18 ديسمبر، 2024 7:23 م

الإلحاد ، هل هو الكأس المقدّسة ؟ (5)إفادات الإقتراب من الموت ، بين الحقيقة والخرافة

الإلحاد ، هل هو الكأس المقدّسة ؟ (5)إفادات الإقتراب من الموت ، بين الحقيقة والخرافة

يُعتبر الطبيب والفيلسوف الأمريكي المعاصر (ريموند مودي Raymond Moody) من جامعة فرجينيا أول مَن (تجرّأ) وتحدّى الأعراف ووثّق هذه الإفادات على صعيد رسمي-أكاديمي من خلال كتابه (الحياة بعد الحياة Life After Life) في السبعينيات ، وهو من أشد الفلاسفة الحذرين والمشككين ، وقد سرد أحداث أكثر من 160 شخص عاينها بنفسه ، وقد بيعت ملايين النُسخ من كتابه هذا ، ثم صدرت بعده الآلاف من الكتب بل الأفلام السينمائية ذات مانشيت (الفلم مبني على قصة حقيقية Based on True Story) ، تلك التي تحاكي هذا الموضوع ، وتوجد قصص تاريخية كثيرة عن أشخاص عايشوا الموت وعادوا وهم يقصون رؤاهم ، وربما من حق المتتبع لهذه القصص أن يشك بمصداقيتها ويلحقها بالأساطير والخرافات ، فهذه القصص ليست قرآنا أو كتابا مقدّسا ، ولم تتوضح ظاهرة الاقتراب من الموت الا بعد تطور آلات الإنعاش (Resuscitation) ، كأجهزة الصدمات الكهربائية أو بعض العقاقير ، ويمكن القول انها تطورت بعد ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ، ولكن ثمة نزوع واضح لإخفاء قصص هذه الظواهر، فعادة ما يحجم المجرب لهذه الحالات عن البوح بتفاصيل رحلته ، خوفا من إتهامه بالجنون أو الترويج للخرافات أو الكذب والتسخيف ، وما ينتج ذلك عن (فضائح) تتناولها وسائل الإعلام المتطورة والواسعة الإنتشار ، والمهم أيضا ، أن (لغته) لا تسعفه في وصف ماحدث لشدة عمقها ، فلا يجد المفردات الملائمة ليقص رؤياه ، بل إن وسائل الإعلام ودور النشر طالما كانت تنأى بنفسها عن نشرها خوفا على سمعتها ، لكن تواتر هذه الإفادات ، وتشابهها قلبت المعادلة ، أنظر إلى بعض هذه القصص في برنامج (الدكتور أوز) ، أو (أوبرا وينفري) ، وغيرها الكثير .

هنالك الملايين من مرضى ماتوا سريريا ثم إستيقظوا ، ليُدلوا بشهادات معاينتهم لقضمة الموت من وقتهم الضائع في غياهب عالم الغيب ، كيف عايشوه وهم يصفون ما ما يستطيعون وصفه ، عما رأوه من نافذة فتِحت لهم بين عالمين ، وبغض النظر عن أقوال المتشككين ، بل المتشددين الذين يعتبرون هذه الظاهرة دعاية لدين أو رموز معينة ، إلا إنها موثّقة ومعروفة جيدا من قبل الأطباء المختصين بهذا الحقل الغريب ، وقد إنبثقت (الرابطة العالمية لدراسات الإقتراب من الموت The International Association of Near Death Studies , IANDS) لدراسة هذه الظاهرة والتي تُعرف بتجربة الإقتراب من الموت (Near Death Experience) أو (NDE) إختصارا ، والدافع لهذا التوثيق إحصائي بحت وليس بحثيا أو أكاديميا ، وهي بعيدة كل البُعد عن أية دعاية دينية .

الغيبيات والروح في علم الطب ، غير مُعتَرَف بها على الأطلاق رغم كثرة وقوة الشهادات في هذا المضمار ، لهذا يجد الأطباء أنفسهم في مأزق ، بين تواتر تلك الشهادات كشاخص إحصائي صلب ، وبين العلم المجرد من أية روحانيات هذا الذي درسوه وكأنه شرط دراسي ، والطب كعلم مجرّد ، يعتبر هذه (المعاينات) ليست سوى صورة ذهنية للهلوسة المرئية (Visual Hallucinations) ، شبيهة بتلك التي تعتري متعاطي المخدرات القوية كعقار (LSD) ، أو بعض العقاقير أو الأعشاب التي يتعاطاها بعض الشامان في ثقافة الهنود الحمر أو غيرهم ، تجعل الحاجز بين تلكما العالمين شفافا ! . وهي نشاطات في الدماغ كرَدّ فعل لنقص الأوكسجين ، فيقوم بإفراز هرمونات خاصة ، هي من يسبب هذه الهلوسات ، هذا هو تأويلهم لهذه الظاهرة .

ولكن ماذا عن شهادات لا تُعد ولا تُحصى عن مرضى مروا بهذه المرحلة ، وهم يصفون بدقة مثيرة للأستغراب ، كلام الطبيب وتصرفاته ، ووصف لأدواته الطبية وكل حواراته أثناء موتهم سريريا بعد توقف جهاز مسح موجات الدماغ (EEG) والقلب (ECG) ، وتوسع بؤبؤ العينين إلى أقصاهما وعدم إستجابتها للضوء عن تسليطه عليهما؟ ، بل الأكثر من ذلك ، فالكثير من هؤلاء المرضى ، يصف بالصوت والصورة حالة ذويه في غرفة الأنتظار البعيدة عن سرير إحتضاره ، وماذا عن آلآلاف من شهادات العائدين من رحلة الموت هذه ، وقد أفشوا بعد هذه الرحلة ، أسرارا سببت الدهشة لحامليها الأحياء الذين وعدوا أنفسهم بحملها إلى القبر ! ، ووصف دقيق لأجدادهم أو ذويهم المقربين من الموتى ، رغم البعد الزمني الشاسع لوفاتهم ؟!

ثم ما سبب التشابه المثير للعجب عند كل من سلكوا هذه الرحلة ؟ ، وهو خفة الوزن ، والطفو خارج الجسد ، أي أنه يرى جسده المسجى ، وهنالك النفق والضوء ، والشعور العالي بالحب غير المشروط (Unconditional Love) ، المناظر الباهرة والألوان التي تعجز عن رؤيتها بالعين الدنيوية ولا تستطيع لغته عن ترجمتها ، والشعور بالإلمام التام بكل المعرفة الكونية ، والراحة التامة وشحذ غير مألوف دنيويا لكل الحواس ، وكأن ستارا أو غطاءً قد رُفع عن بصيرتنا ، قال تعالى مخاطبا الإنسان المحتضر : (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ )… سورة (ق) الآية (22) ، إلى درجة أن يتشبث الاشخاص المارّون بهذه التجربة بعالمهم الجديد ، وحزنهم من العودة إلى الدنيا عندما يسمعون صوتا عند غالبية الإفادات ، من إن وقتهم لم يحن بعد ، والكثير منهم عانى من الوان العذاب والخوف والشعور بالبرد أو الحر الشديدين ، والتعرض للضرب والأهانات والكلمات النابية من قبل مخلوقات مخيفة توصف على أنها شبيهة بالبشر (عليها ملائكةٌ غلاظٌ شداد ، الآية 6 –سورة التحريم)، وبعد عودتهم أعترفوا أنهم ارتكبوا الكثير من الأخطاء (الخطايا Sins) في دنياهم ! .

أتذكّر قصة ذلك (البلطجي) والذي يعمل حارسا في ملهى ليلي ، أدى إشتباكه بالأيدي مع أحد الزبائن ، إلى إصابته بأزمة قلبية لبضع دقائق ، إستيقظ في سيارة الإسعاف مرعوبا وهو يصيح بهستيرية (لا أريد الموت) ، وبعد أن هدأ روعه قص ما رأه ، فقد عاش طفولة عنيفة ، وكان متنمرا على أقرانه ، وقد إعتدى على الكثير بالضرب بسبب سلوكه العنيف ، لكن بهذه الدقائق التي توقف بها قلبه ، قد عاش أعوامه الأربعين ، وهو يُضرب أو يُشتم أ ويشعر بذات الألم النفسي الذي سبّبه لضحاياه ! (ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، الزلزلة الآية 7) .

مقاطع (اليوتيوب) تطفح بهذه الأفادات ، ورغم تشككي البالغ في كل ما يُبث على هذا الموقع ، فقد نأيتُ بنفسي عن المقاطع الشخصية لمن يدّعي مروره بهذه التجربة ، وأتجهت الى المقاطع الوثائقية التي تبثها واجهات إعلامية رصينة في كل من أوربا وأمريكا ، وهي تعد الدراسات المنطقية لظاهرة لامنطقية (على الأقل من الناحية الوجودية) ، في محاولة لأيجاد تأويل لهذه الظاهرة التي تبدو وكأن وعي الأنسان (Human Consciousness) يتقلب بين وعي دنيوي ، ووعي آخر غير معروف ، والكثير من علماء النفس والأجتماع يعتقدون ، أن وعي الأنسان يقع خارج جسده (الحلقة السابقة) ، فعلى الأقل ومن ناحية الذاكرة ، فأن دماغ الأنسان كموجود مادي لا يتسع لهذا الكم الهائل من الذكريات ، فضلا عن فلسفته وتوجهاته وطريقة تفكيره وأمور أخرى كثيرة ، ولا بُد من وجود (منفذ) آخر يستخدمه الأنسان لأيداع وأستدعاء ذكرياته ، وكأننا جزء صغير من (كومبيوتر عملاق) ! .

أما في عالم الأحلام ، فإنك ترى مشاهدا واشخاصا وألوانا وتشم روائحا وتتكلم وتسمع وتحس ، وأنت ساكن ومسجىً في فراشك ، وجميع أعضاء حواسك كالعينين واللسان والأذنين معطلة ، لكن الطب وعلم النفس ، لا يعلم لحد الآن كيف يحلم الإنسان ، ولا يعرفون كيف يقوم هذا العقل بنسج المشاهد والحوارات فيه ، يعرفون لماذا لأنهم يعزوه إلى مخزون دماغي يقوم بترتيبه على شكل صور وحوارات ومناظر كصور إنعكاسية (Reflex Images) وهي كصمام الأمان ، تغلب عليها نزعات الرغبات المكبوتة (Repressed desires) ، لكن ماذا عن إقتراح الحلول التي لاتخطر على بال في الأحلام لهذه الرغبات أو الحاجات ، والتي تمتلئ الكتب بحوادث من هذا النوع ، على صعيد العلوم أوالإختراعات أو الفن ؟ ، ماذا عن إشارات تحذير لحدث مستقبلي (ولكل منا قصته في هذا المجال) !؟ ، قال تعالى (هو الذي يتوفاكم في الليل) ، فالنوم نوع من الوفاة إذن ، تجول به بروحك أو جسدك الأثيري ، سمّه ما شئت ! ، وكل منا عاش لحظات في موقف معين يمر به لأول مرة ، لكن (ذاكرته) تملي عليه بإلحاح ، أنه مرّ به في السابق !، ظاهرة ذات شعبية عريضة مررنا بها جميعا ، يُطلق عليها (ديجافو Deja Vu) ، وتعني بالفرنسية (رأيتُ ذلك مسبقا) ! ، ولا تزال غير قابلة للتفسير .