23 ديسمبر، 2024 8:32 ص

الإغتراب. من هيغل إلى سيمان

الإغتراب. من هيغل إلى سيمان

المقدمة
واحد من ميزات الدماغ البشري هو قدرته على التصنيف ثم التمييز بين الأشياء التي يراها ويحسها, قدراتنا على معرفة الفرق بين الكائنات الحية وغير الحية, قدرتنا على الإشارة للأختلافات الموجودة بين البشر, قدرتنا على تمييز القريب عن الغريب, كل ذلك أعطتنا معياراً دقيقاً ومحدداً لمعرفة من هو منا ومن هو ضدنا, من يتبع نظامنا ومن يخالفه, لكن هذه القدرة الفريدة من نوعها باتت تهدد طبيعتنا ووجودنا في نفس الوقت.

كلنا ولدنا كبشر, فعندما كنا صغاراً, لم يكن أحد غريب علينا, ولم يتواجد شيء مستثني من مجموعتنا. كنا نحس بأننا جزءاً من الكون, كما هو الكون جزءاً منا, لا أي إنسان ولا حيوان ولا حتى حجر أغترب عنا وعلينا, كنا موحدين مع البعض. لكن سرعان ما تطور وعينا وذاكرتنا ليفصل ولأول مرة في حياتنا بين الأحياء والجماد, بين الإنسان والحيوان, بين الحيوان والدمية, وبين الدمية والخشب. ثم تطور شبكتنا العصبية ليفصل بين الناس أيضاً, بين الذكور والأناث, بين الكبار والصغار, بين القريب والغريب. ثم تطور أكثر وأكثر حتى تولد في عقولنا مجموعتان: الأولى مجموعتنا والثانية باقي المجموعات الأخرى الغريبة المختلفة عنا. الآخرين الغرباء ما زالوا بشراً بالطبع, لكن بوجوه مختلفة من وجوهنا, وبجلود متنوعة عن جلودنا, وأصوات مبهمة عن أصواتنا, وأفكار وأتجاهات وأهداف متباينة عن مبادئنا وأصولنا. حينها نكون قد وصلنا إلى مرحلة فصلهم عنا, بل وربما فصلهم عن البشر أيضاً, نراهم مثل الوحوش لا يختلفون عن الحيوانات بشيء. لإنهم لا يشبهوننا ولا نشبههم, فقد أصبح سرقتهم غنيمة, وقتلهم فضيلة, وظلمهم عدالة. كوننا لا نقتل ولا نسرق من أنفسنا, فإذاً لا بد من أن هؤلاء يعتبرون منفصيلن عنا وعن مجموعتنا. الإختلاف هو منبع التغريب, وقلة المعرفة هي مصدر التطريد. وقد يصل المرء حتى إلى تغريب أهله وأصدقائه وأقربائه, إلى أن يبقي في الأخير نفسه فقط داخل المجموعة, أي يصل الى مرحلة من شدة الأنانية في الاغتراب حيث يرى الجميع كآلات ليسوا بشراً مثله, ويحاول بقدر الإمكان أن يستغل الآخرين من أجل نفسه, يظن بأن العالم في دائرة معينة, وهو نفسه في دائرة اخرى. وما بعدها يأتي الإغتراب عن النفس, وهي آخر درجات الإغتراب, الإغتراب أما عن عقلنا المألوف أو طبيعتنا الموروثة. الشعور بالإغتراب هي نفسها الشعور بالغرابة, والشخص المغترب أجتماعياً هو أيضاً ما يسمى اليوم بشخص غريب الأطوار.

تعريف الإغتراب
يعرف الإغتراب على أنه حالة خروج من إحدى الطورين أو اثنانهما معاً (Cohen, 1974) :

أولاً – طور موروث : وهذا يعني خروج الإنسان من طبيعته الموروثة الجينية (رضا, 2018). مثلاً انعزال الفرد عن المجتمع يعد اغتراباً عن طبيعة الإنسان الأجتماعية. قد يكون الاغتراب عن الموروث محسوساً أو غير محسوساً, أي يمكن للإنسان أن يستشعر بأنه خارج عن طبيعته أو قد لا يستشعر على الإطلاق. ويحسن التذكير إن القصد بالطبيعة الموروثة هو الطبيعة الجسدية والعقلية معاً؛ عدم أكل الإنسان هو الخروج من الطبيعة الجسدية (إن افترضنا انعدام الشعور بالجوع), وانعزال الانسان عن المجتمع يعتبر خروجاً من الطبيعة العقلية (Foster, 1989).

ثانياً – طور مألوف : هي الخروج عن كل ما تعود وتألف عليه الإنسان (Allan, 1999). نقول مثلاً أن الشخص اغترب عن عادة مجتمعه إذا اعتزل عن تصرف بمثله. وهذا يعود بشكل كلي إلى الدماغ والوعي, فالوعي هو الذي ينتج الاغتراب هنا, بدون الوعي لا يمكن لشيء أن يحول ما بين كون الإنسان جزءاً من الطبيعة والطبيعة جزءاً منه. خروج الإنسان من المعلومات المألوفة التي حفظها الذاكرة وتألف عليها الوعي هو الذي يجعل الإنسان مغترباً. اغتراب عن المألوف هو اغتراب محسوس, أي يمكن للفرد ان يشعر بأن هناك شيئاً ما يجري بشكل غير صحيح. ومن الممكن حتى أن يشعر الإنسان بالغربة بسبب مشاعره غير المحسوسة من قبل أو غير المتعودة عليها. لو تخيلنا شخص لم يشعر بالحزن في حياته على اقل لمدة طويلة وبدأ بتحسسها بسبب وضع ما, فبالإضافة إلى الشعور بالحزن, يشعر الشخص بالإغتراب أيضاً بسبب عدم تعوده على الشعور بالحزن. ويندرج تحت هذا الإغتراب المألوف أيضاً خيبة التوقع – عندما يخرج الواقع من متوقع الإنسان ومما كان يأمله ويتصوره, عندها يغترب ذلك الشيء عليه.

في كلا الطورين, يبرز الإغتراب من تغيرات أما في بيئة الإنسان, سواءاُ كانت تلك البيئة أجتماعية أم فيزيائية جامدة, أو من تغيرات في الإنسان نفسه, سواءاً كانت تغيرات في الجسد أو في العقل (Leopold 2018).

تاريخ الإغتراب

لسنا مهتمين هنا بمعاني الأخرى لكلمة الإغتراب أو بتفسيراته العادية التي تمتلأ الروايات والقصص فيها. نحاول أن نتعرف على شخصيات تاريخية أخذوا الإغتراب على محمل الجدية ووضعوا نظريات له ليفسروا أسبابه ويجدوا علاجاً له.

فريدريك هيغل
يعود تاريخ الاغتراب الى فيلسوف ألماني فريدريك هيغل, حيث فسر الاغتراب في كتابه (علم ظواهر الروح) كحالة حتمية أو بالأحرى حالة أولية لوعي الإنسان. يرى هيغل على أن الوعي في بدايته لا يدرك بوجوده إلا بعد الإعتراف بوجود الآخرين (Hegel, 1979). فيرصد وعي الإنسان نفسه في الآخرين, فلذلك يغترب الوعي هنا. لكن بعد الإعتراف بالآخرين وبوعيهم, يبدأ وعينا برؤية نفسه مختلفاً عن الآخرين – أي يبدأ الوعي بعملية إقصاء وعي الآخرين وصفاتهم من نفسه حتى يجد نفسه. القارئين لفلسفة هيغل سوف يدركون إن هيغل لديه نظرية أساسية يسمى بالدايليكتك (Hardimon. 1994): عملية دايليكتك يتكون من ثلاث أجزاء رئيسية, الطريحة, النقيضة, الشمولية. يمكنك التفكير فيهم كمجموعة (طريحة) ومضاد المجموعة (النقيضة) والمزيج بين مجموعتين (الشمولية), وهذه مجموعة يمكن أن يكون أي شيء سواء كان مادي أم معنوي.

يضع هيغل وعي الإنسان كطريحة, ووعي الآخرين هو النقيضة, ومن خلال الصراع بين وعينا ووعي الآخرين نصل إلى حالة الشمولية وهو حل وسطي أو مزيج بين حالتين السابقتين حيث يكون فيه هوية الإنسان ووعيه واضحاً لنفسه. لكن قبل الوصول إلى الشمولية, ولإن وعينا يريد الإعتراف بنفسه من خلال وعي الآخرين, ولإن الآخرين يريدون الإعتراق بوعي أنفسهم من خلال وعينا, فإذاً هناك صراع شرس بيننا وبين الآخرين من أجل الوصول إلى هويتنا وذاتنا (Hegel. 1820). فلنسمي وعي الآخرين عبداً, ونسمي وعينا سيداً كما وصفهم هيغل في كتابه. يتخلى العبد عن وعيه لإدراك وعي سيده, ولكنه فور اقراره بذلك سوف يستقل عن سيده (لإنه لا يحتاج إلى وعي سيده لكي يدرك وعيه) (Wood, 1998), والسيد يصبح معتمداً على وعي عبده. ظن هيغل إن الوعيان إثنانهما مشردان من نفسهما الطبيعيين لإن إثنانهما غير مستقلان عن بعضهما, فالآخر يعيش على وعي سيده والثاني معتمد على وعي عبده. بمرور الزمن والتاريخ, يتعلم الوعيان من أخطائهم السابقة في تعريف هويتهما, ويصلان إلى طبيعتهما عندما يعرفون أنفسهم بال”معرفة المطلقة” كما سماه هيغل, ويجدان الحرية المطلقة من بعضهما. إذاً, لهيغل, صراع الفرد هو صراع لتعريف النفس أو لمعرفة الوعي لنفسه, ولطالما لا يملك الوعي هذه المعرفة والحرية المطلقة, فهو إذاً يبقى في إغتراب دائم من نفسه (Daniel, 1995). الوعي الذي لا يعرف نفسه هو وعي مهيأ بشكل آخر, بصورة أخرى, موموس بروح الآخرين وليس ذاته. يتشكل الوعي بعدة اشكال مختلفة في مراحل تطوره نحو الحرية المطلقة والمعرفة المطلقة, يمكننا اطلاق على هذا الوعي المتعدد بالاغتراب او الشعور بالغربة. ويمكننا القول إن هيغل هو أول من أعترف بإغتراب المألوف لإيجاد الطبيعة الموروثة في قوله ” إنه طبيعة الروح, والفكرة, لإغتراب نفسه حتى يجد نفسه” (Hegel, 1979), ومعنى هذا هو إن الإنسان يجب عليه الإغتراب مما تألف وتعود عليه نفسه حتى يصل إلى طبيعته الموروثة الأصيلة.

لكن إن هيغل لا يعرف مصطلح الإغتراب أبداً في كتاباته, مما يفتح المجال إلى عدة تفسيرات لما يقصده بكلمة الإغتراب. على كل حال, فإن منطق هيغل في الاغتراب هو شيء غريب ومعقد بنفسه. ولكن يكفي اننا ذكرنا انه اول من أكتشف فكرة إغتراب الروح.

كارل ماركس
لم يطور أحد من قبل ومن بعد نظرية الاغتراب كما طوره الفيلسوف الألماني كارل ماركس. كان كارل متأثراً بأفكار هيغل عن الإغتراب ولكنه رفض نظريته الروحية الميتافيزيقية المتسامية. فقد كان كارل مادياً, يؤمن إن صراع البشر هو صراع توزيع موارد والأراضي والمنتوجات الصناعية فقط, من دون اللجوء إلى تفسيرات روحية أو دينية أو مبدئية. بالرغم من أهتمام ماركس بإغتراب العمال في عملهم إلا أن أفكاره يمكن أن يتوسع ويضمن كل مجالات حياة الإنسان.

ظن ماركس أن الإنسان بطبيعته يحب أن يعبر عن هويته بإنتاج أشياء محسوسة محددة بعمله (Karl, 1844). مثلاً, يمكن للحداد أن يؤشر على السيف الذي صنعه كأمتداد لهويته وشخصيته. فهنا أصبح هوية الحداد شيئاً محدداً محسوساً يمكن للجميع أن يراه بما في ضمنه هو, فيشعر بالفخر واللذة والأنتماء إلى طبيعة الذات. لكن الإنسان العامل في المصانع والشركات يغترب من هذه الطبيعة من عدة نواحي :

1- إغتراب الإنسان عن أستقلالية العقل وحرية التصرف : لصنع السيف, يقرر الحداد أن يضع الحديد في النار, ومن ثم إخراجه لتصميمه كما يريد, وفي الأخير ينجح الحداد في صنع سيفه وبيعه إلى من يريده. لكن لو وضعنا ذلك الحداد في المعمل, لرأينا تجرده من هذه القرارات والتصاميم والممتلكات, وبالتالي يغترب عن حريته وعن أستقلالية عقله. ففي المصنع, المدير والمسؤول هو الذي يقرر متى يتم صنع السيف وكيف يتم صنعه, وهو الذي يأمر الحداد بما يجب أن يقوم به ويتصرف عليه, وهو يملك السيف في الأخير وله حرية المطلقة لمن يبيعه. يمكننا أن نوسع هذا الإغتراب إلى علاقات سلبية أخرى, منها علاقة بين الآباء والأبناء, العلاقة بين المالك والمملوك, العلاقة بين الموظف والمدير, العلاقة بين إرادة الفرد وإرادة المجتمع, العلاقة بين الحاكم والشعب. كلها يمكن أن تعد بنظر ماركس إغتراباً عن الحرية والأستقلالية, والتعبير عن الهوية والتمييز, والشعور بالإنتماء إلى المجتمع الذي هو فيه ومنه (كارل, 2013).

2- إغتراب الإنسان عن جوهر الطبيعة البشرية: يقصد ماركس هنا الطبيعة العقلية البشرية الموروثة وليست الطبيعة العقلية المألوفة. العقل والدماغ البشري لديه بعض من الطبيعة الموروثة الجوهرية, كالشعور بالألم عند الجرح, والشعور باللذة الغذائية والجنسية, والرغبة في التميز عن الآخرين, ووضع أهداف ومبادئ محددة للعمل والتصرف من أجلها. وواحد من طبيعة العقل الأساسية عند ماركس هو تعبير الإنسان لشخصيته وهويته الخاصة من خلال تصنيع وإنتاج منتوجات محسوسة (رضا, 2018). بمعنى أخرى, تحويل الفكرة الموجودة في العقل إلى واقع ملموس. وهذه الطبيعة الممنوحة, في رأي ماركس, أنتزعت من العمال الذين يعملون في المصانع والشركات في النظام الرأس المالي لإنهم أنجبروا على التصرف بأفعال غير معلومة الهدف (فكر في المرأة التي تقوم بوضع الغطاء على زجاجة الحليب) أو ذات فائدة للفرد (غير ملبية للراحة النفسية والفخر والإنتماء التي يشعر بها الإنسان عند إكمال عمل معين).

3- إغتراب الإنسان عن أناس آخرين: بدلاً من أن يكون العمل جهداً أجتماعياً من أجل البقاء على قيد الحياة ومن أجل تحسين المجتمع وإفادته, يتحول في نظام رأس مالي إلى وسيلة لغاية مالية ربحية لا غير (Sayers, 2011). بالأضافة إلى ذلك, يخلق صراع التحدي بين العمال لكي يوظف العامل أقل طلباً وأكثر جهداً, ثم بعدها يشتغل العامل في شركة معينة ضد العامل آخر في شركة منافسة أخرى لمحاولة جني أكبر عدد من رأس المال.

يجدر الإشارة إلى أننا شرحنا فقط أنواع الأغترابات الماركسية التي يمكنها أن تتوسع على مجالات الحياة الأخرى غير العمل, حيث يوجد أنواع أخرى من الإغترابات التي وضحها كارل في كتاباته.

ميلفن سيمان
ميلفن كان عالم أجتماعي في جامعة كاليفورنيا, لوس أنجلوس. وقد أخترع نموذجاً يشرح فيه خصائص الإغتراب التي تتمثل بخمس مقاطع أساسية:

1- العجز: يشعر الفرد بالإغتراب عند عدم تملكه القدرة في السيطرة على نتائج الأحداث (Seeman, 1959). بمعاني أخرى, فقدان الفرد السيطرة على الأوضاع التي كانت مسيطرة من قبل, خروج الوضع من سيطرة الفرد, فقدان حرية التعبير وحرية التصرف, تشلل أستقلالية الفرد.

2- فقدان المعنى: أو فقدان الهدف أو المبدأ من الحياة. لا يفهم الفرد المعنى والمغزى من التصرف الذي يقوم به بعد أن كان مغمراً بالمعاني في القبل (Seeman, 1959). يغترب الإنسان عن سابقه, والسلوكيات التي يقوم بها تكون شبه خالياً من النتائج المرضية أو المتلذذة.

3- فقدان المألوف : إغتراب الفرد بسبب تهدم أو تغير العادات الأجتماعية التي كانت تحكم حياته وتملي عليه التصرفات الجائزة والممنوعة. وقد لا يكون سبب الإغتراب تهدم أو تغير العادات السابقة, بل عدم الإنتماء أو عدم فهم عادات المجتمع من المرتبة الأولى. ويحدث هذا عند المهاجرين إلى بلاد “مختلفة أجتماعياً” عن عادات بلادهم, حيث يشعرون فيه بنوع من الإغتراب والشوق إلى ما كان مألوفاً.

4- الإنعزال : إنعزال الفرد عن مجتمعه ينتج أحاسيس إغترابية عنده. لكن لم يبين مليفن هل أن الإغتراب يأتي بعد العزلة أم قبله. وهل الإغتراب مسبب للعزلة أم نتيجته. يبدوا هنا إن الإنعزال هو مسبب للإغتراب ويأتي قبله.

5- تغريب النفس : ينفصل الإنسان عن ذاته (Seeman, 1959), ويشعر أن نفسه وهويته وشخصيته أصبح غريب عليه. لا يهتم بعد الآن بما كان يهتم به سابقاً. ربما لا يشعر بالأصالة أو بالتميز عن الآخرين.

يمكنك التفكير في هذه الخصائص الخمسة كأعراض لمرض الإغتراب بالإضافة إلى كونهم مسببات ومميزات.

أنواع الإغتراب
ينقسم الإغتراب إلى عدة أنواع عديدة منها حسب أسباب الإغتراب أو حسب المغترب عنه. ودعنا لا ننسى إن هذه الإغترابات تظهر نتيجة إختلافات أو فراغات معلوماتية بين المغترب والمغترب عنه.

1- الإغتراب الشخصي والموضوعي:

a. الإغتراب الشخصي: أو ما يسمى بالإغتراب المحسوس أو الإغتراب الواعي لإن الشخص يمكنه الإحساس بوجوده ويشعر به ويكون واعياً منه (Szekety, 2015). مثل شعور الفرد بالغرابة عند جلوسه مع أشخاص لا يعرفهم. مسألة وعي الإنسان لإغترابه تعني أن الحل يكمن داخل الفرد نفسه, وهو أيضاً محفز للتخلص من هذه الحالة.

b. الإغتراب الموضوعي : وكذلك يسمى بالإغتراب غير المحسوس أو الإغتراب اللاواعي لإن الشخص لا يكون واعياً أو لا يشعر بالإغتراب على رغم من حقيقة وجوده (Pavithran, 2009). ومثاله هو أخذ الإنسان للمخدرات النشوية, فقد لا يشعر الشخص بإغتراب أفعاله ولكنه حتماً مغترب عن طبيعته. وكونها غير محسوسة تعني بإنها تشكل مشكلة كبيرة للفرد وللمجتمع. ففي هذه الحالة يحتاج الفرد إلى مساعدة الآخرين, أو يحتاج المجتمع بأكمله إلى ثورة وتغيير (كما ظن ماركس) لكي يتخلصوا من هذا العائق الذي يمنعهم من التصرف والتفكير بطبيعتهم – كالحرية مثلاً. يرتبط هذا النوع من الإغتراب مع الإغتراب الموروث بأضافة غفلة دماغ الفرد عن ذلك الإغتراب. فالإنسان في هذا نوع من الإغتراب ولد في عالم من الإغتراب وتبرمج عقله على التعود والتعايش مع الإغتراب, فلا يعلم ما الجيد وما الطبيعي الذي يفتقده لإنه لا يدرك حتى بوجوده. حالهم يشبه حال ماء راكد في بقعة ما على ضفة النهر يرفض الجريان مع طبيعة مجراها. ولكي يرجع إلى أصلها وطبيعتها, يجب علينا إزالة العوائق التي تمنعها من العودة والجريان مع باقي مياه النهر, ربما يكون هذا العائق الطين أو الأرض التي حولها أو عمق حفرة التراب التي تحتها, لكن مهما كانت, يجب أن يقوم المياه الجارية بالثورة أو بالتغيير للتغلب على هذه القيود والعوائق من أجل تحرير الفرد وإرجاعه من الإغتراب إلى مكانه الطبيعي الصحيح. وكما نعرف, فإن هذا يحتاج إلى أشخاص واعين ومدركين ويعرفون مجرى الطبيعي للإنسان لكي يوقظوا العامة أو الأفراد غير المحسوسين من هذا الإغتراب. فهم الوحيدون الذين يمكنهم مساعدة هؤلاء المغتربين.

2- الإغتراب النفسي والأجتماعي:

a. الإغتراب النفسي: هو إغتراب الشخص عن نفسه – سواءاً عنت ذلك نفس الموروث أو المألوف. يفقد الشخص شخصيته وهويته وخصاله, فكل ما كان يعرفه عن نفسه في السابق قد تغير عليه الآن (Debnath, 2020). ويظهر هذا الإغتراب اما بسبب اسباب خارجية أو داخلية. مثال على الأسباب الخارجية التي تؤدي إلى إغتراب النفس هو فقدان أحد أطراف أو تشوه الوجه, ومثال آخر هو تورط الشخص في موقف من مواقف الذي يتحدى شخصيته ويغير هويته. ومثال على سبب الداخلي هو قيام الشخص بتصرفات معينة خارجة عن المألوف, مثلاً عندما يقوم بتغيير تسريحة شعره أو يرتدي ملابس مخالف لملابسه الروتينية أو المقبولة فيشعر بالغربة عن نفسه. لكن الإغتراب النفسي يمكن أن ينجلي بسرعة كوننا دائماً مع أنفسنا, فإننا نتعود على التغيرات التي تطرأ علينا ونتبنى الهويات التي تقدمها لنا الحياة.

b. الإغتراب الأجتماعي: إنفصال الإنسان عن مجتمعه وعن عاداته وتقاليده ومبادئه ودينه يسمى بالإغتراب الأجتماعي أو المجتمعي (Foster, 1989). وهذا الإغتراب يؤثر على هويته وعلى هوية من يعرفونه من المجتمع.

3- الإغتراب التميزي : يختلف هذا نوع تماماً عن كل أنواع الإغتراب. لإنه صادر عن الإنسان نفسه. فواحد من طبائع الإنسان هو التميز عن الآخرين (Pavithran, 2009). لذلك يقوم الفرد بالعبور خارج حدود المألوفة والمعروفة إلى أبعاد غير مستوطنة من قبل الآخرين, فبذلك يقوم بتغريب نفسه عن نفسه وعن مجتمعه وربما حتى عن زمانه وعن مكانه. مثال على ذلك في عصرنا حالي هو المراهقين الذين يتصرفون بتصرفات غريبة ويفعلون أفعلاً عجيبة من أجل التغير عن مجتمعهم وأباءهم وأجدادهم, نرى مثلاً شخص يوشم نفسه بوشوم مشوهة وبلا معنى فقط لتمييز نفسه عن طبيعة مجتمعه. هذا الإغتراب طبيعي بعض الأحيان, لكن نتائجه قد يكون غير محمود أو غير طبيعي على الإطلاق. فقد يجعلنا يائسين ويعود عواقبه علينا ليجعلنا عبيداً لتلك التصرفات, أو يجعلنا بعيدين عن أشياء التي يجب علينا ان ننتمي إليه من طبيعتنا, أو يحرمنا من أشياء يجب علينا إدراكها وقصدها. ربما يشعر المغترب في بداية الأمر بشعور جيد, إلا إنه يغترب إغتراباً موروثياً عن طبيعته البشرية.

4- الإغتراب الفتشية : للفتشية معانٍ مختلفة, وهنا تعني خروج الأشياء التي صنعها الإنسان عن سيطرته (Pietz, 1985). والمثال الشائع والمرتقب هو خروج الروبوتات عن سيطرة الإنسان. لكن الفكرة تعني أيضاً أختراعات عقلية, مثل تهوس الفرد بفكرة ما إلى حد الجنون. دور الإغتراب يأتي بعد إنقلاب تلك الأشياء التي أختراعها الإنسان للسيطرة عليه وإستعباده. والمثال المثالي على ذلك هو إغتراب الطفل عن غرفته التي تألف عليه بسبب ظنه بوجود أشباح شريرة في الغرفة. هذا الإختراع العقلي أدى إلى السيطرة على تصرفات الطفل وبالتالي جعله مغترباً عن حالته الطبيعية.

5- الإغتراب الزماني: يشعر الإنسان به عند حدوث تغيرات في زمانه, فيظن الإنسان على أنه لا ينتمي إلى هذا الزمان أو هو ليس الزمان الذي كان يعرفه من قبل. والمثال الأمثل عليه هو إغتراب المسنين اليوم عن تكنلوجيات القرن الواحد والعشرين.

6- الإغتراب المكاني: ذهاب الإنسان إلى مكان آخر متغاير جزئياً أو كلياً عن مكان الذي تعود عليه. ومثاله هو هجرة القرويين إلى المدن.

محاسن ومضار الإغتراب
يقع محاسن الإغتراب على إفادة نفس الإنسان ومجتمعه كما يقع مساوئه على أذية الإنسان ومجتمعه

1. محاسن الإغتراب: للإغتراب محاسن قليلة ونادرة. الإغتراب ممكن أن يكون جيداً إذا كان فيه خروج من إغتراب آخر, ويحدث مثل هذه الحالات فقط عندما يخرج الإنسان من طبيعته المألوفة ليرجع إلى طبيعته الموروثة.

a. محاسنه على النفس : ليس من المستحيل علينا تخيل شخص تربى وتعود على رفض طبيعته الموروثة لسبب أو لآخر. مثاله يكون تعود الشخص على رفض ممارسة الجنس. لو حاولنا مساعدة هذا الإنسان لإرجاعه إلى طبيعته الموروثة (ربما عن طريق زواج أو غيره), سنراه يغترب تماماً عن نفسه لإنه خرج من هويته وشخصيته السابقة. لكن هذا الإغتراب يعد أمراً طبيعياً وحسناً لأننا قدمنا طبيعته الموروثة على المألوفة. وواحد من محاسن الأخرى للإغتراب هو جعلنا نتميز عن الآخرين (Wood, 1998). فالإغتراب التميزي قد يكون نافعاً نفسياً للإنسان إن لم يكن ضاراً أو يؤدي إلى إغتراب شديد من المجتمع وطبيعة النفس.

b. محاسنه على المجتمع: لنتخيل شخص آخر تربى على أذية الناس, إغتراب هذا الشخص عن تربيته المألوفة يعتبر فائدةً للمجتمع. وكذلك الأمر للأشخاص الإنعزاليين بالتألف, خروجهم من إنعزاليتهم وشروعهم إلى الكون جزءاً من المجتمع هو أمر جيد ايضاً للنفس وللمجتمع (Allan, 1999).

2. مضار الإغتراب : هناك مضار عديدة للإغتراب, نذكر هنا بعضاً منهم :

a. الإجرام : الشخص مغترب عن المجتمع لا يرى الآخرين كبشر مثلهم, بل يراهم كمجرد أشياء أو كوسائل يستخدمهم للوصول إلى غايته الأنانية (Leopold 2018).

i. قتل الآخرين : بمجرد تصنيف الشخص المغترب الآخرين كمجموعة أخرى لا ينتمي إليهم (Szekety, 2015). فأنه سيبدأ بإستحلال دماءهم. يمكنك أختيار أي مجموعتين من واقعنا الحالي أو من تاريخنا البشري, فسوف ترى أن الذي بكى على موت صاحبه من طائفته ضحك بفخر على قتل غيره من طائفة أخرى.

ii. سرقة من الآخرين : السرقة سوف يتبع القتل طبيعياً. فهنا لن يشعر الشخص بأي ذنب أو تأنيب ضمير عند قيامه بمثل هذه الجرائم ضد الآخرين. وهذا المثال نراه في شرطة الدولة, حيث يرون ممتلكات المجرمين كممتلكات العدو ف”يصادرونه” من أجل أنفسهم بأسم “الدولة”.

iii. التخريب : لا يبالي المغترب على الإطلاق إن كان العالم حوله منتظماً أو في حالة فوضى. بل ربما يقوم بتهميش النظام الذي يراه هو ليس منه. فكر في جندي يقصف مدينة من دولة أخرى. أو في طفل يهمش ألعاب التركيب الذي لم يبنيه هو.

b. أذية النفس : يؤذي الشخص نفسه عندما يغترب نفسه عن نفسه.

i. الإنعزال : ربما لا يعلم الشخص بأنه يؤذي نفسه عند إنعزاله عن المجتمع, لكن علم النفس يثبت ذلك. يشير الدراسات على أن مضار الشعور بالوحدة والإنعزال الأجتماعي على الصحة البدنية والعقلية يفوق مضار السمنة بضعف المقدار (Tomas, 2014).

ii. الإنتحار : هناك أسباب عديدة للجوء الإنسان للإنتحار, لكن الإنسان المغترب هو أكثر عرضة لذلك, كونه لا يجد أي شيء في الكون.

iii. الكآبة : الإنعزال هو واحد من أسباب الكآبة. ومن محتمل أيضاً أن يكتئب الشخص بسبب عدم إيجاد هويته أو تغير شخصيته أو تغير البيئة التي كان يعرفها (مثل تطور التكنلوجيات الذي أدى إلى إغتراب الأشخاص الذين لا يجيدون أستخدامها) (Johnson, 1975). وأيضاً يمكن أن يكتئب الشخص بفقدان الثقة في النفس بعد أن تغير عليه شخصيته أو الناس حوله أو حتى الأشياء في بيئته.

iv. الخوف والقلق والتوتر: يتواجد القلق والتوتر والخوف في جميع أنواع وحالات الإغتراب (Tomas, 2014), وحتى في الإغترابات الجيدة. وبعدما يتخلص الفرد من الإغتراب ويرجع إلى طبيعته, فإنه سيشعر بالراحة والطمأنينة وكذلك الثقة بالنفس.

v. فقدان النشاط في المدرسة والعمل: الإغتراب عن المبادئ, الإغتراب عن الأسس والأصول والدين, الإغتراب عن الأهداف ومعاني الحياة, يجعل الإنسان لا يبالي بنفسه ومستقبله ويفقد حيويته في المدرسة والعمل.

vi. عدم القدرة على تكوين الصداقات والإنتماءات: يرى الإنسان المغترب الآخرين مختلفين عنه, فلا يبادر بمصادقتهم والإختلاط معهم (Leopold 2018). وربما لا يحسن بعدها الإنضمام إلى أي مجموعة بشرية قد تكون مفيداً له.

ملاحظات على ما سبق
للتوضيح, الإغتراب لا يعني عدم معرفة فرد ما حق معرفته أو عدم الإنتماء إلى مجموعة ما أو حالة ما, كما إن التألف والمعرفة لا يعنيان الإنتماء. فيمكن أن يكون شخص غريب مألوف عليك تماماً, ويمكن أن يكون حتى عدوك مألوف ومعروف عليك, لا تستغربُ في الحالتين عن أقوال وأفعال الغريب والعدو. يأتي الشعور بالإغتراب عندما يكون تغير ما في المعلومات أو في الإدراك عن العدو والغريب. إكتشافي لمعلومة جديدة عن عدوي يجعله مغترباً في عقلي. وكذلك الأمر بالنسبة للقريب, فربما أجد معلومات مضادة لما كنت أعرفه عنه سابقاً, فبالتالي يغترب هو علي أيضاً. والسوء والمضار ليس له علاقة بالإغتراب أيضاً, فعندما تشعر بالإنتماء إلى الكون (حالة تآلف تام), تكون منتمياً إلى محاسن الكون وفوائده بالإضافة إلى مساوئه ومضاره. هناك بعض الناس من تعودوا على الجوع أو تعودوا على الألم, فعندما يزال تلك المضار, نراهم في حالة من الاغتراب.

إلى جانب ذلك, القليل أو البعض من الإغتراب لا بأس به, فجميعنا في زمن ما نخرج عن طورنا ومن طبيعتنا لنشعر بمشاعر غريبة ونخوذ تجربة أحداث حديثة, أو ربما نكتشف معلومات جديدة غير متوقعة عن أشياء قديمة, أو نستبدل هويتنا الطفولية بهوية المراهقية. لا شيء ثابت في الحياة, جميع الأشياء معرض للتغير, ويأتي مع التغير أنواع عديدة من الإغترابات. نحن نحاول هنا التخلص من الإغترابات التي تضرنا سواءا كان مضاره للفرد أم للمجتمع وسواءا كان ذلك في الزمن الحالي أو في المستقبل. الاغتراب السيء هو الاغتراب الذي يحول بينك وبين شيء جيد أو مفيد أو طبيعي, وإلا لا فائدة من تغيير حالة الإغترابية التي لا تلبي تلك المقاييس.

لكن هل فعلاً خروج الإنسان من طبيعته هو أمر سيء أم مجرد شيء عادي؟ على سبيل المثال, هل عدم التعبير عن الغضب والغيرة والحسد هو أمر سيء؟ وهل يعود مساوئه علينا أم على المجتمع؟ وكيف نتطور إذاً ونرتقي من حالتنا إن كنا نجبر أنفسنا على البقاء في طبيعتنا الضيقة فقط؟ مثلاً, هل إرتداءنا للملابس في جو حار من أجل ستر جلودنا عن نظر الآخرين هو أمر سيء لإنه ليس من طبيعتنا؟ إن كان الإجابة على ذلك بنعم, فنحن إذاً في مشكلة ; هناك عديد من القوانين الدولية والأخلاقيات الأجتماعية التي تقف كعائق للتعبير عن طبيعتنا وحريتنا (فكر في القوانين ضد القتل والإنتقام وممارسة الجنس في العلن والسرقة والإغتصاب, كلها قوانين تمنع الإنسان أن يتصرف بطبيعته). ندرك أن جميع التطورات التي حدثت عبر التاريخ البشري كانت تتبع المنطق العقلي وليس طبيعة الإنسان بالضرورة, وهذا المنطق كان مستنبطاً من مبدأ ما أو دستور ما تبنيناه لسبب ما – لا يهم إن كانت تلك المبادئ وجدت بسبب مشاعرنا (مثل قانون الإعدام المعاكس لمشاعر الإنتقام) أو بسبب الحاجة إليه (كقانون القتل). فالزهرة التي فُتحت جميع بتلاتها اليوم, توسعت ونضجت على وفق منهاج الجيني التي تبناه النبات, كذلك الأمر بالنسبة لتاريخ تطور الفكر البشري, فإنها كانت تخطو يوماً بعد يوماً خطوات أضافية منذ يوم تبنيها لدستور معين. لقد وسعنا دساتير الماضيين بمنطق المعمي, وبسبب فعلنا لذلك, عرضنا أنفسنا لخطر الخروج من طبيعتنا بأسم التطور والرقي. وما هو التطور والرقي ان لم يخدم طبيعة الانسان ويفتح له افاقاً لممارسة طبيعته بحرية تامة وبأقل جهد وبأسرع وقت. وهنا نتحدث عن الخروج من الطبيعة الموروثة وليست الطبيعة المألوفة لإنه من الممكن للدماغ أن يتألف ويتعود ويتربى على الأفكار الخاطئة, أما البرمجة الخاطئة للطبيعة الموروثة فهي تكون مميتة وقاتلة للفرد, ولا يمكن تغيير ذلك الخطأ في زمننا الحالي (تغييره يتطلب أستبدال والتلاعب بالجينات). بينما مرونة الدماغ في تبني والرضى على الأفكار الخاطئة والمؤذية يجعل الإغتراب من الطبيعة ممكناً للغاية (فكر في شخص يحاول الأنتحار بسبب حالته المادية, فهذا القرار هو نتاج العقل للخروج من طبيعة الرغبة في البقاء على قيد الحياة). أعتقد إن الإجابة في الأخير على سماحية خروج الإنسان من طبيعته من أجل التطور والرقي سيكون لا على الأرجح.

لنسأل السؤال التالي, ماذا لو خالف طبيعتنا المألوفة طبيعتنا الموروثة؟ في هذه الحالة, سنشعر بالإغتراب فور قرارنا بالرجوع إلى الطبيعة الموروثة (أي نشعر بالإغتراب بسبب خروجنا من الإغتراب الذي تعودنا عليه). لنفترض ان هناك شخص لم يمارس الجنس أبداً في حياته ولم يشعر بالرغبة إليه (يعد إغتراباً عن طبيعة الموروثة), وقد تعود عقله على عدم الشعور بلذة الجنسية. لنتصور يوماً ما انه رأى فتاةً جميلة ومثيرة, في هذه لحظة, يبدأ عقله ولأول مرة الرغبة في الجنس, مما يؤدي إلى الشعور أيضاً بالإغتراب لإنه كسر عادته المألوفة في عدم التفكير بالجنس, وسيشعر بالمزيد من الإغتراب إذا قام بممارسة الجنس معها بالرغم من أنه يعد شيئاً إيجابياً لعودته إلى طبيعته الموروثة بعد الإغتراب. إغترب شخصنا الأفتراضي عن هويته وشخصيته السابقة لكنه أصبح أكثر قرباً الآن إلى إنسانيته الحقيقية, لا يمكننا إذاً الإستنتاج بأن الإغتراب هنا كان سيئاً عليه بل هو أمر إيجابي قام بتغريب طبيعته المألوفة لتقريب طبيعته الموروثة, وهذه قاعدة يتبع في كل أنواع الإغترابات, يجب علينا أن نقدم الطبيعة الموروثة على الطبيعة المألوفة (يقدم الجينات على الدماغ). وكذلك الأمر بالنسبة لشخص خرج عن عادة مجتمعه السيئة من أجل العودة إلى طوره الطبيعي الموروث, يبدأ بالشعور بالإغتراب الأجتماعي بسبب إختلافه على طوره المألوف.

ماذا عن تغيير من وسيلة الغاية الطبيعية؟ ماذا مثلاً عن التلذذ بالجنس (طبيعة موروثة) عن طريق الجنس الفموي (وسيلة غريبة)؟ أليس هذا إغتراباً عن الطبيعة البشرية الموروثة؟ ماذا مثلاً عن شخص يبقي نفسه أجتماعياً عن طريق مواقع تواصل الأجتماعي بدلاً من المقابلة وجهاً لوجه؟ ماذا عن إنسان يأكل بالملعقة بدلاً من يده؟ نجيب على جميع تلك الأسئلة ب(نعم وكلا). غالباً لا يهم الوسيلة المتبعة للوصول إلى الغاية الطبيعية الموروثة. والإغتراب هنا هو إغتراب مألوف وقتي فقط وليس إغتراب موروث – كما قلنا في السابق يقدم الإغتراب الموروث على المألوف. الوسائل للتعبير عن الطبيعة البشرية تغير وما زال يتغير من جيل إلى جيل, وما دام الطبيعة الموروثة معبرة فلا يهم كثيراً الوسيلة المختارة بالنسبة لموضوع الإغتراب.

والسؤال الأخير هو: كيف نعلم إن كان شيئاً ما أو تصرف ما من طبيعة الإنسان أم لا؟ لا يزال هناك جدال واسع حول ماهية الطبيعة البشرية. هل تبني المبادئ والأديان من طبيعتنا؟ هل وجود طبقات أجتماعية مختلفة مستنبط من الطبيعة الإنسانية أم مجرد أختراع عشوائي متبوع؟ هل إنشاء العوائل من طبيعة الإنسانية؟ وعندما نتحدث عن طبيعة الإنسان, هل نتحدث عن غالبية الطبيعة البشرية أم الطبيعة البشرية المطلقة التي لا تقبل التغيير؟ مثلاً, هل الإدمان هو من الطبيعة البشرية (بعض الأشخاص لا يدمنون)؟ هل المثلية هي من طبيعة البشرية؟ يختلف الرد على هذه الأسئلة من عالم إلى آخر. لكننا جميعاً يمكننا الإتفاق على أن الطبيعة الإنسان ينقسم إلى طبيعة جسدية وطبيعة عقلية. الطبيعة الجسدية يتطلب البقاء على قيد الحياة في كل الاحوال, والنمو في كل الاحوال, والتكاثر الجنسي ولاجنسي الخلوي. الطبيعة العقلية يتطلب الرغبة وراء مشاعر الجيدة وتجنب المشاعر السيئة, وغيره. ويمكننا القول ان طور الطبيعة الموروثة للفرد يختلف من إنسان إلى آخر, فالكل حسب نظرية الاغتراب يجب ان يرجع الى طبيعته الخاصة, مثلاً الشخص المصاب بمرض الكآبة وراثياً يجب عليه حسب نظرية الإغتراب أن لا يغترب عن الشعور بالإكتئاب لأنه طبيعته الوراثية وأي محاولة تظاهر بغير ذلك يعد إغتراباً عن الموروث.

والاستنتاج المثير عن نظرية الاغتراب هو أن الموت لا يعد من طبيعة الإنسانية بل إغتراباً عنها. لذا فأن الباحث عن الحياة الأبدية لا يلام على بحثه, بل يجب ان يحثه المجتمع عليه وان يحرره من جميع القيود والعوائق التي يعيقه للوصول الى ذلك الطبيعة. الاغتراب يأتي عند الشعور بالموت او عند تذكر الموت او عند الاقتراب من الموت, فهذه المشاعر هي ليست طبيعية على اطلاق, والالم الذي نعانيه قبل الموت هو الم وهمي لا علاقة له بطبيعتنا. وكذلك الامراض, فهي غير طبيعية في اجسادنا ويجب علينا التخلص منها لانها تجعلنا مغتربين عن انفسنا وعن الاخرين.

طرق التخلص من الاغتراب
لقد أصبح لدينا أسم وتعريف ومعلومات عن هذا الشعور الذي نشعره عند الخروج من عادة ما أو الخروج من طورنا المألوف والموروث. ربما وضعنا وعينا للطريق الطبيعي بمجرد معرفتنا عن الإغتراب, لكن يبقى لدينا في الواقع الكثير من العمليات والخطوات التي يجب أن نعملها لكي نتخلص من الإغتراب بالكامل.

إذاً لنتطرق إلى طريقتان للتخلص من الإغتراب :

1- تقريب المعلومات المختلفة وتشبيهها (للإغتراب المألوف) : ما الذي يجعل شخص ما يعتقد بأن شخص آخر هو من مجموعته؟ كيف يعلم الطفل انه ينتمي الى مجموعة من الناس يسميهم العائلة؟ الجواب هو تقرب المعلومات في ذهنه الذي تعود على هؤلاء الناس الذي يسميهم بعائلته, أي إن اللحظة اللاحقة لأفراد عائلته ينقل نفس المعلومات عن اللحظة السابقة, فهو متآلف معه. عرفنا الإغتراب على أنه خروج من طورين الموروث والمألوف, وقلنا في المقدمة إن الإختلاف هو منبع الإغتراب. وهذه الإختلافات يظهر على شكل معلومات للوعي, أي إن الإنسان يدرك أن الآخر مختلف عنه عندما يجد عقله معلومات يثبت أنه مختلف عنه ؛ يدرك الإسكافي على أنه مختلف من الحداد عندما يرى الحداد يقوم بالتصرفات مختلفة عن تصرفاته ويتعامل مع أدوات مختلفة عن أدواته وينتج أشياء مختلف عن ما ينتجه. وحتى لو لم نملك معلومات عن شخص آخر, فإننا لا نرتاح له ولا نزال نفترض إنه من مجموعة أخرى غير مجموعتنا حتى يثبت غير ذلك. إذاً, الحل يكمن في إكتساب أكبر عدد من المعلومات عن الأشياء أو عن الأماكن والأزمان وعن الأشخاص والمجتمعات الذين نراهم مختلفين عنا, ومن ثم ربط تلك المعلومات مع ما نملكه من معلومات أخرى وإيجاد قواسم مشتركة بينهما لكي نسد تلك الفراغ المعلوماتي في عقولنا ونطفأ ذلك الشعور ونعود إلى طبيعتنا المألوفة. وينطبق نفس الحل للإغتراب النفسي (يجب أن يعترف الشخص الإختلافات التي تحصل في هويته وشخصيته, ويبدأ بمعالجته عن طريق تقريب المعلومات وإيجاد قواسم المشتركة بين شخصيته وهويته القديمة والجديدة).

2- الإيقاظ وتغيير الفرد والمجتمع (للإغتراب الموروث) : كما أشرنا سابقاً أن الإغتراب الموروث يكون بعض الأحيان غير مستشعرة – لا يشعر الشخص به – مما يضع العاتق على الذين يدركون تلك الإغترابات في الأفراد والمجتمعات لكي يقوموا بإيقاظهم من خلال تنبيههم على تلك الإغترابات ومحاولة تغييرهم للرجوع بهم إلى طبيعتهم المفضلة. قد يكون هناك في البداية مقاومة من الفرد أو من المجتمع لتلك التغيرات المطروءة, لكن تذكر أن هذا طبيعي لإنهم لا يريدون الخروج من طبيعتهم المألوفة.

3- قطع دابر مسبباتها : مثل الطبيب الذي يحاول أن يتعرف على أسباب ألم في الظهر ليعالجه على حسبه. نحاول بقدر المستطاع أن نفصل الإغتراب ونحلل نفسية المغترب ورويتيناته اليومية وحالة مجتمعه والعوائق التي تعيقه من التعبير عن طبيعته المألوفة والموروثة. فور معرفتنا بالسبب, نبدأ تدريجياً برد فعل مناسب أتجاه المسبب ونقطع يده القابضة لحرية المغترب.

الزمن اللازم للعودة إلى الطبيعة يعتمد على نسبة الإختلاف أو الإنحراف من الطبيعة. عادةً, يكون شفاء الإنسان من الإغتراب المألوف أسرع من الإغتراب الموروث.

الخاتمة
نهاية الإغتراب لهيغل هي حتمية طبيعية ؛ إذا ظهر الإغتراب في اي زمان ومكان كان وفي أي مجموعة تجسدت أو في أي وعي تمثلت, يجب أن يكون هناك نقيضه في مجموعة أخرى أو وعي آخر, أما في نفس المكان والزمان أو غيره. يواجه هاتان المجموعتان بعضهما البعض حتى يذوبان إلى مجموعة جديدة متوسط بينهما, ومن ثم يبدأ دورة جديدة من المجموعة الوسطية ويظهر نقيضه في مجموعة أخرى ليواجهه حتى يذوبان أيضاً إلى مجموعة وسطية جديدة أخرى (Hardimon. 1994). وهكذا يستمر الدورة حتى يصل المجتمع البشري إلى طبيعتهم بشكل كامل. والطبيعة لهيغل تعني الحرية المطلقة والمعرفة التامة. أي ينتهي الإغتراب مع مرور الزمن لهيغل. اما نهاية الإغتراب لماركس, فيقع على يد الفرد والمجتمع. للتخلص من الإغتراب, يجب أن يقوم الفرد والمجتمع بالثورة عليه والقضاء عليه بشكل فعال. بالنسبة للعمال المغتربين بسبب عملهم, تطلب منهم المناضلة وهدم رأس المالية التي تضعهم في ذلك حال (Cohen, 1974).

كون ميلفن من المعاصرين للقرن العشرين, يعني ذلك أنه رأى معالجة الإغتراب بالعلاجات النفسية الحديثة عن طريق معرفة الأسباب وإعطاء الأدوية أو النصيحة المناسبة له, وبدعمه من أفراد ومجتمع أقل إغتراباً منه (Rokach, 2004).

المراجع
Allan Bullock & Stephen Trombley. 1999. Alienation. The New Fontana Dictionary of Modern Thought., editors. p. 22.

Chiaburu, Dan S., Thundiyil, Tomas, and Wang, Jiexin, 2014, “Alienation and its Correlates: A Meta-Analysis”, European Management Journal, 32(1): 24–36.

Cohen, G. (1974). Marx’s Dialectic of Labor. Philosophy & Public Affairs, 3(3), 235-261. Retrieved June 19, 2020.

Daniel Berthold-Bond. 1995. Hegel’s theory of madness, SUNY Press.

Debnath, S. 2020. Concept of Alienation in Hegel’s Social Philosophy. J. Indian Counc. Philos. Res. 37, 51–66.

DUPRÉ, L. (1972). HEGEL’S CONCEPT OF ALIENATION AND MARX’S REINTERPRETATION OF IT. Hegel-Studien, 7, 217-236.

Foster, S. (1989), Social Alienation and Peer Identification: A Study of the Social Construction of Deafness, Human Organization, Volume 48, Number 3, pp. 226–235

Hardimon, Michael O., 1994, Hegel’s Social Philosophy. The Project of Reconciliation, Cambridge: Cambridge University Press.

Hegel, G. W. F., Miller, A. V., Findlay, J. N., & Hoffmeister, J. (1979). Phenomenology of spirit. Oxford [England: Clarendon Press

Hegel, G.W.F. [1820]. Elements of the Philosophy of Right, Wood, Allen W. (ed.), Cambridge: Cambridge University Press.

Johnson, Frank (1975) Psychological Alienation: Isolation and Self-Estrangement Psychoanalytic Review 62:3 Pg 369. Reprinted from Alienation: Concept, Term, and Meanings, 1973.

Leopold, David. 2018. “Alienation”, the Stanford Encyclopedia of Philosophy (fall 2018 Edition), Edward N. Zalta (ed.).

Marx, Karl. 1844 “Comment on James Mill,” Economic and Philosophical Manuscripts of 1844.

Pavithran, K. (2009). ‘ALIENATION’ AND THE HUMANIST SIGNIFICANCE OF MARXISM : A CRITICAL APPRECIATION. The Indian Journal of Political Science, 70(1), 175-184. Retrieved June 19, 2020.

Pietz, William (Spring 1985). “The Problem of the Fetish, I”. RES: Anthropology and Aesthetics. The President and Fellows of Harvard College acting through the Peabody Museum of Archaeology and Ethnology (9): 5–17. JSTOR 20166719.

Rokach, Ami (2004). “Loneliness then and now: Reflections on social and emotional alienation in everyday life”. Current Psychology. 23 (1): 24–40. doi:10.1007/s12144-004-1006-1.

Sayers, Sean, 2011, Marx and Alienation. Essays on Hegelian Themes, London: Palgrave Macmillan.

Seeman, M. (1959). On The Meaning of Alienation. American Sociological Review, 24(6), 783-791.

Szekely, dorottya. 2015. Melvin Seeman: Social Alienation.

The Editors of Encyclopaedia Britannica. 2018. Alienation. Encyclopedia Britannica, inc.

Wood, A. (1998). Alienation. In The Routledge Encyclopedia of Philosophy. Taylor and Francis.

رضا الظاهر. مساهمة في اعادة قراءة ماركس (6) الاغتراب .. الرأسمالية تجرّدنا من إنسانيتنا. مدارات, حزب الشيوعي العراقي. 2018.

كارل ماركس; فريدريك إنجلز. الأيديولجية الألمانية. تُرجم بواسطة فؤاد أيوب. 2013. دمشق: دار دمشق. صفحة 83.