تَلعبُ التغيرات الاجتماعية دوراً كبيراً في توجيه الإنسان نحو جهة معينة ؛ وقد اصُطدمتْ اغلب المشاريع الإصلاحية بمعارضة الطبقاتِ المُتنفذةِ التي اعتادتْ على سلوكٍ يُوفر لها نَصِيبها منْ المكاسبِ الماديةِ والمعنويةِ. عندما جاءَ الإسلامُ كانَ المجتمعُ المكيُ خصوصا ، وجزيرةُ العربِ عموماً يُعانان من محدوديةِ المواردِ الاقتصاديةِ ؛واغلبُ الثقل الاقتصادي يعتمدُ على التجارةِ والرعيِ مع احتقارٍ واضحٍ للعيان لأصحابِ الحرفِ الذين كانوا أغلبهم من الموالي والعبيدِ واليهودِ وبقية الديانات.
المجتمعُ المكيُ قائمٌ على التجارةِ ، حيثُ كانَ تجارُ قريش يقومونَ برحلتين سنوياً ،في الصيفِ والشتاءِ ، وقد أشارَ القرآنُ الكريمُ بقوله (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)). وكانتْ أغلب رؤوس الأموالِ تتركزُ في بيوتات معينة هي التي شكلت عصب الحياة المكية . وبعد دخول الإسلام تغيرت الأوضاع ، وحدثت طفرت نوعية في النظام الطبقي من خلال الدور الريادي الذي قام به بعض الصحابة في نشر الدعوة الإسلامية ،فقد كان هؤلاء من نحل وملل شتى . ولدَ هذا التغير طبقة جديدة تضاف إلى الطبقات الرئيسية السابقة؛ يمكن إن نطلق عليها بمصطلح اليوم ” الطبقة الوسطى ” . أستطاع الرسول الأعظم(ص) استيعاب الطبقة الاستقراطية الثرية مع تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء .ولكن الذي حدث بعد وفاة الرسول (ص) أن هؤلاء الذين جلهم من بعض الصحابة وأولادهم ،وحاولوا الحصول على مكاسب أضافية تميزهم عن غيرهم من المسلمين كون بعضهم من رواد الدعوة الإسلامية الأوائل(من أهل السابقة ). لذا ظهرت طبقة برجوازية إسلامية في صفوف بعض الصحابة ومن بعدهم أولادهم ،وبدءوا يمسكون بمفاصل الحياة الاقتصادية والسياسية بقوة ، مستغلين تساهل بعض الخلفاء في الموضوع،حتى وصل الأمر أن يكون اغلب قادة الجيش والولاة من قريش . استفحل الأمر في عهد الخليفة الثالث ،ما اوجد معارضة قوية من قبل بعض الصحابة حول كيفية أدارة أمور الحكم ،وقد يكون أبو ذر الغفاري من هؤلاء المعارضين الذين نادوا بضرورة تحقيق التوازن والعدالة الاجتماعية وعدم تركيز المال والنفوذ في أيدٍ معينةٍ دون غيرها . والنتيجة معروفة نفي الغفاري لقوة الطبقة الأستقراطية وسيطرتها على أدارة الدولة . لتتطور الأمور إلى الحل العسكري لتصحيح الاعوجاج الذي حصل ،ومما تمخض عن مقتل الخليفة الثالث .
جاء الإمام علي (ع) في ظل صراع طبقي مرير بين أفراد قلائل يستأثرون بالامتيازات الكبير وتعاظم ثرواتهم، مع طبقة معوزة جلها من الموالي والعبيد والأعراب . أشار الإمام علي (ع) إلى هذا الصراع ” إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ “. وجرت العادة إن يحكم المال بالسياسة ، ويساهم في اتخاذ القرارات نتيجة العلاقات التي تربط أصحاب رأس المال بالساسة ،ومحاولة أن تصب أغلب قرارات الدولة لصالحهم . ورث الإمام علي(ع) تركة ثقيلة من التعقيدات اغلبها كانت قائمة على صراعات طبقية مع عدم استقرار في موارد الدولة نتيجة كثرة الحروب (الجمل ، صفين ، النهروان ) ؛وحتى هذه الحروب برغم أنها ذات صبغة دينية وسياسية ،ولكنها يشم منها رائحة الصراع الطبقي بين رأس المال والطبقات المحرومة . حيث بعض الصحابة من أصحاب النفوذ كانوا يمنون أنفسهم في الحصول على مكاسب جديدة في ظل الخليفة العادل ، أو على الأقل المحافظة على ما وصلوا إليه من ثراء . طموحات هؤلاء بائت بالفشل ،واصطدمت بنموذج من العدل قل نظيره ان يتكرر،وأول من طبق بنود هذا العدل على خاصته والمقربين منه،وقصة عقيل معروفة” و الله لقد رأيت عقيلا و قد أملق حتى استماحني من بركم صاعا،و رأيت صبيانه شعث الشعور،غبر الألوان من فقرهم،كأنما سودت وجوههم بالعظلم ،وعاودني موكدا،وكررعلي القول مرددا،فأصغيت إليه سمعي،فظن أني أبيعه ديني،و أتبع قياده مفارقا طريقتي،فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها،فضج ضجيج ذي دنف من ألمها،و كاد أن يحترق من ميسمها.فقلت له:ثكلتك الثواكل يا عقيل،أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه،و تجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه؟أتئن من الأذى و لا أئن من لظى ” . مجتمع فتي استطاع أن يكون فيه ان يكون لبعض الصحابة مكاسب مالية ضخمة ؛كيف ينازل على ما حصل عليه ؟ خصوصا مع وجود نظرة التفضل التي تريد أن يميز هؤلاء عن غيرهم من المسلمين . ومن هنا بدأ الصراع يأخذ طباعاً سياسياً اقتصادياً يقوده بعض المسلمين من الطبقة البرجوازية التي استطاعت أن تجني مكاسب مالية في مدة زمنية قصيرة . فكان لابد من المؤامرة لقلب رمز العدالة الإنسانية ،فجاء استشهاد الإمام علي (ع) على ابن ملجم الخارجي بمباركة وتشجيع بعض الأطراف المتنفذة اقتصادياً ، لأنها خَشِيت من انتزاع ما حصلت عليه لو بقيت الأمور بيد الإمام علي (ع) ،وبدليل أمور الدولة لم تستقم لابنه الحسن (ع) من بعده ، حيث فضل بعض الصحابة وأولادهم مبايعة معاوية على أن يأتي شخص يسير بسيرة أبيه (ع). استمرت المؤامرات تحاك من ذات النفوس للحيلولة دون وصول أهل بيت النبوة إلى دفة الحكم واخذ الأمة بسيرة الرسول (ص) .
يبقى الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من العدالة الإنسانية بحيث لم يستطع المجتمع أن يستوعبه ،وربما يقول قائل انه جاء في زمان غير زمانه .