23 ديسمبر، 2024 5:41 ص

الإلحاد ، هل هو الكأس المقدّسة ؟! ، مقدّمة (1)

الإلحاد ، هل هو الكأس المقدّسة ؟! ، مقدّمة (1)

الإلحاد ، ذلك الإعتقاد القديم الجديد ، ومثار جدل لا ينتهي ، إنه رأي طالما دفع بالكثير من المتهمين به ، قبل معتنقيه جهرا ، إلى خوازيق النار حرقا وهم أحياء ، بتهمة جاهزة هي (الهرطقة Heresy) عند المسيحيين ، والزندقة عند المسلمين ، ولا يُشترط أن يكون الإلحاد وحده المُسبب للموت ، بل أية نظرية ، فلسفية كانت أم علمية أم فقهية أم سياسية ، أو أية فكرة ثورية تبررها جوقة المُتخلفين الذين نصّبَوا أنفسهم كحماة حِمى الأديان ، وناطقين بإسم رب الرحمة واللطف والرأفة والعدالة ، فجعلوا منه جلّادا ساديّا منفّرا ، وعلامة تجارية لشرعنة تسلطهم ! ، فيبررونها على إنها كُفرا وإلحادا لأنها بعيدة جدا عن إستيعاب عقلولهم الخاوية من كل شيء إلا مؤامرات الإستئثار بالسلطة ، ولأنهم أعداء الحرية ، فإنهم يخافون من أية مفردة فيها رائحة ثورة ، لأنها مُهددة للعروش قبل كل شيء ! ، وحُرِمَت البشرية بسبب تلك الإجراآت القمعية البشعة ، من خيرة العقول لا لشيء ، إلا بسبب جرأة أصحاب تلك العقول على الكثير من الآراء الجامدة والمنحرفة ، تلك التي كرّستها حفنة من المتخلفين الماسكين بزمام سلطة مطلقة بإسم الدين ! ، أحد هذه الرموز العظيمة هو الأستاذ والأديب والفيلسوف وعالم الفلك الإيطالي (جوردانو برونو) الذي ولد عام 1548، والذي أعدم حرقا من قبل الكنيسة لأنه أيّد فكرة سَلفهُ العظيم البولندي (كوبرنيكوس) ، وهو القول بأن الأرض ليست مركز الكون بل تدور حول الشمس ، وكانت التهمة حمقاء متخلفة من أن الأرض مَهْد السيد المسيح لا يمكن أن تكون تابعا ! ، وكاد أن يلحق به الفيزيائي الإيطالي العظيم (غاليليو غاليللي- ولد عام 1564) والذي يعتبر أحد آباء الفيزياء ، والذي هددته (محاكم التفتيش الكنسية Courts of Investigations) هي الأخرى لأنه تجرأ بالإدلاء برأيه عن دوران الأرض بالأدلة والإثباتات ، فأضطر لإنكار رأيه بعدما رأى أن جسده الهَرِم المتعب لا يحتمل العذاب الرهيب بواسطة آلات تعذيب حتى الموت ينفر منها حتى إبليس ، وضعت في بيوت الرحمة من قبل تلك المحاكم بحجة التطهير من الآثام ! ، ولكنه قال مقولته المشهورة بعد صدور قرار العفو عنه وهو عند بوابة قاعة المحكمة (ولكنها – أي الأرض – رغم ذلك تدور) ! ، وقبلهم بكثير في العصر الإسلامي كان القضاء على ثورة الحسين إلى درجة الإبادة ، بحيث لم يسلم منها حتى الاطفال ، ليظهر بعد ذلك أحد “فلاسفة” السلطة ليقول (إن الحسين قُتِلَ بسيف جَدّه) ! ، لكن ماذا عن العوام السمّاعين لهذه الفتوى ؟ ألا يقولون إنها حرب الجد والحفيد ، فما شأني والإسلام ؟! ، كذلك القمع اللامتناهي لثورة (زيد بن علي) ، الذي صُلب وبقى على الصليب حتى تساقطت عظامه ، ولاقت ثورة (محمد ذو النفس الزكية ) أحد أحفاد الإمام الحسن نفس المصير ، وقُطّعَتْ أوصال إبن المقفّع غدرا وبمنتهى السادية ، وصُلِبَ الحلّاج ، وقضى الإمام ابو حنيفة النعمان في سجنه تسميما من قبل (أمير المؤمنين) المنصور ، لأنه رفض توليته القضاء في دولة ينخر فيها الظلم والإستبداد ، وبعده الإمام (موسى إبن جعفر) وبنفس الطريقة على يد أمير مؤمنين آخر ، هو الرشيد ! ، وقتل شهاب الدين السهروردي على يد صلاح الدين ، عدا الجرائم المريعة التي أرتكبت بحق الكثير من المتصوفة وأصحاب الفلسفة العالية التي لا يزال الغرب يتغنى بها ، منهم (أبن رشد) الفيلسوف صاحب التأثير الكبير على تنوير حضارة أوربا في عصر النهضة إلى درجة أنهم أسموه (أفيروس Averroes) ، ولدرجة أنه ظهر في إحدى لوحات الرسام العظيم (ليناردو دافنشي) المسماة (مدرسة أثينا) ، وقد وصفه الفيلسوف وشاعر إيطاليا الكبير (دانتي ) بأنه (الشارح العظيم) ، لكن كتبه أحرقت في بلاد المسلمين ، فمات كمدا ! ، و (دانتي) الشاعر ، إستوحى ملحمته الشعرية المشهورة (الكوميديا الإلهية The Devine Comedy) من ملحمة أبو العلاء المعري (رسالة الغفران) ، وهذا الأخير كان يُلقّب (برهين المحبسين) ، لأنه كان ضريرا ، حبيس البصر ، وحبيس منزله معتزلا الناس ، لأنه يعلم أن في ذلك نجاته ، ورغم ذلك ، أتهم بأنه أحد الملاحدة ! ، عدا المذابح التي أرتكبت بحق أهل بيت رسول الإسلام لكونهم منافسين (محتملين) للسلطة وبسبب آرائهم الثورية التي يخافونها كثيرا ! ، كذلك إدّعاء الفقيه وعالم البصريات المشهور (الحسن إبن الهيثم) للجنون للإفلات من بطش السلطة ، لأن أمير (مصر) أراد منه إيقاف فيضان نهر النيل ، وإلا فالثمن رأسه ! ، وغيرهم كثير ، فالمئات منهم قضوا بسبب مجرد جملة نطقوا بها ، أو حتى بسبب سفسطة لا طائل منها فتناقلها الوشاة ، وبسبب ذلك ، ظهرت الكثير من جماعات الرأي المعارض السّرية ، أشهرها جماعة (إخوان الصفاء وخلّان الوفاء) ، وجاء (العثمانيون) ، فزادوا الطين بللا بعد بلل ، فقد تفتقت ذهنيتهم السادية عن إختراع (الخازوق) التي يُعاقب به الضحية بعد تقييدها في ميدان عام ، وهو عمود معدني مدبب يوضع في دُبُر الضحية ، ويُدق من قبل الجلاد ، ويحرص هذا الجلاد على إبقاءه حيا من خلال تفادي أعضاءه الحيوية لحين خروج الخازوق من كتفه ! ، عدا مذابح التطهير العرقي والديني التي مارسوها ، هذا ما كان يحصل في بلاد المسلمين ، بحيث أجبروا الناس على النفور والإرتداد عن الإسلام ! ، يذكرنا التاريخ ، أن هذه الأعمال الإجرامية لا علاقة لها بتكريس الإيمان والأديان ، وليس حرصا منهم لمحاربة الكفر ، لأن هذه الأراء كانوا يعدّونها تحدّيا للسلطة أولا ، قبل أن يعدونها كفرا ، من هُنا بدأ مبدأ (سجناء الرأي) الذي إستفحل في جميع الأنظمة العربية حتى لو كانت علمانية ، فضاقت بهم سجونها ، وعانى ما عانى مَن بقي منهم حيا وهو يحسد القاتل والمغتصب واللص من نزلاء سجنه ! ، لكن هذه الآراء أصبحت فيما بعد من المسَلّمات العلمية ، والتي لا تتعارض إطلاقا مع الإيمان ، بل على العكس ، فقد غاب عن منفذي هذه الجرائم ، بأن هنالك شيء واحد غير قادرين على فعله ، لا هم ولا غيرهم ، غاب عنهم أن القناعة الخاصة أو الرأي بهكذا مجال (أي الإيمان) لا يستطيعون إدخاله برؤوس هؤلاء الضحايا عنوة ، فهو قبل كل شيء فطرة ، هؤلاء الضحايا وهم يرون بأعينهم تناقضا صارخا بين دعوة تلك الأديان لإفشاء المحبة والرحمة والعدل ومواجهة الإساءة بالإحسان والعفو والغفران والتحلي بالحكمة ، وبين السادية المفرطة التي يُعامَلون بها من خلال الغدر أو من خلال محاكم صورية سخيفة ، لقد غاب عن العقول الخاوية لأولئك الجلّادين ، أن أي تشدد ، سيظهر أزاءه تشدد معاكس ، فقد سبب هؤلاء الأغبياء ردود أفعال معاكسة شديدة لم تكن لتقع لو توقفت عمليات القمع الرهيب هذا ، ألا ترون أن مسيرة حقوق الإنسان وفترة تبلورها قصيرة جدا بالنسبة لفترة وجود الإنسان على هذه الأرض ! ، لهذا يعتبر في عصرنا الحديث ، أن الإيمان بالله ضرب من ضروب التخلّف ، وقد تعرض بدوره ، أي الإيمان ، لحملات من التشهير والقمع ، فأنت مؤمن ، إذن أنت متخلّف !.

البعض يتصور أن الإلحاد هو الكأس المقدسة التي تمهد الطريق للتطور والحرية المطلقة ، إنه رد فعل أقول عنه غير رصين لأن دافع ذلك ثأري محتقن ، ناتج عن التشدد الديني ، وظهور كهنة الدين في كل زمان ومكان ، والزعم أن الإيمان أكبر قيد يقع في حبائله الإنسان فيقوده للعبودية ، تلك المفردة القبيحة حتى لو كانت العبودية لله ، ولعمري أن هذا النوع من العبودية ، هي الحرية بعينها ..حقا أن الإنسان ما هو إلا حيوان مفكر ومتحكم في غرائزه ، بل أن الله لم يحرّم علينا ذلك السعي الطويل لإكتشاف الحقيقة ، بل باركه وأثنى عليه وأثاب الساعين إليه سُننا وكتبا .

كأناس نؤمن بالعلم (وهو لا يناقض الإيمان كما سنرى ) ، نجد الآلاف من الظواهر التي عجز العلم عن تفسيرها ، وعلينا أن نسلم ، أن ثمة غيبيات تحيط بنا بكثرة لا يستطيع العلم تفسيرها ، من هنا فالعلم ليس إلها بديلا ، وكشخص لا يؤمن بالحلول الوسط ، أجد من الصعب عليّ أن أقيّد هذه الظواهر ضد مجهول ، فأنا أراه ضرب من ضروب العجز والإنهزامية ، وقد تفاديت الخلط بين الخرافات (Superstitions) والأدلة العلمية الملموسة ، وأعترف أن هنالك الكثير من الفخاخ التي عليّ تجنبها ، نظرا لتاريخنا الزاخر بهذه الخرافات .

فيرنر هايزنبيرغ ، ذلك الفيلسوف الألماني والفيزيائي اللامع (ولد عام 1901) ، ذلك الذي ربط بين العلم والفلسفة العميقة ، وأحد أساطين فيزياء الكم (Quantum Physics) ، والذي يظهر اسمه بصورة متواترة لكل دارس أكاديمي في علم الفيزياء ، فلا يوجد مهندس كهرباء لم يسمع به ، صاحب مبدأ اللايقين (Uncertainty Principle)، كان قد إختصر هذا الموضوع بمقوله بالغة (كل من إرتشف من كأس العلم ، قادته تلك الرّشفة إلى الإلحاد ، ولكن عندما يقترب من الإنتهاء من هذا الكأس ، يجد الله في قعر هذا الكأس) ! ، يقصد أن معرفتك بالله ستزداد ، بقدر خوضك غمار العلم ، حقا (إنما يخافُ اللهَ من عباده العلماءُ) .