الوسطية هي العدالة، وهي وضع الشيء في موضعه الصحيح، فلا جور ولا ظلم ولا حيف على الآخرين بل الإنصاف من النفس وإحقاق الحق وتسليم الحقوق، وهذا ما تجلى في حياة وسيرة الإمام علي -عليه السلام- وهو القائل (من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه و مؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم).
وعند تتبعنا لكيفية تعامل الإمام علي -عليه السلام- مع المال العام، فسنجد العدالة بأوضح صورها، فهو لم ينحرف عن المنهج المعتدل حتى عندما كان يحتاج إلى تدعيم ملكه كما يشير عليه البعض، فقد (روي عن أبي مخنف الأزدي قال: أتى أمير المؤمنين -عليه السلام- رهط من الشيعة، فقالوا: يا أمير المؤمنين! لو أخرجت هذه الأموال ففرقتها في هؤلاء الرؤساء والأشراف، وفضلتهم علينا حتى إذا استوسقت الأمور عدت إلى أفضل ما عودك الله من القسم بالسوية والعدل في الرعية، فقال أمير المؤمنين -عليه السلام-: ويحكم! أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من أهل الإسلام؟ لا والله، لا يكون ذلك ما سمر السمير، وما رأيت في السماء نجما، والله، لو كانت أموالهم مالي لساويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم).
ويستمر علي -عليه السلام- في وسطيته بالتعامل حتى مع ألد خصومه وأعدائه، ففي معاركه يأبى علي إلا أن يمارس وسطيته وعدالته وإنصافه، والأمثلة كثيرة في ذلك ومنها كيف يروي أعدءه وخيولهم من الماء وينقذهم من العطش بعد أن منع هؤلاء عن جيشه شرب الماء عندما كانوا يستولون على الماء.
وعلي هو الذي ينظر إلى الناس سواسية وهم (صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، وهو الذي يقول (أيها الناس! إن آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرار)، وهو الذي يوبخ أتباعه لأنهم تركوا رجلاً كبيرًا من أهل الذمة يستجدي على قارعة الطريق فيأمر له بالعطاء.
وبعد، حتى عندما تخضبت هامته بالدم بعدما ضربه أحد المارقة، فنراه قد تمثل بوسطية وعدالة ما بعدها وسطية وعدالة فأمر أن لا يعذب قاتله قائلاً (يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. ألا لا تَقْتُلُنَّ بِي إِلاّ قَاتِلِي. انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، وَلا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وآله- يَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ). فكان الإمام علي -عليه السلام- مثال الوسطية في القول والفعل إلى آخر أنفاسه ليستحق الفوز في نهاية المطاف (فزت ورب الكعبة) ولهذا كان (حب علي جنة) من الافراط والتفريط ومن التعصب والتطرف والانحراف (لكن بشرطها وشروطها) كما يقول أحد أعلام الإسلام في عصرنا الحاضر (ﻭﻴﺘﺤﺼل ﻤﻥ ﺫﻟﻙ ﻜﻠﻪ ﺃﻨﻪ ﻻ ﻴـﺼﺩﻕ ﻋﻠـﻰ ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ ﺃﻨﻪ ﺸﻴﻌﻲ ﻭﺃﻨﻪ ﻴﺤﺏ ﻋﻠﻴـﺎً ﻭﺃﻫـل ﺍﻟﺒﻴﺕ -ﻋﻠﻴﻬﻡ ﺍﻟـﺴﻼﻡ- ﺇﻻ ﺇﺫﺍ ﻜـﺎﻥ ﻋﻨـﺼﺭﺍً ﻤﺘﻜﺎﻤﻼً ﻓﻲ ﺫﺍﺘﻪ ﻭﺸﺨﺼﻪ، ﻭﻋﻨﺼﺭﺍً ﺼـﺎﻟﺤﺎً ﻭﻓﻌﺎﻻً ﻓﻲ ﻤﺠﺘﻤﻌﻪ، ﻟﻠﻭﺼـﻭل ﺇﻟـﻰ ﺘﻜﺎﻤـل ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻤﺴﻠﻡ ﺒﻌﺩ ﺘﻜﺎﻤل ﺍﻟﻔﺭﺩ ﺍﻟﻤﺴﻠﻡ).