منذ أن وُصف الإعلام بأنه “السلطة الرابعة”، اعتبره المفكرون حارسًا للحقيقة ورقيبًا على السلطة وصوتًا للمجتمع. لكن مع تعاظم دور المال في إدارة المنابر الإعلامية، يطلّ سؤال أكثر إلحاحًا: هل ما زال الإعلام سلطة رابعة، أم أنه تحوّل إلى شركة قابضة، تتحكم فيها الحسابات المالية قبل المبادئ المهنية؟
الإعلام في جوهره أداة لتنوير العقول وكشف الحقائق، لكن حين يُدار بعقلية تجارية محضة، يتحول إلى سوق مفتوحة. الخبر يصبح منتجًا، والرأي يتحول إلى خطاب مُصاغ بعناية، والمشاهد أو القارئ مجرد مستهلك. ما يُرضي المموّل يُنشر، وما يُزعجه يُدفن، لتتبدل الوظيفة من مراقبة السلطة إلى خدمة رأس المال.
في هذا السياق، تتراجع فكرة “الرسالة” أمام “الميزانية”، ويصبح المذيع أو الصحفي واجهة جميلة لخطاب لا يُصاغ في قاعات التحرير بل في مكاتب الممولين. وهنا يفقد الإعلام استقلاليته ويكف عن لعب دوره كسلطة رابعة، ليغدو جزءًا من شبكة المصالح الكبرى، شأنه شأن أي شركة قابضة تحركها حسابات الربح والخسارة.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن المال هو الذي منح الإعلام القدرة على الانتشار والتطور. فالقنوات الفضائية، المنصات الرقمية، والإعلام الجديد كلّه قام على استثمارات ضخمة. لكن التحدي يظل في ضبط العلاقة: أن يكون المال وسيلة لتقوية الإعلام، لا لشراء ضميره.
إن المجتمع الذي يفقد إعلامه الحر يفقد مرآته. فحين يتحكم رأس المال في الخطاب الإعلامي، يرى الناس صورة مشوّهة عن أنفسهم والعالم من حولهم. وحين يصبح الإعلام تابعًا للمال، لا يعود صوت الناس بل صدى لمصالح من يملك الأسهم.
ورغم هذا الواقع، يبقى الأمل معقودًا على وعي الجمهور. فالإعلام مهما كان قويًا، لا يعيش إلا بتصديق المتلقي. وإذا تعلّم المتلقي أن يقرأ ما وراء السطور، وأن يميز بين الخبر الموضوعي والإعلان المقنّع، فإن المال سيفقد قدرته على التحكم المطلق في العقول.
الإعلام اليوم إمّا أن يستعيد دوره كسلطة رابعة تقف في صف المجتمع، أو ينخرط أكثر في منطق الشركات القابضة، حيث لا مكان للحقيقة إلا إذا كانت مربحة. والسؤال يظل مفتوحًا: هل الإعلام أداة للوعي أم للتزوير؟