانٍ صريحٍ فصيحٍ، بعيداً عَن المراوغةِ و المداهنةِ و المجاملةِ، كَمَا يفْعَلُ السّياسِيّونَ فيمَا بينهم.
قال َالإِمامُ عليٌّ(ع) لعثمانَ(رض) :
(تعلم يا عثمان أَنَّ أَفضلَ عباد اللهِ عند الله إمامٌ عادل، هُدِي و هَدى، فأَقامَ سنّةً معلومة، و أَماتَ بدعةً متروكة، فوالله إنّ كلاّ لبَيِّن، و إنّ السُّننَ لقائمة لها أَعلام، و إنّ البِدَعَ لقائمة لها أًعلام، و إنّ شرّ الناس عند الله إِمامٌ جائر، ضَلَّ وَ ضُلّ به، فأمات سنّة معلومة. …. و إنّي أُحذّرك الله، وأُحذّرك سطوتَه ونقماتَه؛ فإنّ عذابَهُ شديدٌ أَليم، وأُحذّركَ أنْ تكون إمامَ هذه الأُمّة المقتول؛ فإنّهُ يُقالُ : يُقتَلُ في هذه الأُمّة إمامٌ، فيُفْتَحُ عليّها القَتْلُ والقِتالُ إِلى يومِ القيامة، وتُلبَسُ أُمورُها عليّها، ويتركُهُم شِيَعاً، فلا يُبْصِرون الحقَّ؛ لعلوِّ الباطلِ، يموجونَ فيها مَوجاً، وَيمرُجون فيها مَرجاً.
فقالَ عثمانُ : قدّ واللهِ علمتُ، ليقولُنّ الذي قلتَ، أما واللهِ لو كنتَ مكاني ما عنّفتُكَ، ولا أَسلَمتُكَ، ولا عِبتُ عليّك، ولا جئتُ مُنكِراً إنْ وَصلتَ رَحماً، وسدَدْتَ خَلّةً، و آويّتَ ضائِعاً، و ولّيْتَ شبيهاً بمن كان عُمَرُ يولِّي. أُنشِدُكَ اللهُ يا عليّ، هل تعلم أنّ المغيرة بن شعبة ليس هناك؟. قالَ الإِمامُ(ع) : نَعَمْ .
قالَ عثمانُ (رض): فتَعلَمْ أَنَّ عُمَرَ ولاّهُ. قالَ الإِمامُ(ع) : نَعَمْ، قالَ عثمانُ(رض) : فَلِمَ تَلومُني إنْ ولّيتَ ابن عامر في رَحمهِ و قَرابتِهِ؟.
 قالَ عليٌّ : سأُخبرُكْ؛  إنَّ عُمَرَ بن الخطاب، كانَ كُلُّ مَنْ وَلّى، فإِنّما يَطأُ على صماخه(يدوس على رأسه)، إنْ بلغَهُ عنهُ حَرْفُ جُلبهٍ(كناية عن الفعلة البسيطة)، ثمّ بلغَ به أَقصى الغايةِ، وَ أَنتَ لا تَفعلْ، ضَعُفْتَ و رَفِقْتَ على أَقربائِك.
قالَ عثمانُ : هُمْ أقرباؤكَ أيضاً. فقالَ عليٌّ : لَعمري إنَّ رَحِمَهُمْ منّي لَقريبة، و لكنَّ الفَضلَ في غيرهِم.
قالَ عثمانُ : هلْ تَعلَمْ أَنَّ عُمَرَ ولّى معاويةَ خلافَتِهِ كلّها؟. فقد ولّيتُه.
فقالَ عليٌّ : أُنشِدُكَ اللهُ، هلْ تعلمْ أَنَّ معاويةَ، كانَ أخوفُ مِن عُمَرَ مِنْ (يَرْفَأ) غلام عمر منه؟.  قالَ : نَعَمْ . (أي أنَّ معاويةَ كانَ يخافُ مِن عُمَرَ(رض)، أكثرَ مما يخافُ خادِمَهُ منه، (يَرْفَأ / هو خادم عُمَر))
قالَ عليٌّ : فإنَّ معاويةَ يقتَطِعُ الأُمورَ دونَكَ، وَ أَنْتَ تَعلَمُها، فيقولُ للناسِ : هذا أَمرُ عثمان، فيَبلُغَكَ وَلا تُغيّرُ على معاوية. ))(موسوعة الإِمام عليّ بن أبي طالب ( ع ) في الكتاب والسنة والتاريخ / محمد الريشهري/ ج3 ص217. كما ذكر ذلك الطبري في تاريخه ج3/ص378/ ملاحظة اضفت على النصّ (الإِمام(ع) وعثمان(رض)) في بعض الجمل، لغرض توضيح المحاورة و رفع الالتباس عن ذهن القارئ الكريم).
في الحلقةِ الرابعةِ مِنْ هذا المَقالِ، سأَتناولُ إِنشاءَ اللهِ تَعالى، المُهمّةَ الرابِعَةَ الّتي تَوَلّاها الإِمامُ عليٌّ(ع) بعدَ وفاةِ الرَسول(ص). و هِي  مُهمّةُ تَوَلي الإِمامُ(ع)، قيادَةَ الدّولَةِ الإِسلاميّةِ بنَفسِهِ.
[email protected]
كاتب و باحث عراقي