في مثل هذا اليوم من عام 95 للهجرة، ترجل عن عالم الدنيا أحد أعظم رجال الطف وأطهر رموز آل البيت، الإمام زين العابدين علي بن الحسين، المعروف بالسجاد، ليبقى اسمه خالداً في ذاكرة الأحرار والباحثين عن الحق في وجه الطغيان.
في مثل هذا اليوم، طويت صفحة من أنقى صفحات التاريخ ، الرجل الذي أبقته السماء شاهداً حيا على أوجاع كربلاء ليحمل راية الثورة لا بالسيف، بل بالكلمة والدعاء والموقف
حين اشتعلت نار ملحمة الطف ووقف رجال الحسين يستقبلون الموت بصدور عارية وقلوب ملؤها اليقين، كان علي بن الحسين مريضا طريح الفراش. تركوه في الخيام، قائلين: “هذا مريض وسيموت وحده”، لكن لم يعرفوا أن هذا المريض سيصبح في ما بعد أقوى صوت ناطق بآلام الطف، وأشد من فضح الطغيان في مجلس يزيد.
رغم مرضه الذي أقعده عن حمل السيف في واقعة كربلاء، لم يكن غيابه عن القتال استسلاما، بل كان موقفا مقدرا، شاءت له السماء أن يكمل ثورة الحسين بلون آخر: لون الصبر، والدعاء، والمواجهة بالكلمة والموقف.لم يقدر له أن يقاتل بالسيف، لكن قدر له أن يقاتل بالبيان والمواجهة بالكلمة والموقف.
بعد أن قتل الحسين وأصحابه، سيق الإمام السجاد أسيرا مكبلا، مع السبايا من النساء والأطفال، في رحلة امتدت من كربلاء إلى الكوفة ثم إلى الشام
في دروب السبي، وقف علي بن الحسين أمام طغيان يزيد، لا مرتجفا ولا مذعورا، بل متحدثا باسم الحق، قائلاً في مجلس يزيد كلمات لا تزال ترددها الأجيال: “أبالقتل تهددني يا ابن الطلقاء؟ أما علمت أن القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة؟”.في ذلك المجلس وقف الإمام ضعيف الجسد قوي الروح، فألقى خطبةً لا تزال ترتعد لها القلوب حتى اليوم.بداها زين العابدين قائلا له: لم تنتصر، لأن الدم لا يهزم.
ثم قال:
“أيها الناس، أُعطينا ستاً،العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين وفضلنا بسبع ، منا النبي المختارمحمدا ، ومنا الصدّيق، ومنا الطيّار، ومنا أسد الله واسد رسوله ومنا سبطا هذه الامه ( الحسن والحسين ) ومنا مهدي هذه الامه . من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي ”
ثم بدأ يعرف الناس بنفسه: أيها الناس
“أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خير من طاف وسعئ ، انا ابن خير من حج ولبئ ، انا ابن من حمل علئ البراق في الهواء، انا ابن من اسرئ به من المسجد الحرام الئ المسجد الاقصئ، انا ابن من بلغ به جبريل الئ سدرة المنتهئ…..، فلم يزل يقول : انا ،انا حتئ ضج الناس بالبكاء وارتفع النحيب، فخاف يزيد من ثورة القلوب، وأمر المؤذن أن يرفع الأذان ليقاطع الإمام لكن حين نطق باسم رسول الله ﷺ، التفت الإمام وقال ليزيد:
“هذا محمد جدي أم جدك؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت، وإن قلت إنه جدي، فلم قتلت عترته؟”
لقد انتصر السجاد دون سيف وانتقم للحسين دون دم ،خلد آلام كربلاء في قلب الأمة وكتبها في الصحيفة السجادية التي أصبحت زادا للروح، ونبراسا للتقوى ومدرسة في المناجاة التي تذيب الغل وتوقظ الضمائر.
اليوم، ونحن نحيي ذكرى وفاته، لا نرثي جسدا فارق الحياة، بل نستذكر مدرسة من الصبر، وموقفا من الثبات، وعلما من أعلام النور سار في الظلمة فلم ينطفئ.
سلام على زين العابدين، في يوم رحيله، وفي كل لحظة يذكر فيها الحق ويفضح فيها الباطل
رحم الله زين العابدين، السجاد، ذلك النور الطاهر الذي ظل شامخا رغم المرض والخذلان، وخلد اسمه في صفحات المجد والكرامة