للطيور خاصية حباها الله بها، تلك هي الطيران والارتفاع عاليا بعيدا عن الأرض ومن عليها، لاسيما الشريرون منهم. وهناك من الأمثال الشعبية الكثير الكثير المرتبط بخاصية الطيور هذه، حيث سخرها قائلها لتطبيع صورة في أذهان المستمعين، او لتوضيح فكرة او لتقريب وصف يبتغيه، فهناك من قال: “عصفور كفل زرزور واثنينهم طياره”. وأظن هذا المثل أٌقرب مايكون لتجسيد حال المفسدين من مسؤولي البلد الذين صاروا “أكثر منا جميعا” حيث نرى بعضهم ظهير بعض. وهناك مبدأ يعدّه هواة الطيور قاعدة أساسية لايحيدون عنها أثناء ممارستهم هوايتهم، ذلك المبدأ يحتم عليهم عدم إطلاق طيورهم في الأجواء الضبابية، ومن (يطيِّر طيره) في الضباب يسمونه (مطيرچي كمش). إذ سيقع في مطب يفقده طيره حتما، ذلك أن الطير سيعلو في الجو حتى يصل مكانا يصعب عليه رؤية صاحبه، وكذلك صاحبنا سيستحيل عليه رؤية طيره في الضباب، فتنقطع الصلة بين الإثنين ويفقد كل منهما الآخر.
ويبدو أن مبدأ كهذا يصح أيضا في كثير من جوانب حياتنا، منها على سبيل المثال (والحصر أيضا) السماح لمنتسبي الدولة -لاسيما متبوئو المناصب الحساسة- بالسفر والإفلات خارج حدود العراق في حال ارتكابهم ذنبا او جرما، حتى وإن كان سرقة تكفي قيمتها مايغطي عين الشمس في وضح النهار. والمسؤول كما هو معروف مسؤول عن كل مايخرج من عباءته من تصرف او فعل او كلام، ومحاسب على كل إشارة او تلميح يبدر منه، من قريب او من بعيد، فكيف يكون الحال إذا كان المال العام هو الضحية التي وضعها المسؤول تحت إبطه في جنح ليل او في وضح النهار؟ فضلا عن تورط آخرين بفساد إداري، او ارتباطهم بأعمال عنف او إرهاب، او تسببهم بخروق أمنية، اواختلاس مال، اواستغلال منصب، او اتصال مشبوه بجهات تعادي البلاد، او تواطؤ، او تزاور، او تعاون معها على الإثم والعدوان، او احتمالات عديدة أخرى كلها متوافرة والحمد لله في مسرح السياسة العراقي، بعروض مستمرة من دون انقطاع.
وقطعا المبدأ هذا يأخذ شكلا أكثر حزما وصرامة، إذا كان تصرف هذا المسؤول يعود بالضرر على البلد برمته، والأمثلة على هذا في بلدنا كثيرة، والشخوص المرتكبون مثل هذه الأخطاء أكثر، وهم أشبه بطير الـ (مطيرچي الكمش) حيث سمح لهم بالطيران في غياهب ليل بهيم مدلهم حالك، وفوق هذا وذاك السماء فيه ملبدة بالضباب.
كلنا يذكر المؤتمرات التي كانت تُنضم بين فينة وأخرى فيما سبق من سنين، في دولة من الدول ولاسيما الجارة منها، وكيف أن نفرا من الشخصيات العراقية، التي لم تجد شبرا في العراق يؤويها فتجتمع فيه، لم تجد لها بدا من عقد مؤتمراتها خارجه. وأغلب المجتمعين نرى أن جيوبهم قد ملئت، بمال مسروق من خزائن العراق وثرواته التي سرقها بطريقة أو بأخرى، او ممن لاذ بعد أحداث عام 2003 بالفرار كونه من أزلام -او نسوان- النظام السابق. ولقد كانت هذه المؤتمرات في ظروف العراق العصيبة، مخصصة للبحث والمناقشة والتخطيط والعمل، على كل ما من شأنه قلب نظام الحكم في العراق آنذاك، والقضاء على العملية السياسية، وكذلك تغيير الدستور.
فلو علمنا أن منظمة الإنتربول الدولية، لها دور فاعل في جلب الفاسد والسارق والمجرم والمتهم والمدان، من أية بقعة على سطح الكرة الأرضية، أليس من الغريب والعجيب السكوت عن جلب المطلوبين للقانون العراقي سابقا، وتركهم يتلذذون بالسحت الذي سرقوه من لقمة المواطن وخيرات بلده؟ والأكثر غرابة وعجبا فسح المجال أمام الفاسدين الذين (احترگ فلمهم) للطيران والإفلات بعيدا عن العقاب والحساب؟ ولِمَ هم مطلقو الجناح حتى اللحظة؟ فهل أن مبدأ الـ (مطيرچية) الضبابي آنف الذكر، مازال ساري المفعول وسطوته فوق سطوة القانون؟.
[email protected]