22 ديسمبر، 2024 10:44 م

الإمام علي … أمة في رجل

الإمام علي … أمة في رجل

تميَزت حياة علي بن ابي طالب بخصال عديدة كان من أوضحها تعامله الانساني المجرد مع الآخرين والمبني على احترام الانسان كإنسان بغض النظر عن أي شيء آخر المحافظة على حقوقه وشخصيته المادية والمعنوية في أي موقع ومكان ومهما كان حجمه ومستواه . تكمن أهمية التوجه الى هذا الجانب من حياة علي هو دوره في التأثير على مجمل حياة الانسان الشخصية والاجتماعية ، فلقد كانت حياته زاخرة بأمثلة عديدة من التعامل الانساني مع الآخر في مختلف الاوضاع والظروف، فهي بحق مثالاً وقدوةً يُحتذى بها، خصوصاً ونحن نستعيد هذه الأيام ذكرى استشهاده الآليمة. إن حضور هذا البعد في حياته هو الذي جعل من شخصيته الفذة خالدةً على مستوى البشرية كلها، وليس في تاريخ المسلمين وحدهم ، فمهما كتب القلم عنه فإن مداده لن يكفي، وإن جاءت قرون قادمة قد تجد فيها الأجيال عوامل عديدة أخرى ضمن عطاء علي بن أبي طالب، وذلك هو مكمن التجدد المستمر في واقع شخصيته الفذة . كانت روح علي بن ابي طالب في رحلات عطاء وإبداع مستمرة بدء ً من رحلة إيمانه وهو ذلك الصبي الذي لم يشوه يقينه هيمنة آلهة قريش وإنتصابها أمام عينيه فنراه يقول ( والله لو كشف لي الغطاء ما أزددت يقينا )، مرورا ً برحلة شجاعته التي لم يصمد أمامها الفرسان والطغاة من أجلاف قريش وهو القائل ( ما بارزني أحد قط إلا وأعانني على نفسه ، فكنت أنا ونفسه عليه ) وصولاً لأمانته وحفظه للأموال العامة ، فكانت عنده مسألة التفريط بأموال المسلمين ، خيانة كبرى ، وهذا التفريط يأتي عن طريق توزيع الأعطيات بصورة خاصة للأقرباء أو الأصدقاء ، وهو مدعاة لغضب علي ،وحزمه في المعاقبة. ( قال في كتاب له الى أحد عماله :” وإني أقسم قسماً صادقاً ، لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً ، لأشدن عليك شدةً تدعك قليل الوَفْرِ ، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر ، والسلام “). كثيرة هي محطات هذا الرجل الذي شغل كل مساحة حياته ولم يدع فيها حيزا ً إلا وأستثمره على أكمل وجه ، مما جعله مستغنيا عن الحاجة لكل الناس والناس كلها في حاجة إليه ، فلم تخدعه لعبة المنافع السياسية والمادية الزائلة ، ففي نفسه الكبيرة تجمَعت عبقريات مختلفة سمت على كل العبقريات المعتادة وطغت بقيَمها عما كان دارجاً ومألوفا ً عبر كل السنين فأصبحت أفكاره عن الحياة والإنسان تكريساً لما يؤمن به من قيم موضوعية راقية ، فآلى

على نفسه أن يُقاوم الخطأ الذي سببته ُ الفوارق المعقدة بين البشر، ونجم عنه الإستغلال والقهر، والإقتتال والتمايز ، وإستعباد البشَر. علي ليس كباقي البشر ولا أقصد هنا تأليه هذا الرجل أو رفعه لمراتب النبوة فنبوة محمد ظلُ وارف كان علي يستظل فيه ، لكني وددت هنا ان أنصف هذا العملاق كما يحلو لي لشغفي بحب هذا الرجل ليس على الطريقة الروزخونية أو طريقة حب البعض له ( ممن يحسبون أنفسهم شيعة )عن جهل وقلة دراية لمجرد انه إمام الشيعة ، بل بطريقة الإنسان المُفكر الذي تهمه قيم ومعاني الإنسانية والتي أبت أن تجتمع في فرد كإذعانها لأن تجتمع كُلها دفعة واحدة في ضمير و وجدان علي. لقد شكل مثالاً إنسانياً خالداً في التعبير عن القيم الانسانية فكراً وممارسة، وفي العلاقة على الصعيدين الفردي والجماعي. ونراه يرفض ممارسة العدل بأنصاف الحلول ، ويأبى أن يتعامل مع الفقراء وهم الاكثرية في المجتمع على أساس أنهم فقراء للأبد ، وهو مفتون بكرسي السلطة الذي يعزله عن قاعدة المجتمع الكبيرة. فهو يرى أن الحاكم الذي يعجز عن حل قضايا العدل الاجتماعي، عليه أن يبقى منحازاً إلى الفقراء ، لا بالأفكار والكلمات بل بالسيرة والسلوك. ( قال أحدهم لعلي بن أبي طالب : هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك وأنت أمير المؤمنين! قال : ” ويحك ، إني لست كــأنت، إن الله تعالى فرض على أئمة العدل أن يتأسوا بضَعَاف الناس، كيـلا يهيج بالفقير فُقرهُ ! “). ولذلك نرى أن الصلة بالفقراء والتأسي بالضعفاء لا تفرض نفسها إلا على من أمتلك روحا كبيرة كروح علي ، فهو يضع لها مكانة خاصة وتأثيراً ملموساً ملؤه الاصرار على أن يكون دائما في معسكر الفقراء والمستضعفين من الناس. كما يرى أن العلاقة الصحيحة والمثمرة مع الناس مباشرةً هي الضمانة الكبرى في أن يأخذ الحق مجراه الطبيعي ، فكان يرفض أية واسطة بينه وبين الناس لأنه ينشد ديمومة التعايش والتواصل مع الرعيَة، وديمومة الاستماع الى مشاكل الناس وهمومهم .( قال يوصي عامله على مكة قثم بن عباس : ” ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك ، ولا حاجب إلا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها، فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تُحمد فيما بعد على قضائها “). لقد كان علي بن أبي طالب ، يرى في حاشية الحاكم الخطر الأكبر على مصير الأمة ، فقد كان يركز دائما على عماله و ولاته في هذا الشأن، لتجنب المخاطر التي قد تنجُم عن سوء الحاشية من الانتهازيين والمطبلين ، والمدَاحين، الذين لا يجيدون غير النفاق والإطراء ، ولا يعرفون الصدق في شيء ، حاثاً على اختيار الذين ينطقون بالحق مهما كان مُراً.( قال في كتابه الى الأشتر :” ثم إن للوالي حاشية وبطانة فيهم استئثار وتطاول ، وقلة إنصاف في معاملة فإحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال ، ولا تُقطعَن لأحد من حاشيتك قطيعة ، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك، وعيبهُ عليك

في الدنيا والآخرة”). وحينما واجه خصومه في حرب الجمل، كانت حجته بسيطة جدا، بساطة الصدق، فلم يكن محتاجاً الى جعجعة الخطب، ولا الى التلويح بالقوة – رغم شدته وبأسه – إنما قال: ” يا أهل البصرة ما تنقمون مني؟ وهذا من غزل أهلي! وأشار الى قميصه!” . وذات مرة ترصَد طعامه عمرو بن حريث فدخل عليه ، فإذا بين يديه لبن حامض ، ومعه رغيف خبز يابس على وجهه نشار من الشعير، وهو يكسره ويستعين أحيانا بركبته، فتألم عمرو مما رأى، وهتف بجارية الأمام يلومها: ” يا فضة.. أما تتقون الله في هذا الشيخ ! ألا نخلتُم دقيقه؟” قالت فضة: ” إنا نكره أن نؤجر ويأثم.. فقد أخذ علينا ألا ننخل له دقيقاً ما صحبناه..” .قيل له ذات مرة ، وقد هال أصحابه إسرافه الشديد في ماله بالصدقة والبذل: ” كم تتصَدق!.. كم تُخرج من مالك!.. ألا تُمسك!؟ “. فكان جوابه: ” والله لو أعلم ان الله قبل مني قرضاً واحداً لأمسكت ، ولكنني والله ما أدري أقُبل مني شيئاً أم لا ..”. ورآه عدي بن حاتم وبين يديه شنة فيها قراح ماء وكسرات من خبز شعير وملح ، فقال : يا أمير المؤمنين تظل نهارك طاوياً مجاهداً وبالليل ساهراً مكابداً ، ثم يكون هذا فطورك ، فقال علي بن أبي طالب وكان بعض القوم يرى في (قوت) علي بن أبي طالب ، ما يُضعف صحته ، فيقعد به الضعف عن قتال الأقران ، ومنازلة الشجعان 🙁 كأني بقائلهم يقول : إذا كان هذا قوت ابن ابي طالب فقد قعُد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان ، ألا وأن الشجرة البريَة أصلب عوداً ، والروائع الخضرة أرق جلوداً ، والنابتات العذية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً ( أي أن النباتات الصحراوية تكون أقوى اشتعالاً من النباتات المرويَة). هذا هو ديدن علي في حياته ومعاشه ، لم يذكر لنا التاريخ شخصا جمع في صفاته كل الأضداد ، وأختلفت القلوب والمشاعر حياله فهذا عاشق مُحب وذاك مبغض حاقد ، فأي سحر تمتلك سيدي؟ لا شك أنه سحر الإنسانية الذي جُبلت به طينتك الطاهرة وسحر المتناقضات التي جمعتها في نفسك الزكية منهجا وتطبيقا ، فالعجب كل العجب ممن يملك طباع الأسود في زمن الحرب وطباع الرهبان والقديسين عند الموعظة ، و من يحيط بالمعرفة دون أن تحيط به ، ويدركها دون أن تدركه ، ومن أخفى أعداؤه فضائله حسدا ً ، وأخفى أولياؤه فضائله خوفا ً وحذراً . ستبقى سيدي ذاك الحد الفاصل بين لونين ، ستبقة سيدى نسيما ً نستنشقه كل لحظة ، ستبقى سيدي جمرة النار المتوقدة في قلوبنا تزداد توهجا واشتعالاً كلما حل ذكرك الطيب ،ستبقى نفوسنا وضمائرنا أسيرة لتأثيرك الساحر ما حيينا لأنك تمتلك روحا باسلة جعلت منك شخصية الدهرالخالدة .