23 ديسمبر، 2024 4:00 ص

الإنقلابات العسكرية في العراق وأضرارها على تكوينة المجتمع العراقي

الإنقلابات العسكرية في العراق وأضرارها على تكوينة المجتمع العراقي

أستهل مقالتي بتحليل لعالم الإجتماع الدكتور على الوردي في كتابه (لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث/الجزء الأول) لتكون المدخل الى صلب هذه المقالة والغاية منها ، حيثُ يقول: “فكثيراً ما تخلق الأحداث الماضية في المجتمع عقدة كالعقدة النفسية حيث نرى الناس يندفعون ببعض العادات والأفكار الموروثة اندفاعاً لا شعورياً ، قد يؤدي ذلك بهم الى المهالك بينما هم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً” ، إنتهى تحليل الدكتور على الوردي ، وسؤالي هل ينطبق هذا التحليل على شخصية من قاموا بالإنقلابات العسكرية في العراق أو من بقي من جيلهم أو الأجيال التي تلتهم الذين ورثوا تلك الأفكار وبدأوا يتغنون بها ويسوقونها دون تحليلها وتمحيصها لإستكشاف صالحها من طالحها ؟!! .
ومما لا شك فيه من أن العسكر أو الجيش هم شريحة مهمة من شرائح المجتمع في أي دولة من دول العالم يتفاعلون معه في أحداثه ، لا بل إنهم الشريحة الأعلى تأثراً بقضاياه وحيث نذروا أرواحهم دفاعاً عن الوطن ومواطنية ضد أي تهديد خارجي ، لكنهم في ذات الوقت قد أقسموا عند تخرجهم في كلياتهم العسكرية للمحافظة على شرف الجندية ومهنيتها في عدم التدخل بالأحداث الداخلية وترك هذا الأمر لقوى الأمن الداخلي بأجهزته المتنوعة وإخلاصهم وولائهم لنظام الحكم (ملكي دستوري وراثي أو جمهوري رئاسي)، وحيثُ هنالك خيط رفيع جداً يربط العسكري المهني المخلص لقسمه وجنديته من جهة وشعوره الوطني وتفاعله مع معاناة وأحداث بلده الداخلية من جهة أخرى ، وهنا تكمن الخطورة في الموازنة الدقيقة بين التفاعل مع الشارع ومواطنيه والواجب المهني للعسكري المحترف لجنديته !!.
ومن المثير للسخرية من أنّ معظم الإنقلابيين مؤمنين بالله وكتبه السماوية لكنهم في ذات الوقت نكثوا القسم على كتاب الله الذي أقسموا فيه حين تخرجهم في كلياتهم العسكرية أو عند تكليفهم بوظائفهم الرسمية إخلاصهم للوطن وأولي الأمر، لكنهم نكثوا وتنصلوا من قسمهم أمام أطماعهم الشخصية للسيطرة على السلطة مبررين فعلهم بإنقاذ الوطن والمواطن متناسين من أن نكث جزء من القسم يعتبر نكثاً للقسم بكامله أمام رب العباد وهو من كبائر الأفعال المشينة ولا يوجد أي مبرر مهما كانت دوافعه نبيلة يؤدي الى نكث القسم .ولوعرفّنا الثورة والإنقلاب فسنرى بأننا أرتكبنا خطأ كبيراً متناقضاً حتى مع أدبيات جميع الأحزاب التي أيدت تلك الإنقلابات العسكرية وصفقت لها بإطلاق أسم الثورة عليها في العراق .
 فالمفهوم أو المعنى السياسي للثورة : هي حركة شعبية تشترك فيها جميع أو أغلب شرائح المجتمع لتغيير واقع متردي جذرياً الى واقع أفضل منهُ ، أما الإنقلاب فهو حركة غالباً ما تكون عسكرية للسيطرة على السلطة وتغيير شكلي للحكومة وغالباً ما تؤدي أو تقود الى تكوين دكتاتوريات فردية أو أنظمة شمولية وهذا بالطبع ما حدث في جميع الإنقلابات العسكرية التي حدثت في العراق ، فلم يشترك فيها مدني واحد إلا بعد نجاحها في السيطرة على الحكم بقوة السلاح فتسعى الى تجميل صورتها بدعوة الشخصيات المدنية للمشاركة الإسمية من دون أن يكون لديها حرية التعبير أو إتخاذ القرار ، أو تتكئ في أحسن الأحوال على أحد الأحزاب الأيديولوجية أو جميعها لتعطيها الصبغة الثورية(1) .ومن أهم أهداف الثورات الحقيقية هو تعزيز الديموقراطية وتثبيت دعائم الدستور ، أما الإنقلابات العسكرية فهي تجمد العمل بالدستور وتعلن الأحكام العرفية وهذا ما حصل في معظم الإنقلابات في العراق سواء بشكل رسمي أو غير رسمي .
ولقد كانت الإنقلابات من تموز 1958م لغاية 2003م هي عبارة عن صراعات على السلطة وكما سأبين من خلال الشخصيات التي عاصَرَتْها .ـ إنقلاب الفريق الركن بكر صدقي سنة 1936م : يعتبره المؤرخين أول إنقلاب عسكري على السلطة الشرعية في منطقة الشرق الأوسط (ربما تأثر بكر صدقي بالإنقلاب الذي حدث في الدولة العثمانية في 23 يناير 1913م الذي عاصره وكان عمره حينذاك 27 سنة أي في قمة فورانه الشبابي وتأثره بمحيطه ، وحيثُ تشابهت نتائج الإنقلابين بقتل وزير الحربية في الدولة العثمانية ووزير الدفاع في المملكة العراقية) ، ومن المفيد إعطاء نبذة مختصرة عن قائد الإنقلاب كما جاء في موقع ويكيبيديا ومقالة للكاتب “زهير المعروف” المنشورة في جريدة “التآخي” الأربعاء 06-11-2013م بعنوان “الفريق بكر صدقي قائد أول إنقلاب عسكري في الشرق الأوسط”: فبكر صدقي من مواليد 1886م (بعض المصادر ترجح أنه من مواليد 1890م) من أبويين كرديين ، درس في إسطنبول وتخرج في كليتها الحربية ، إشتهر بالصرامة والقسوة وهو المسؤول المباشر ميدانياً عن مجزرة “سمّيل” ضد المكوّن الآشوري التي إستمرت بشكلٍ مركزٍ من 8-11 من شهر آب لسنة 1933م والتي ذهب ضحيتها حسب المصادر البريطانية (600) من المدنيين خاصة النساء والأطفال (حاول التقرير البريطاني التخفيف من هول المجزرة حفاظاً على المصالح البريطانية) لكن مصادر أخرى أكثر دقة ترجح بأن العدد تجاوز الثلاثة الآف ضحية (مقالة للكاتب علي عجيل منهل/الحوار المتمدن-العدد:3452-2011/8/10) ، وقيل نقلاً عن بعض الناجيين من أن المذبحة مورست خلالها أبشع الجرائم (إغتصاب النساء ، رمي الشباب والنساء من الجبال والتلول ـ ـ الخ) .
 قام بكر صدقي بإنقلابه لتغيير وزارة ياسين الهاشمي بوزارة حكمت سليمان ، وحيث إستغل أحد التمارين التعبوية الفصلية الروتينية (مناورات عسكرية) لفرقته الثانية التي كانت بإمرته مع الفرقة الأولى التي كانت تحت أمرة حليفه في الإنقلاب الفريق عبداللطيف نوري وبمساندة قائد القوة الجوية حينها العقيد محمد علي جواد (الذي كان في نفس الوقت الطيار الخاص للملك والذي قُتِلَ فيما بعد مع الفريق بكر صدقي في الموصل وهو إبن عمة الزعيم الركن عبدالكريم قاسم مخطط إنقلاب الرابع عشر من تموز 1958م) ، وقد بدأ إنقلاب بكر صدقي بداية دموية بغدره لوزير الدفاع حينذاك الفريق الأول جعفر العسكري (مؤسس أول فوج للجيش العراقي / فوج الإمام موسى الكاظم) حين طلب منه الأخير مقابلته حاملاً رسالة من الملك غازي رحمه الله وذلك للتفاوض وتهدئة الوضع ، فما كان من الإنقلابيين إلا أن جردوه من سلاحه ووجهوا اليه وابلاً من الرصاص فأردوه قتيلاً !!! . وقد إنتهى مصير بكر صدقي الى نفس النهاية المأساوية التي أنهى بها خصومه (ومن مفارقات القدر انه أغتيل في الذكرى الرابعة لمذبحة سمّيل) ، حيثُ أغتيل في حديقة مطار الموصل ومعه العقيد محمد علي جواد في التاسع من آب سنة 1937م وهو في طريقه الى تركيا لحضور المناورات العسكرية للجيش التركي وكنتيجة حتمية لطغيانه وسيطرته على مقدرات البلد إذ إعتبر نفسه الحاكم الفعلي للبلاد .ـ حركة رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة (شباط – مايس 1941م) : قام رئيس ديوان الملك غازي رشيد عالي الكيلاني بعد وفاة الملك بسنتين بحركته لإختلافه مع الوصي عبدالإله ومعاداته للإنكليز وتأييده المطلق لألمانيا النازية بقيادة هتلر وحليفتها تركيا ، وقد إستعان بالعقداء صلاح الدين الصباغ وكامل شبيب ومحمود سليمان وفهمي سعيد لتنفيذ حركته التي لاقت تأييداً شعبياً نكاية بالأنكليز وأعوانهم ، ومن المؤرخين من إعتبرها ثورة وطنية تحررية ومنهم من إعتبرها حركة أو إنقلاب تحمل بين طياتها النزعة القومية ، وقد إنتهت بزحف القوات البريطانية من البصرة الى بغداد وإخمادها للحركة وهروب رشيد عالي الكيلاني وإعدام العقداء الأربعة إضافة الى العقيد محمد يونس السبعاوي . 
ـ إنقلاب 14 تموز/1958م(2): لا أريد الدخول في تفاصيل هذا الإنقلاب المثير للجدل فهو معلوم لدى المهتمين بالشأن العراقي بمعظم تفاصيله ولي عودة اليه في موضوع منفصل مستقبلاً ، وحيثُ أعتبره المؤرخون نقطة البداية لتغيير مسار الدولة العراقية الحديثة ومستقبلها ، إذ لا تزال تداعياته تلقي بظلالها على الشارع العراقي بمآسيه ، غير اني سأعرض بعض الأدلة من مصادرها المباشرة عن هدف الإنقلاب والغاية منه . يقول المؤرخ العميد المتقاعد خليل ابراهيم حسين المعروف بميله المطلق للمشروع الوحدوي في كتابه (ثورة الشواف في الموصل 1959/الجزء الأول/الطبعة الأولى ، وحيثُ كان من أوائل الضباط الأحرار وشغل منصب معاون مدير الإستخبارات العسكرية بعد الإنقلاب) ما يلي : “دخل العقيد الشواف على عبدالكريم قاسم كاظماً غيضه وتعانقا وهنأ احدهما الآخر ولم تطل حالة التجمل الا ثوان ثم انفجر الشواف قائلاً : لقد آن الاوان يا زعيم كريم للبت في تشكيل مجلس قيادة الثورة وتشخيص أعضائه واعلان مولده في الحال وقبل فوات الاوان . فكشر عبدالكريم عن ضحكة باهتة واومأ برأسه وفأفأ قائلا : ابحث الموضوع مع عبدالسلام”!! – –  ثمّ يُكمل المؤلف في كتابه موثقاً ما يلي : ” ووصل عبدالسلام وزارة الدفاع في الساعة 1130 ولاقى الشواف ، وتبادلا التهنئة وتصافحا ببرود وقال الشواف لعبدالسلام : تقاسمتموها بينكما ، الثوار يريدون مجلس قيادة . فابتسم عبدالسلام وقال:اطمئن سيتشكل وسأبحث الموضوع مع عبدالكريم”!! – – ويقول المؤلف “حاول عبدالكريم إرضاء الشوّاف بتعيينه حاكماً عسكرياً فرفض عبدالسلام” – – ثم يضيف قائلاً : “ولربما كانت مسرحية من اخراج الاثنين وحسب اتفاقهما” !! – – ثمّ يسترسل المؤرخ خليل ابراهيم حسين في صفحات الكتاب ( 59،58،57،56،55) وما تلاها ويكشف صراع الضباط على المناصب من مختلف الرتب الصغيرة والعالية وبالأسماء والثورة لم يمضي عليها يوم أو يومين وهي مهددة في اي لحظة بالسقوط نتيجة تحرك الأسطولين الأمريكي والإنكليزي إضافة الى تحرك الجيش التركي على الحدود لإجهاضها !!! .
ولكي ننصف البعض ممن إشتركوا بهذا التغيير الدراماتيكي لمستقبل العراق والعراقيين علينا أن نعترف بأنه كان للكثير منهم أحلامهم الوردية أما بالوحدة العربية أو تغيير نظام الحكم الملكي الدستوري الوراثي الى جمهوري رئاسي إنتخابي متأثرين بالشعارات التي أطلقتها  مختلف الفصائل أو الأحزاب المتأثرة بهذا المعسكر السياسي أو ذاك ، ولقد كادت تلك الأحلام أو بمعنى أصح التطلعات المشروعة أن تتحقق بالفعل فيما لو أستبعد الإنقلابيون المصالح والمكاسب الشخصية الآنية وحكّموا عقولهم بدلاً من عواطفهم في الإنجرار وراء شعارات كانوا فقط مرددين لها لا يفقهون أي شيء عن الطرق المنطقية للوصول اليها وحيثُ أعطت نتائجها العكسية مكلفة الشعب العراقي الكثير الكثير .
وقد جاء في مقدمة كتاب (الكبار الثلاثة/ثورة 14 تموز في 14 ساعة) لمؤلفه عبدالجبار العمر ما يلي : “لقد ردد العقيد عبدالسلام عارف اكثر من مرة في اثناء محاكمته في عهد عبدالكريم قاسم ، ان للثورة اسرارها التي لا يعلمها الا الله والراسخون في العلم وامتنع عن الاجابة على عدد من الاسئلة التي وجهتها اليه المحكمة لانه اعتبر الاجابة عليها فضحاً لبعض اسرار الثورة” إنتهى النص الأول المنقول – – ثم يكمل المؤلف في نفس المقدمة قائلاً : “وقد ادى ذلك الى ان يحاول كل واحد منهما (يقصد عبدالكريم وعبدالسلام) احتياز كل الثورة لحسابه في ايام سلطانه. وقد تركت المحاولتان ، محاولة قاسم اولا وعارف من بعده أثاراً سلبية عميقة في تدوين التاريخ الحقيقي للثورة مما يجعل الواقع الذي يمكن ان يقال عنها الآن غريباً على ما استقر في اذهان الناس عنها” إنتهى النص الثاني – – وفي الصفحة (183) من نفس الكتاب يعرض المؤلف رأي الضباط لأحرار بعضهم بالبعض الآخر قائلاً : “روى لي (المقدم) العميد فاضل محمد علي قال: جئتُ ومعي النقيب بهجة سعيد من جلولاء الى بغداد يوم 10 تموز لنخبر العقيد عبدالوهاب الشواف (بساعة الصفر) ولم نكن نعرف مكان بيته فصحبنا اليه صبحي مدحة السعود في الكرادة ، استقبلنا الشواف في داره ، وعندما اخبرته ان الثورة ستنفذ ليلة 13/14 تموز وإن القائمين بها هما عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف وقد جئنا اليك لندعوك الى التعاون معنا . رد الشواف : انني لا اتعاون مع طفل ومجنون ، يريد بالطفل عبدالسلام عارف والمجنون عبدالكريم قاسم” !! – – انتهت النصوص الثلاثة المنقولة من كتاب المؤرخ عبدالجبار العمر .
وسؤالي للقارئ الكريم : من خلال كل ما ورد من المصادر الموثوقة التي ذكرتها أعلاه : اين هي روح التضحية والإيثار من أجل الوطن بين الضباط الأحرار الذين قادوا الإنقلاب ؟!! ، وهل لثورة كما زعموا يُكتب لها النجاح والقائمون عليها يأكلون بعضهم البعض قبل تنفيذها ؟!! ، ولماذا وضعوا البلد على “كف عفريت” وأوصلوه الى ما هو عليه الآن ؟!! ، فالأمر واضح وجلي من ان سبب القيام بالإنقلاب هو للسيطرة على الحكم ولمطامع شخصية واضحة مستغلين ضعف القوانين والعقوبات والإجراءات الرادعة فيما لو انكشفت غاياتهم ، كذلك عدم اتخاذ الإجراءات الصارمة لرجال الحكم الملكي ضدهم بدءً بالملك والوصي وحتى نوري السعيد عندما وصلتهم بعض الوشايات من ان هنالك انقلاب وشيك سيحدث من قبل نفس الإنقلابيين ، وعندها اكتفى رجال الحكم الملكي بالإستفسار من المتهمين عن صحة تلك الوشايات فأنكروها جميعاً واقسموا على بطلانها ووفائهم للمملكة وملكها !! ، كذلك استغل الإنقلابيون سخط الشارع العراقي على الحكومة بسبب مواقفها تجاه القضايا العربية المصيرية والإقليمية وتحالفاتها المشبوهة في نظر البعض ، إضافة الى ذلك ضمن الإنقلابييون وقوف الأحزاب الثورية مع حركتهم لإنجاحها وهي المحرك الفعلي للشارع العراقي على الرغم من خروج جماهيره بشكل عفوي حال سماع البيان الأول (للثورة) ودون الإنتظار لأخذ الضوء الأخضر من تلك الأحزاب لما يُعرف عن عاطفية العراقيين وتسرعهم بالتفاعل مع الحدث .
ولو كان الزعيم عبدالكريم قاسم والعقيد عبدالسلام محمد عارف واعوانهما ممن قاموا بالإنقلاب وطنيين بحق وإنهم وضعوا حياتهم في الخطر من أجل الوطن لسلّموا السلطة بعد الإنقلاب الى المدنيين حينها وعادوا الى ثكناتهم كعسكريين مهنيين وحققوا الغاية الوطنية واثبتوا للشعب زهدهم بالسلطة وانهم قاموا بحركتهم من أجل الوطن مقدمين مبرراً أخلاقياً ووطنياً لتغيير الحكم بواسطة الجيش معللين الأمر على انّ المدنيين حينها لم يكونوا بالقدرة الكبيرة على تغيير النظام على الرغم من سيطرتهم على الشارع العراقي بأحزابهم المختلفة وتأثيرهم في زعزعة الحكومات المتعاقبة والتي أدت الى الغاء الكثير من القرارات والمعاهدات نتيجة التظاهرات وضغوط الشارع العراقي بحركاته السياسية .
لقد ذكر المرحوم رفعت الجادرجي نقلاً عن والده السياسي الوطني كامل الجادرجي عند إستضافته في برنامج “بين زمنين” الذي كانت تعرضه “قناة ابوظبي الفضائية” في سنة 2001م (معد ومقدم البرنامج هو الأستاذ احمد المهنا) ما يلي : “أرسل عبدالكريم قاسم في طلب الوالد (كامل الجادرجي) وجلس يتحادث معه في امور الدولة ويتناقش معه على الدستور الجديد للبلاد وبعد مرور وقت طويل إستأذن الوالد (كامل الجادرجي) الزعيم للإنصراف لأن موعد نومه قد أزف !! ، فأستغرب الزعيم وقال : لكننا نتناقش على الدستور ، فرد عليه الوالد قائلاً : لو شعرتُ بانك صادق في سعيك لإصدار دستور جديد لبقيت معك حتى الصباح” !! إنتهى كلام رفعت الجادرجي .
ولقد أجمع المتحدثون في برنامج “بين زمنين” من أمثال الدكتور فالح عبدالجبار (باحث في الفكر السياسي) والسيد حسين الصدر (عميد المعهد الإسلامي في لندن) والدكتور فاضل الجلبي (خبير في شؤون النفط) وعبدالكريم الأزري (وزير مالية في العهد الملكي) ونجدة فتحي صفوة (مؤرخ ومساعد وكيل وزارة الخارجية 1958-1959م) ومير بصري (باحث ورئيس الطائفة الموسوية /العراق) على ان السياسيين المدنيين إرتضوا بحكم العسكر على أمل ان تكون فترة إنتقالية بسيطة ، لا بل ان العديد منهم دعموا قيادة العسكريين مبررين دعمهم هذا بقدرة العسكريين على الوقوف بوجه التحديات الخارجية والداخلية للجمهورية الفتية . وقد أكد قسم آخر من أمثال عبدالرزاق الصافي (قيادي شيوعي) وعبدالستار الدوري (قيادي بعثي وسفير سابق) ومحمود عثمان (سياسي كردي) من ان جبهة الإتحاد الوطني حينذاك لم يكن لديها برنامج عمل ما بعد التغيير !!!، مما أثر بشكل مباشر على الأحداث وتداعياتها التي تلت (الثورة) وأدت بالنهاية الى الفوضوية في الحكم وتصارع الأحزاب فيما بينها للحصول على مكاسب حزبية ضيقة والتي قادت المجتمع الى الإنقسام على نفسه لتأييد أحد قطبي الصراع عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف .
ويتبين لنا من خلال ما تحدث به الجميع في البرنامج أعلاه وعلى إختلاف إختصاصاتهم وإنتماءاتهم الفكرية حقيقتين مهمتين مرتبطتين مع بعضهما : أولهما ربط الدفاع عن البلد من قِبل العسكريين بتصدرهم للمشهد السياسي وإستئثارهم بالسلطة وهذا ما ينافي العقيدة العسكرية المبنية على إستقلالية المؤسسة العسكرية ونقائها من التيارات السياسية وكما هو معمول به في كل دول العالم ، والحقيقة الثانية هي عدم جاهزية الأحزاب الأيديولوجية الثورية للتغيير وتقصيرهم على الرغم من تواجدهم المستمر في الشارع العراقي وتواصلهم المستمر مع قادة الإنقلاب وضباطه ومعرفتهم المسبقة بقرب حدوث التغيير والذي يدلل على تقاعس تلك الأحزاب وعدم قرائتها الصحيحة للمستقبل السياسي للعراق والكوارث والتبعات المحتملة لدمار البلد في حال بقاء العسكريين في السلطة وهذا ما حدث ، فقد إرتضت تلك الأحزاب على تغيير (المريض النفسي) الملكي الممكن علاجه (بالمجنون) الجمهوري المستعصي علاجه !! .      
لقد حمل إنقلاب 14 تموز/1958م مع بداياته مؤشرات العنف الدموي والسادية (قتل العائلة المالكة إبتداءاً بالملك الشاب وإنتهاءاً بنساء العائلة المالكة وسحل الوصي على العرش ونوري السعيد وولده صباح وغيرهم في الشوارع والتمثيل بجثثهم) والذي أوهم فيه الإنقلابيون الشعب من أنهم قد قاموا بالإنقلاب من أجله الذي خرج بملايينه لمؤازرتهم (العودة الى بيان الثورة كما أطلقوا عليها الذي أذاعه العقيد عبدالسلام عارف) وساندتهم الأحزاب السياسية الأيديولوجية المرتبطة أما بالأجندات القومية أوالأقليمية أوالأممية وحيثُ لعبت من حيثُ تدري أو لاتدري الدور الرئيسي في تدمير العراق وتحييد وطنية أبنائه وإستبدالها بأفكار أثبت الزمن بطلانها أو على الأقل بعدها عن واقع المجتمع العراقي وتكوينه الفريد ، ومما يبعث على الأسى إستمرار تلك الأحزاب ومَنْ معهم مِنَ المغرر بهم من الشعب بالإحتفال السنوي بذكرى الإنقلاب أو الإنقلابات ونعتها بالثورات بدل الجلوس ومراجعة النفس والإعتراف بشجاعة بالخطأ الذي قامت به تفادياً للوقوع في أخطاء أخرى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، لكن تعنتهم وتطرفهم الفكري العاطفي بما يؤمنون به من معتقدات يطغي دائماً على منطق العقل والوطنية الحقّة ولهذا نجد مَن أنّ البعض منهم الذي إنتمى الى تلك الأحزاب بدافع حبه للوطن بدأ بالتجرد من إنتماءاته الحزبية والعودة الى مساندة المشروع الوطني المجرد من الشعارات الفكرية الخارجية أياً كان مصدرها ، وعجبي على من لا يزال يعتبر تلك الإنقلابات ثورات ويصفها بصفات هي أبعد ما تكون عنها لأنها وكما بينّا من أن قادتها لم يكونوا يفكروا إلا بمصالحهم الشخصية الضيقة وتبوء المناصب السياسية ، والأنكى من ذلك كما ذكرت ان البعض لا يزال يحتفل بذكراها – – – فعلى ماذا يحتفلون ؟ هل يحتفلون على خسارة المجتمع للعوائل العريقة التي هاجرت وسكنت المنافي بين لندن وباريس والتي كان معظم أفرادها من المتعلمين وحيثُ نعتناها بالأرستقراطية والبرجوازية ـ ـ ـ أم يحتفلون على خسارتنا للآلآف من المثقفين وحملة الشهادات الجامعية في مختلف التخصصات من أبناء الطبقة الوسطى الذين قتلوا أو هاجروا  نتيجة الملاحقات السياسية لتورطهم بأفكار متباينة قومية أو أممية كانوا يعتقدون بأنها ستخدم الوطن والمواطن لكنهم صدموا بنتائجها ـ ـ ـ أم يحتفلون على عودة حياتنا الى عصر ما قبل النهضة الصناعية ، فلا ماء صالح للشرب ولا كهرباء ولا حتى تعليم بحدّه الأدنى ، فالأمراض السارية عادت الى موطنها تفتك بالمواطنين والجهل سيطر بلا منازع طارداً كل فكرٍ نيرٍ .
 ـ إنقلاب الثامن من شباط/1963م : ويسميه المؤيدون له بثورة الرابع عشر من رمضان والمحايدون يطلقون عليه بحركة الثامن من شباط ، وقد جاء نتيجة الصراع على السلطة بين العسكريين وتداعياته وقيام عبدالكريم قاسم بإعدام نخبة من الضباط الأحرار في موقع (منطقة) أم الطبول في بغداد وتصاعد الخلاف السياسي بين الأحزاب القومية من جهة والأممية من جهة أخرى ، وكنتيجة لهذا الإنقلاب أعدم عبدالكريم قاسم في دار الإذاعة والتلفزيون رمياً بالرصاص دون محاكمة فعلية ، كما تبعته في الثامن عشر من تشرين الثاني لنفس السنة (بعد مرور تسعة أشهر) حركة قالوا عنها (تصحيحية) حيّدت حزب البعث المشارك الرئيسي في حركة الثامن من شباط . 
ـ انقلاب السابع عشر من تموز/1968م : أهم ما يميّز هذا الإنقلاب هو تنفيذه بواسطة الضباط المنتمين لحزب سياسي أيديولوجي خلافاً للإنقلابات السابقة ، والذي تمخض عن تسييس المؤسسة العسكرية وخلق مصطلح “الجيش العقائدي” ببادرة خطيرة غيرت كل المفاهيم والأسس المعمول بها في تكوين جيوشها الوطنية خاصة في منطقتنا الشرق أوسطية ، لأننا وكما نعلم من ان الأحزاب الأيديولوجية سواء أكانت في السلطة أم خارجها تعمل على تشكيل ميليشيات عسكرية تابعة لها من نفس عناصرها المدنية لأغراض معلومة ، لكنها لا تتجرأ وهي في السلطة على تسييس المؤسسة العسكرية بكاملها . كذلك طرح شعار الإشتراكية بمفهومها الحزبي أخاف ما تبقى من أصحاب رؤوس الأموال المخضرمين فغادروا البلد ، بالإضافة الى الهجرات المتتالية لشرائح مجتمعية متنوعة نتيجة الملاحقات السياسية أو هرباً من الحروب وويلاتها .
ـ الإحتلال العسكري الأمريكي/2003م : وكما نعلم تفاصيله التي عشناها ونعيشها ومسبباته العلنية والخفية وتداعياته المحلية والإقليمية والدولية ومبرراته السياسية والإقتصادية وما نتج عنه من هجرة قسرية وطوعية لما تبقى من النُخب المجتمعية لا بل طال حتى بسطاء الناس بمختلف إنتماءاتهم .
ـ الخاتمة :
لقد أدت الإنقلابات العسكرية الى نزوح عائلات عراقية حضرية وريفية عريقة بكاملها أو بمعظمها ومن مختلف شرائح المجتمع بقومياته وأديانه خارج العراق (سكنوا معظمهم الدول الأوربية خاصة إنكلترا وفرنسا لقناعتهم بفقدان الأمن والأمان وحيثُ كانوا يشكلون العمود الفقري للإقتصاد العراقي وواجهته الحضارية بأعيانه )، وهذا الأمر قد أدى الى إختلال التوازن الطبقي والمجتمعي للشارع العراقي وتغيير ديموغرافيته ، حيثُ صعدت طبقة طفيلية مليئة بالعقد وحب “الأنا” الى مواقع السلطة نتيجة الإنقلابات العسكرية أو من خلال إنتمائها للأحزاب الثورية الراديكالية وحيثُ أطلقنا عليها شتى المسميات (الطبقة الكادحة ، الطبقة المناضلة ، البروليتاريا ـ ـ الخ) وهذه الطبقات من المفروض أنها وكما جاء في أدبيات أحزابها أن تعمل دون أن تملك شيئاً عدا ما تستحصله من جهدها العضلي أو المهني ، لكنها ملكت الأرض والعباد حال تبوئها للسلطة مُحاوِلة إشباع رغبتها في السيطرة وحب التملك المادي أو المعنوي أو الأثنين معاً دون حدود لأطماعها ، وقد تناست هذه الطبقة الطفيلية واقع مواطنيها الذي إنحدرت منه وحيثُ إستغلت معاناتهم وبؤسهم لتبرير أهدافها للقيام بالإنقلابات ، لا بل زادت من تهميشهم ومعاناتهم وفقرهم بتلك الإنقلابات.
وتقدّر الإحصائيات غير الرسمية أعداد المهاجرين العراقيين منذ بدأ تلك الإنقلابات ما بين 5-7 مليون نسمة وعدد الضحايا ما بين 2-3 مليون ضحية معظمهم من الشرائح النوعية للمجتمع العراقي خاصة بعد حركة رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة في مايس/1941م وما رافقها بما سمّي بـ “أحداث الفرهود” على اليهود العراقيين مما أدى الى هجرة معظمهم أواخر الأربعينات من القرن المنصرم ثم تلاها هجرة معظم العوائل العريقة وما أطلق عليهم بالطبقة الأرستقراطية أو البرجوازية أو طبقة ملاّك الأرض بعد سقوط الملكية في تموز/1958م ثم هجرة الطبقة المثقفة للبرجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى نتيجة الصراعات السياسية والفكرية بعد إنقلاب الرابع عشر من تموز وما بعده من إنقلابات متتالية وصولاً الى إنقلاب السابع عشر من تموز /1968م وما رافقه من ملاحقات سياسية وتهجير أثني (التبعية الإيرانية كمثل) وحروب دموية أدت الى هجرة المزيد وإزدياد الضحايا من الشرائح الإجتماعية النوعية وإنتهاءاً بالإحتلال العسكري الأمريكي في 2003م والصراع الطائفي/السياسي الذي تبعه وحيثُ أتى على ما تبقى من النخبة المجتمعية فقُتِلَ مَن قُتِل وهاجرَ مَن هاجر بحثاً عن الأمن والأمان .     
ومما عرضته أعلاه يتبين لنا الأعداد المخيفة للضحايا والمهاجرين نتيجة تلك الإنقلابات وتداعياتها وفقدان خيرة أبناء الشعب ومن مختلف طبقاته وإنتماءاته ، لا بل هنالك عوائل كاملة عريقة كانت تمثل عماد النهضة والحضارة الفكرية في العراق قد تبعثرت في أرض الشتات وأصبحت في طي النسيان وإندمج أبنائها في مَهاجِرُهم مع مجتمعاتهم الجديدة وأصبحوا أعلام وشخصيات مهمة في منافيهم فخسر العراق النخبة المهمة من مواطنيه الذين كانوا يمثلون الخميرة الفعالة لبناء الدولة الفتية الحديثة .وأختتم مقالتي بحديثين لقامتين عراقيتين دفاعاً وتوضيحاً لتوثيقاتهما ودعمهما للحقيقة فقط لا غيرها ، أولهما شاعرنا الكبير معروف الرصافي الذي إستشهد المؤرخ الكبير خليل ابراهيم حسين بمقدمته المؤرخة في 5 تموز 1933م وجعلها مقدمة لكتابه “ثورة الشواف في الموصل 1959م” ، حيث جاء في حديث الرصافي : “اما سخط الناس من اجل انني خالفتهم لوفاقها وصارحتهم في بيانها جريا على خلاف ما جروا عليه من عادات سقيمة وتقاليد واهية فلست مباليا به ولا مكترثا له ما دمت لا اطلب بما اكتبه الا رضى الحقيقة” إنتهى كلام الشاعر معروف الرصافي  .وثاني القامتين أ.د. سيّار الجميل الذي ختم مقالته النقدية البحثية “عبدالكريم قاسم بين زمنين” والمنشورة على موقعه وفي جريدة الزمان اللندنية/ملحق الف ياء ، العدد 1137، الأثنين 11 فبراير/شباط 2002م والتي جاء فيها ما يلي : “ليس لي غير الحيادية والاستقلالية المجردة عن كل الاحتقانات السياسية المزمنة في العراق ـ ـ وأتمنى أن يغدو اسلوب كل من الحيادية والاستقلالية : منهج حياة وعمل وممارسة لكل العراقيين والعراقيات في دراسة تاريخهم والحُكم على رجالهم في توضيح ما لهم وما عليهم بعيداً عن المزايدات السياسية واللعب بعواطف الناس واعصابهم وتشويه قيم الجيل الجديد وتفكيره ـ ـ خصوصاً ونحن نعرف بأن العراقيين من أقوى خلق الله عاطفة وتشبث وسخونة وشاعرية وانفعالات” !! ، إنتهى كلام المؤرخ الكبير أ. د. سيّار الجميل .
أما كاتب هذه المقالة فيقول : ليس هنالك أعلى وأغلى من العراق ، والعراق اليوم يحتضر بوحدته ووحدة أبنائه نتيجة تلك الإنقلابات المجنونة وأطماع القائمين بها كما أثبتتها الحقائق على لسان من كانوا معاصرين لها وقريبين من أصحابها ، لذا فالواجب الوطني والأخلاقي يحتم علينا كشفها ووضعها في قفص الإتهام لِما آلت اليه أوضاع الوطن والمواطن على حدٍ سواءٍ ، والمعذرة للذين يختلفون معي على بياني للحقيقة كما رأيتها وسمعتها وقرأتها من مصادرها الأصلية . إنتباهة :(1)            – فقط نستثني رشيد عالي الكيلاني الذي تخرج في كلية الحقوق ، لكنه إعتمد أيضاً على العسكر في تنفيذ حركته .
(2)            – أعطيتُ لإنقلاب الرابع عشر من تموز/1958م مساحة اكثر من بقية الإنقلابات كونه يُعتبر نقطة التغيير الرئيسية لصيرورة الدولة العراقية الحديثة بتغييره لنظامها الملكي الدستوري الى جمهوري رئاسي ، ويعتبر هذا الإنقلاب خط البداية  للصراع على السلطة بين العسكريين والذي قاد الى الإنقلابات الدموية الأخرى التي تلته ، ويعتبر الإنقلاب كذلك المنصة التي انطلقت منها الصراعات السياسية بين الأفكار القومية والأممية .