شكلت نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية الاخيرة فيما يختص بكوتا المسيحيين، تحولاً سياسياً واضحاً رسم ملامح مرحلة جديدة من التعاطي بين القوى السياسية الكبرى في البلاد “الشيعية والكردية” مع هذا المكون، فيما أظهرت تراجعاً ملحوظاً لقوى سياسية كانت لسنوات تحصد غالبية أصوات المسيحيين. من جهة أخرى جاءت مشاركة المسيحيين في الانتخابات، لتشكل هي الأخرى رسالة لجميع القوى بأن المسيحيين غير راضين عن أدائها السياسي في السنوات الاخيرة. وسنحاول بقراءة هادئة تحليل نتائج الإنتخابات وفرز القوى الرابحة والخاسرة فيها.
اشتركت في هذة الانتخابات ضمن الكوتا المسيحية سبعة قوائم: المجلس الشعبي، اتحاد بيث نهرين، تجمع السريان، اتحاد الكلدان، ائتلاف الرافدين، ابناء النهرين، بابليون، ومرشح مستقل واحد، وكان تمثيل المسيحيين في البرلمان السابق عبارة عن مقعدين للرافدين ومقعدين للمجلس الشعبي ومقعد للوركاء المدعومة من الشيوعيين، والتي لم تشترك في الانتخابات الحالية كقائمة وفضلت دعم اتحاد بيث نهرين.
هكذا تمّت الهيمنة على الصوت المسيحي
كان أبرز ما افرزته الانتخابات هو فوز قائمة “الفتح” الممثلة للحشد الشعبي بقيادة الامين العام لمنظمة بدر النائب هادي العامري، بمقعدين من مقاعد الكوتا الخمسة وذلك من خلال إشراكها لأحد فصائلها المسيحية “حركة بابليون”، وتجيير أصوات شيعية لها بشكل تعجز اي قائمة اخرى منافستها، وبالتالي تضيف لمجموع ما كسبته “الفتح” من مقاعد مقعدين أخرين كسبتهم بأصوات قليلة نسبيا الى قيمة المقاعد الوطنية الأخرى.
واستغلت قائمة “الفتح” انخفاض نسبة المشاركة بين المسيحيين للإستيلاء على كامل مقاعد الكوتا، فالقانون حدد للمسيحيين خمسة مقاعد موزعة على خمسة محافظات، فيما ترك التصويت لها مفتوح لأي مقترع من جميع المحافظات، كما ترك للمقترع الخيار في انتخاب اي مرشح حتى لو كان ليس على محافظته، على اساس النسبية العراق دائرة واحدة.
وإضافة الى ذلك عمدت لإيصال شخصيات لا تملك أي حضور سياسي مسيحي، ما جعلها في مواجهة القوى التي تمثل الحضور المسيحي على اختلافها كنائس وأحزاب ومؤسسات ثقافية واجتماعية، وفي الوقت ذاته تملك فائض القوة العسكرية كونها فصيل مسلح لا يشكل المسيحيين منه إلا عدداً قليلاً من قياداته، لا يتجاوز زعيم الحركة وعائلته.
النائب عن كتلة الرافدين عماد يوخنا اعتبر أن “القانون يحتوي ثغرة وهي امكانية التصويت من خارج ابناء المكون، مما اتاح الفرصة لسرقة الأصوات من قبل الكتل الكبيرة عبر دعمها قوائمَ تابعة لها كما فعل الحزب الديمقراطي الكردستاني في كركوك وتوجيه اصواته لمرشحين بعينهم ضمن ثلاثة قوائم بالاف من الاصوات، بعد عدم مشاركته بالانتخابات في كركوك بحجة وجود قوات اتحادية نتج عنها فوز مرشحين اثنين منتمين للحزب”. وشدد على أن “كتلة بدر الشيعية مارست العمل ذاته ولكن بشكل أوسع من دعم احد اجنحتها حركة البابليون”.
وأشار يوخنا الى أن “تشتت الاصوات بين قوائم متقاربة بالتوجه السياسي وممارسة التسقيط الانتخابي مما جعلها منشغله بالصراع فيما بينها وأبعدها عن الخطر القادم من الحالاتين السابقتين”.
الكنيسة الكلدانية وبرلمانيي الدورة السابقة أبرز الخاسرين
الكنيسة الكلدانية كانت أحدى ابرز الخاسرين إن لم نقل الخاسر الأكبر. فرهانها الذي كان على ائتلاف الكلدان لم يؤد سوى إلى الحصول على مقعد واحد، وبعدد اصوات هزيل إذا ما تمت مقارنته بحجم الكنيسة الذي يفوق المليون ونصف مؤمن، وحجم الدعاية الكبيرة التي تم استغلال الكنائس ورجال الدين فيها الى حد كبير، فلم تنجح الكنيسة في دفع ابنائها للتوصويت للقائمة على رغم مراهنتها على احياء الشعور القومي الكلداني، والذي يبدو انه فشل كخطاب لمشروع ولد ميتاً. والأكثر إيلاماً أن المقعد الكلداني الوحيد جاء بدعم كردي صريح أعلنه اكثر من مسؤول ولصالح مرشح بعينه على حساب باقي المرشحين.
أما الخاسران الآخران فهما الحركة الديمقراطية الاشورية والمجلس الشعبي، واللذين كانا يهيمنان على اغلب مقاعد الكوتا. وعلى رغم التباعد بين مشروعهما السياسي، الا انهما اشتركا في خسارة اغلبيتهما البرلمانية وحضورهما السياسي والشعبي.
الكاتب الصحفي باسم فرنسيس اعتبر أن “الحركة الديمقراطية الآشورية التي كانت تتمتع بشعبية أوسع من منافسيها، تعرضت لانشقاق وما زالت تعاني من خلافات داخلية، في وقت تواجه فيه تنافساً من قوى تشكلت في السنوات الأخيرة، وإن كانت تلك لا تحظى بشعبية واسعة لكنها تتلقى دعما قويا من أحزاب إا كردية أو شيعية متنفذة. أما القوى التي حاولت الظهور بمعزل عن ما يوصف بالتبعية، فإنها لا شك تواجه صعوبات في مجاراة اللاعبين الكبار، فهذه الانشطارات والصدوع، زادت بنسبة كبيرة من الثقل الواقع على المجتمع المسيحي الذي لم يعد يولي كثيرا اهتماماً بالأنشطة السياسية، والبعض يعتبرها غير مجدية مع تقلص حاد في أعداد أبناء الديانة الذين تغلب عليهم الرغبة بالهجرة”.
من جهة أخرى يعتبر فرنسيس أن “المعضلة الثانية ترتبط بالسبب الأول، وهي أن المنافسة بين الأحزاب المتنفذة أو الكبيرة بين الجانبين الكردي والعربي أو الشيعي تحديدا، جعلت من المسيحيين جزءاً من ساحة الصراع القائم بينهما”. وأشار إلى أن “المقاعد الخمسة المخصصة لكوتا المسيحيين تبدو في متناول الكبار، لأن عتبة المقعد النيابي العام قد تصل إلى عشرين ألف صوت أو أكثر، بينما عتبة مقعد الكوتا قد لا تتجاوز بضعة آلاف صوت، وبالتالي فإن هذه المقاعد يتم مصادرتها عنوة طالما لم يحصر النظام الانتخابي حق التصويت بالمسحيين، ليترك الباب مفتوحا أمام الناخبين من خارج الأقلية”.
هذا ويتفق الناشط السياسي زومايا ايرميا مع ما سبق قوله، ويجد ان “نظام الكوتا لم يعد يلبي طموح شعبنا كونه يسمح للجميع باختيار المرشحين من داخل الكوتا، مما يؤدى الى تدخل احزاب كبيرة عبر مرشحيين مسيحيين موالين لهم لكسب المقاعد بعدد اصوات اقل مما هو عليه في المنافسة العامة”. وأشار ايرميا إلى أن “احزابنا تتحمل جزءاً من تدهور الواقع السياسي، فهي فشلت في ان تجتمع في ائتلاف سياسي لمواجهة الالأحزاب المهيمنة في الجانبين الكردي والشيعي، وهذا ينم عن ضعف في القراءة السياسية، واصرت على اضاعة جهودها في صراع انتخابي اعتمد إسقاط احدها الأخر ما أفقدها ثقة غالبية ناخبيها وأنتج نفوراً من المشاركة بالانتخابات فخسرت وخسر الشعب تمثيلاً برلمانياً لصالح قوى دخلية”.
إعادة رسم استراتيجية جديدة وإلا…
على الرغم مما شكلته نتائج الانتخابات بالنسبة لعموم العراقيين من بارقة امل للتغيير، الا انها جاءت مخيبة للآمال فيما يتعلق بالمسيحيين. ومع تعدد اسباب الفشل الا أن وضع ستراتيجية جديدة للمرحلة القادمة تشترك فيها جميع القوى التي تمثل المسيحيين وليست الدخيلة على بيئتهم وواقعهم، لمحاولة ترميم الحضور السياسي المسيحي، هو أمر حيوي وبالغ الأهمية.
وفي مقدمة ما يجب أن تفعله جميع تلك القوى هو اعترافها بفشل مشروعها السياسي منذ التغيير عام 2003 والى اليوم، كما عليها أن تحاول إعادة بناء جسور الثقة بينها وبين جمهورها والذي عزف في هذه الانتخابات عن التصويت لأيٍ من القوائم التي مثلته وابدى عدم اهتمام بما رفعته من شعارات سياسية اعتبرها بالية ولم تعد تلبي أياً من طموحاته، أما الكنيسة فعليها أن تراجع في شكل دقيق مشروعها الذي اثبت هو الاخر فشله، وعليها تقع مسؤولية الإنطلاق ولملمة ما تبقى من قوى سياسية مستقلة لبناء جبهة سياسية تمثل المسيحيين بشخصيات سياسية رصينة، والا فإن الحضور المسيحي السياسي ينزلق نحو اسوأ تمثيل شهده العراق في تاريخه المعاصر.