22 ديسمبر، 2024 10:12 م

الإنسانية المنتهكة في رواية ( حياة ثقيلة ) الإنسانية المنتهكة في رواية ( حياة ثقيلة )

الإنسانية المنتهكة في رواية ( حياة ثقيلة ) الإنسانية المنتهكة في رواية ( حياة ثقيلة )

في روايته ( حياة ثقيلة ) الصادرة عن دار الأدهم بالقاهرة ، يعود الروائي العراقي ( سلام ابراهيم ) ليكشف لنا صفحة جديدة من سفرتجربته الحياتية والنضالية التي تعرفنا على جانب كبير منها في أعماله السابقة ، وذلك بعد ان جلس على حافة الستين مستذكراً طفولتة ، البيت ، الشارع ، الارصفة ، طيف الحبيبة ، ومعذبا ً بصور الأحبة والأصدقاء الذين أخذتهم الحروب والزنازين والتي تحولت الى كوابيس وجحيم يلاحقه في كل مكان لما بينهم من مشتركات يقف في مقدمتها حلم بناء مجتمع وعالم تسودهما العدالة والمساواة .
ترصد الرواية حياة ثلاث شخصيات جعل منها الروائي فصولا رئيسية لنصه ، اضافة الى شخصية اخرى غير منظورة هي شخصية الراوي التي تجدها طاغية بحضورها ومشاركة في العديد من المحطات والمنعطفات في حياة شخصيات الرواية التي عانت كل واحدة منها سلسلة انكسارات وهزائم وأزمات اجتماعية وسياسية ، وجمع بينها الاصرار على مواجهة ثقل الحياة بالكفاح الشريف لتحقيق أحلامها بعيدا عن الانزواء المذل ، فهي أرواح مفعمة بروح الأممية التي تربّت عليها من الكتب الماركسية وحكايات المناضلين الكبار .
فـ ” أحمد ” ـ الشخصية الأولى في الرواية ـ شاب يعيش حلم بناء عالم جديد من خلال تبنيه الماركسية والتزامه بتنظيمات الحزب الشيوعي العراقي لكن عنفوانه يصطدم بعدد من الانكسارات الاجتماعية ممثلة بزواج اختيه الفاشلين وفشله في المهن الحرة وقتل شقيقه الأصغر في جبهة الحرب إضافة الى موت امه كمدا، كل هذه الضغوط تعمل على اضعاف اندفاعه و تضعه امام خيارين هما الانتحار او الهرب الى مكان اخر، فيختار الهجرة الى بغداد ويرافق هذا التحول في المكان انسلاخه من التزامه الحزبي وأفكاره والانغماس في الديانة والسلوك الطائفي الذي ينتهي به هذا التحول الى جسد مضرج بدمه نتيجة وابل الرصاص الذي تلقاه من بنادق التطرف الذي ساد مدن العراق بعد التغيير عام 2003 .
كذلك حال ” سعد ” ـ الشخصية الثانية في الرواية ـ فهو الآخر شيوعياً منظما يضطر الى الاختفاء بعد هجمة السلطة على تنظيمات حزبه نهاية السبعينيات ، تاركا زوجته وبنتيه نهباً للمجهول ، ثم ملتحقا بالفصائل الفلسطينية ومحاربا في صفوف الفدائيين ، وفي خضم هذا العنفوان والتنقل بين صفوف الحركات اليسارية واخرها حركة الانصار في كردستان العراق ترده أخبار اقتران زوجته برجل اخر وهو ضابط أمن كبير في الوقت الذي يقف فيه محاربا ومندفعا صوب تحقيق حلمه الذي نذر له حياته وضحى بأعز مايملك ، يقع هذا الخبر كالصاعقة عليه حيث يوجز مأساته بقوله ( حرمونا من العائلة والبيت والشارع والمدينة ، رجعوا ناكوا زوجاتنا .. الرواية 135 ) ويشكل هذا الحدث منعطفا في حياته ، حيث يعيش بعده منكسرا ، منهارا ، لايقوى على استيعاب ماحدث لعائلته فيقرر هامسا لصديقه الراوي (لو بقي يوم بعمري ، لازم أشوف بناتي وأشوف الرجل اللي احتل مكاني بالفراش .. ص 142 ) وينتهي نهاية غامضة تعددت فيها التكهنات بين رفاقه الذين لم يجدوا عند نقطة انتهاء نوبة حراسته اي أثر له سوى ( سلاحه وحلم الثورة وحقيبة النقود ص 146) في اشارة الى خسارة المناضل لحلمه دون نزاهته عندما ترك مالية التنظيم كاملة .
أما ” حسين ” ـ الشخصية الثالثة في الرواية ـ فهو الآخر شاب حالم وعصامي تلقي الحياة بأثقالها على عنفوانه ، حيث يتكفل ـ بعد وفاة والده ـ بمعيشة أخا واختين صغار واخت ثالثة مطلقّة وذلك من خلال عمله سائق حفارة ، وتتضخم هذه العائلة لاحقا بزوجته الى جانب ثلاث بنات وولد والجميع بلا مأوى ، وهو يفخر امام كل هذه الاثقال والسنوات المريرة بحروبها وحصاراتها انه ( مازلت حيا …حبيبي الموت جزء منا ص 152 ) ويتعرض للسجن بسبب نشاطه السياسي وسجن اخر بتهمة تهريب الآثار بينما الحقيقه هي تهريب لوحات لرسامين عراقيين جياع لبيعها في سوريا والاردن . تحدى ظروف الجوع والحصارات والسجون والرعب المتواصل من التفكير اليومي باغتياله مثلما اغتالوا اصدقائه النشطاء السياسيين ، واستطاع ان يصل باخوته وابناءه الى ضفة آمنه ، ولكن مافت عضده ورماه فريسة للألم هو اختفاء ( فيروز ) ابنته المهندسة المثقفة في ظروف غامضة لم ينجح في العثور عليها بالرغم من بحثه الطويل مما يقع لقمة سائغة لأنياب الخمرة التي يجد فيها ملاذا للافلات من قبضة الهموم والهواجس المدمرة وينتهي بالموت بعد ان تنهش الامراض جسده النحيف . وحتى شخصية الراوي هي الاخرى لم تسلم من الانكسار واليأس ، ففي خضم مشاركتها المقاتلين حلمهم ونضالهم كان يسخر ويرى ( حلم المقاتلين الذي كان يجهرون به لكن بمرور الأيام يتبين لهم مجرد اضغاث أحلام ص 136 ) ويبقى يعيش المرارة واليأس حتى بعد سقوط النظام الذي كان مصدر عذاباته وعذابات الشخصيات الأخرى ، فبعد سنوات حيث يشهد معالم الخراب الذي طال مدينته وانفلات الأمن فيها يهمس لذكرى صديقه (سعد ) ـ الشخصية الثانية ـ ( وطننا التعيس ياسعد ، تعيس حقا وأنا أهنئك لأنك لم تر ْبؤس هذه الأيام ص 126 ) .
بهذه النهايات المأساوية تلاقي شخصيات الرواية مصائرها والتي مثلت أزمة جيل في فترة من تاريخنا المعاصر كان يبحث عن الحرية في دروب مظلمة ، وقد تبدو هذه النهايات مختلفة عن بعضها لكنها كانت مفضية الى مأساة واحدة تتجسد في انسانيتها المنتهكة واحلامها المسحوقة ، حيوات كانت يوما تعيش الأمل في عالم تسوده الحرية والمساواة الا ان خيبتها كانت واحدة.
ان شخوص الرواية حقيقيون ومعروفون بحضورهم وتاريخهم ، كما ان أغلب الاسماء التي وردت في الرواية هي الاخرى مستمدة من شخصيات حقيقية ، لكن مهارة الروائي (سلام ابراهيم ) الذي كان بارعا في خلط الواقع بالمتخيل تمكنت من تمويه الخط الفاصل بينهما الى الحد الذي جعل الامر يلتبس حتى على العارفين بالشخصيات وتاريخها .
بقي ان نشير الى ان صدور الرواية جاء في توقيت غاية في الأهمية ، وان لم يكن مقصودا او مخططاً له ، ففي الوقت الذي اهتزت فيه صورة العراق والعراقيين امام المجتمعات بسبب المشهد العراقي الذي ساده صور القتل وانتشار العصابات والمليشيات ومافيات الفساد جاءت الرواية لتقول ليست هذه صورة العراق انما صورته الحقيقية هي التضحيات التي قدمها ابناءه الشرفاء من حملة قيم الانسانية والتحرر التي كانت عليها شخصيات الرواية .
لقد قدم لنا سلام ابراهيم في ( حياة ثقيلة ) سيرة انسانية وسياسية مؤثرة ، أكدت قدرته على العطاء المميز في مجال السرد ووفاءه النبيل لمن شاركهم الاحلام في عالم ينعم بالسلم والجمال  .