17 نوفمبر، 2024 2:49 م
Search
Close this search box.

الإعلام الغربي والمعايير الأخلاقية: الأزمة الأوكرانية إنموذجا

الإعلام الغربي والمعايير الأخلاقية: الأزمة الأوكرانية إنموذجا

إن ثمة طريق واحد للإعلام الصحيح وهو الشجاعة

وليس الاستمرار في إغراق الناس بوحل الأكاذيب

الصحفي الأمريكي الشهير “بوب وورد”

المتهم بافشاء أسراء فضيحة ووترغيت

يحتل الإعلام في الظروف الراهنة، أهمية كبيرة، نظرا لدوره في تكوين الرأي العام وتشكيل موقف الفرد من الأحداث السياسية والثقافية والإجتماعية، لذلك نلاحظ صراعاً متعدد الأشكال من قبل قوى الهمينة الدولية، من أجل السيطرة عليه وتوجيهه، بما يخدم مصالحها الخاصة بعيداً عن المعايير الأخلاقية.

تهدف هذه الدراسة إلى القاء الضوء على العلاقة بين سيطرة كبار رجال الأعمال على وسائل الإعلام  والابتعاد عن المعايير الاخلاقية في العمل الإعلامي من خلال محاور ثلاث، الأول،الإعلام الحر والمعايير الاخلاقية، والثاني، الإعلام الغربي والمعايير الأخلاقية في ظل الليبرالية الجديدة، والثالث، موقف الإعلام الغربي خلال الأزمة الأوكرانية والمعايير الأخلاقية.

المحور الاول، الإعلام الحر والمعايير الاخلاقية

في البداية أود أن أشير إلى أن مفهوم المعايير الأخلاقية التي ترد في هذه الدراسة، تعني الاعراف والقواعد غير المكتوبة، تنشأ وتتطور مع النشاط الاجتماعي للأفراد، وتحدد معايير السلوك للفرد دون وجود قواعد قانونية تضبط السلوك الإنساني، تقوم على التعاون والمساعدة الاجتماعية والنزاهة والاخلاص بالعمل المهني والشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، وهي أشمل من القواعد القانونية التي تنظم سلوك الفرد مع أفراد المجتمع ومؤسساته ويعاقب القانون على عدم الالتزام بها وخرقها لأنها ” المعايير الاخلاقية” تشمل واجب الإنسان تجاه غيره ومحيطة الاجتماعي والطبيعي وتوجه نواياه وأهدافه.

يمكن تكثيف ما تقدم بان المعايير الاخلاقية هي من تضبط الضمير الإنساني ذاتياً والذي لا يمكن ضبطه بقانون معين.

وفيما يتعلق المعايير الاخلاقية في العمل الإعلامي فأنهاتفترض التركيزعلى تناول الاخبار والحوادث التي تهتم بحياة الناس وتوفير أفضل الظروف لتطويرها نحو الأفضل؛ وإيلاء الأهتمام بالمسؤولية الاجتماعية؛ وتوفير الظروف المناسبة لحق الأطراف المختلفة للتعبير عن وجهة نظرها بحرية.

ولتحقيق المهام السابقة ينبغي على وسائل الإعلام الإلتزامبمجموعة من القواعد: 1. التناول الحريص لمصادر المعلومات 2.حماية الشرف والكرامة وعدم انتهاك الحياة الشخصية 3 . عدم تلفيق المعلومات، 4. المسؤولية الاجتماعية.

وقد حدد الباحث البريطاني (ماكويل) المعايير الأساسية لوسائل الإعلام التي ينبغي أن تلتزم بها في أثناء نقلها لقضايا المجتمع وهذه المعايير:

1. الالتزام بالمعايير المهنية في حال تغطيتها للأحداث، والتحقق من المعلومات مثل ( الدقة ، الحقيقة ، الموضوعية و التوازن ).

2. تجنب ما يمكن أن يؤدي إلى الجريمة و العنف و الفوضى الاجتماعية .

3. الالتزام بتعدد المصادر وتنوع الآراء و الالتزام بحق الرد والتنوع في المضمون بما يتيح فرصة الاختيار، وتجعل الفرد قادرا على تكوين آرائه و اتخاذ قراراته بناء على معلومات كافية ووجهات نظر متنوعة.

4. اهتمام الوسيلة بالعمل على منع التشويه والتحريف وزيادة الالتزام بالموضوعية والعدالة في تغطية النزاعات العرقية().

 بناء على ما تقدم، أشير إلى أن المعايير الأخلاقية، بشكل عام، يجري عليها تطور لتكون أكثر وضوحاً سواء من حيث قيمها الإنسانية أو من حيث الالتزام بها من قبل الأفراد لدى قيامهم بالأنشطة المختلفة. وفيما ما يخص العمل الإعلامي، يشكل الالتزام بالمعايير الأخلاقية، أحد أهم  متطلبات الاعلام الحر في الظروف المعاصرة لدوره الرئيس في تشكيل الرأي العام في المجتمع، بكون وسائل الاتصال المختلفة أصبحت، عادة حياتية وجزء هام من علاقة الإنسان اليومية بالعالم المحيط به. اضافة لذلك سهولة تفاعل الناس مع المعلومات التي تنقلها، بدون التفحص والتدقيق والنقد، فيصبح من السهولة تضليل المواطنيين واتخاذ مواقف تجاه الأحداث بناء على معلومات مفبركة لا تستند على وقائع حقيقية.

وفيما يخص علاقة الإعلام بالمعايير الإخلاقية، أشير إلى أن الإعلام الحر الذي يعتبر أحد اهم انجازات الليبرالية خلال فترة صعودها التقدمي، تطور نتيجة التزامه بالمعايير الإخلاقية، بحيث أصبح وسيلة رئسية بيد الشعوب لفضح الممارسات الاستبدادية التي تمارسها الأنظمة الدكتاتورية، وكسب تعاطف الرأي العام  وتحريك نشاطه للضغط على الحكومات لتلبية حقوق المواطنين. كما ان الاعلام الحر لعب دورا بالغ الأهمية للضغط على الحكومات الغربية التي مارست العدوان العسكري والإرهاب المتعدد الأشكال ضد البلدان التي تحاول أن تتتهج سياسية وطنية مستقلة تخدم شعوبها وتكافح الهيمنة الغربية على ترواتها وقرارها السياسي المستقل، وقد تجسد ذلك على سبيل المثال، بالضغط على الولايات المتحدة، لايقاف حربها ضد الشعب الفيتنامي وشعوب الهند الصينية في سبعينيات القرن الماضي، اضافة إلى انهاء بقايا السياسية الاستعمارية للدول الاوربية في أفريقيا، وكذلك انهاء سياسة التمييز العنصري في  زيمباوي “روديسيا  الجنوبية” وجنوب أفريقيا ومناصرة قضية الشعب الفلسطيني في نضاله لنيل حقوقه المشروعة وكذلك الوقوف مع الشعب الكوبي ضد الحصار والعقوبات الأمريكية التي فرضت عليه بعد انتصار الثورة الكوبية 1961. كما لعب الإعلام الحر دوراً مرثراً في اسناد كفاح حركات التحرر الوطني في كافة بقاع العالم.

 لقد  أفرز تطور الإعلام الحر جملة من المعايير الاخلاقية الرئيسية التي تلتزم بها  وسائل في تغطيتها للاحداث منها: أولا، الحقيقة والحيادية في عرض الأحداث، والثانية، الموضوعية في التحليل، والثالثة، نقل وجهات النظر المتعددة للمتلقى. إن الالتزام بهذه المعايير جعل وسائل الاعلام  تبتعد عن التضليل والدقة في نشر المعلومات التي يحصل عليها الصحفي دون تزييف واحترام حقوق الإنسان والدفاع عنها ضد الانتهاكات التي تتعرض لها.  وقد جرى تثبيت هذه المبادئ المهنية في الأنظمة التي تحكم عمل منظمات الإعلاميين في مختلف دول العالم، بحيث أصبح عدم الالتزام بالمعايير الاخلاقية في العمل الإعلامي يؤدي إلى المساءلة القانونية سواء للصحفي او للمؤسسة الإعلامية. لقد أدى هذا التطور في وظيفة وسائل الإعلام   في نشر المعلومات الصحيحة عن الأحداث إلى أن تثبت كثرة من الدول المتطورة في دساتيرها حرية الإعلام في الحصول على المعلومات، بعد تعاظم أهمية وسائل الإعلام في التأثير على حركة المجتمع  بما تملكه من تأثير ثقافي وسياسي واقتصادي، وبهذا أصبح يطلق على وسائل الإعلام ” سلطة رابعة” بعد ان أصحبت وسائل الإعلام  تعتمد في في عملها على تقديم  المعلومات الصحيحة والحقائق كما هي، وعرض الأخبار الصادقة بأمانة وموضوعية، والأفكار المتعددة والحوار الحر المفتوح، والالتزام بتقديم المصادر التي تستند عليها، وترك الحرية للمتلقي بالإقناع وتكوين الرأي واتخاذ المواقف من الاحداث والأفكار المعروضة.  

لقد اكتسب الإعلام الحر هذه المكانة بين السلطات نتيجة القيام بمهامه في مراقبة عمل السلطات وكيفية ممارستها لوظائفتها وكشف الأخطاء والسلبيات وتقديم الحلول لمعالجة السلبيات، اضافة لنقد الظواهر الاجتماعية السلبية والدفاع عن حقوق المواطنين، الامر الذي جعل من الإعلام الحر قادرا على تكوين رأي عام ضاغط على السلطات الحاكمة لتعديل سلوكها والقيام بالوظائف الموكلة لها في تحقيق مصالح المواطنين.

بمعني إن المعايير الأخلاقية التي اكتسبتها وسائل الإعلام الليبرالية، اعتمدت على مصداقيتها في نقل الأحداث وصدقية المصادر، بحيث أصبحث وسائل الأعلام مصادر أولية للمعلومات ذات قدر كبير من المصداقية.

ورغم أن تلك النجاحات، إلى انه كثير ما يجري خرقها أو الالتفاف عليها، بعد ان أصبحت وسائل الإعلام أداة في الصراع الإيديولوجي والسياسي بين القوى المتنفذة في الساحة الدولية للتعبير عن مصالحها الخاصة. ومما يسهل عملية الالتفاف على المعايير الاخلاقية للإعلام الحر، احتكارها من قبل قلة من كبار الرأسماليين، وتدخل المالكيين في إدارتها وتوجيهها، خاصة تلك  التي تمتلك تأثيراً كبيراً، كوسائل الاتصال الاجتماعي ().    

إن سهولة الوصول إلى وسائل التواصل الإعلامي الذي ينتج عنه تدفق هائل من المعلومات والاخبار التي يصعب التدقيق من مصداقيتها، وهيمنة الاحتكارات الإعلامية على شركات صناعة الأخبار ووسائل  البث الفضائي خلق واقعاً جديداً، أدى إلى محاصرة الإعلام الحر وصعوبة تدفق المعلومات التي ينشرها إلى المواطنين. إن هذا الواقع يؤكد ضرورة الالتزام بالمعايير الأخلاقية في النشاط الإعلامي الحر.

المحور الثاني، الإعلام الغربي والمعايير الأخلاقية في ظل الليبرالية الجديدة

أدى الكساد الكبير خلال 1928 ـ 1929 إلى نشوء أزمة اقتصادية واجتماعية نتج عنها زيادة مستوى الفقر والحرمان لفئات كبيرة من السكان نتيجة الركود الاقتصادي والتضخم وارتفاع تكاليف المعيشة والبطالة الواسعة، الأمر الذي دعى النخب الثقافية والفكرية والسياسية للتفكير بمعالجة نتائج الأزمة الاقتصادية والدعوة لتدخل الدولة لاعادة التوازن في مستوى الدخل والتخفيف من آثار الأزمة على العمال والكادحين والفئات الوسطى، فجرى تبني النظرية الاقتصادية الكينزية التي تدعو إلى ضرورة تدخل الدولة لضبط حركة السوق ومراقبة عمل الشركات والحد من سياستها الخاطئة التي قد تسبب ضررا للاقتصاد والمجتمع. إضافة إلى إدارة الدولة المباشرة للخدمات الاجتماعية الرئيسية في قطاعات الصحة والاتصالات والمواصلات والتعليم.

جرى التخلي عن المعاييرالاقتصادية والاجتماعية التي تميزت فيها الليبرالية الكلاسيكية وتطبيق أفكار النظرية الاقتصادية الكينزية في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من الدول الرأسمالية الأوربية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 حتى أواسط السبعينييات من القرن الماضي. ونتج عن ذلك، في المجال الاجتماعي، ظهور دولة الرفاه الاجتماعي في العديد من الدولة الرأسمالية الغربية، وإزدهرت بشكل خاص في دول شمال أوربا، تحت تأثير قوة المنظمات العمالية والحركات الاجتماعية والسياسية المطالبة بالعدالة والمساواة والمنافسة مع المعسكر الأشتراكي.

 لقد عارض التيار الليبرالي المحافظ  تدخل الدولة في النشاط  الاقتصادي وقدم مفكروه العديد من الذرائع، جوهرها يقوم على ذريعة إن تدخل الدولة يؤدي إلى الحد من حرية نشاط المستثمرين، واستطاع هذا التيار من التأثيرعلى النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وبريطانيا، التي قامت بتطبيق الأفكار طرحها أبرز منظريه، البروفيسور فريدريك فون هايك وتلميذه ميلتون فريدمان من جامعة شيكاغو( اللذان طالبا بالعودة إلى الرأسمالية الكلاسكية والتخلي عن الكينزية، بنقل مسؤولية تنظيم الاقتصاد من الدولة إلى الشركات الكبرى وخصخصة القطاعات الحيوية التي تملكها وتديرها الدولة ونقل ملكيتها إلى القطاع الخاص وتخلى الدولة عن سياسة الرفاه الاجتماعي وتقليل الإنفاق الحكومي لتعزيز دور القطاع الخاص().

لجأت الليبرالية الجديدة ونخبها الحاكمة إلى الإعلام  ليقوم بمهمة التضليل على نهجها الساعي للتخلي عن سياسة الرفاه الاجتماعي ودور الدولة في تحقيقه والترويج لسياستها الاقتصادية والاجتماعية الجديدة الخالية من المعايير الاخلاقية، التي تقوم على حرية الأسواق وحرية انتقال البضائع والخادمات ورأسمال، على الصعيدين الوطني والدولي، بدون رقابة من المجمتع، اضافة إلى استخدام القوة لفرض سياستها في العالم.

لقد جوبه النهج السابق بمعارضة واسعة من قبل منظمات المجتمع المدني ونقابات العمال والاحزاب الإشتراكية والديمقراطية، لذلك ازدادت حاجة النخب الحاكمة إلى وسائل الإعلام لتقوم بمهمة إدارة الرأي العام لتحقيق هدفين، الأول، اضعاف قوى المعارضة لنهج الليبرالية الجديدة، والثاني، رضوخ الرأي العام لسياسة السلطات الحاكمة، على الرغم بعدم قناعته، من خلال خلق مخاوف وهمية، التهديد الشيوعي، الخطر الإسلامي، الإرهاب الخارجي، التحدي الصيني، التهديد الروسي بعد شن الحرب ضد أوكرانيا (). وهذه الأهداف لا تتحقق بدون السيطرة المباشرة على وسائل الإعلام عن طريق توسيع الاستثمارات المالية، فقام رجال الأعمال المرتبطين بالنخب الليبرالية الحاكمة بشراء عدد من وسائل الإعلام الكبري في عدد من البلدان الرأسمالية، فأصبح الإعلام المعولم يمثل قوة اقتصادية كبيرة حيث ” بلغت استثمارات صناعة المعلومات تريليوني دولار عام 1995، وفي نهاية القرن (عام 2000) بلغت 3 تريليونات دولار، بعد إن كانت هذه الاستثمارات لا تتجاوز 350 مليار دولار عام 1980″ () . وخلال الفترة اللاحقةشهدت الاستثمارات قفزة كبيرة، فقد زادت استثمارات الإعلام والإعلان على مستوى العالم بنسبة 5.6 بالمئة في 2020، مقارنة بالعام السابق، حيث وصلت الاستثمارات إلى 605 مليار دولار().

لقد ضمنت هذه الاستثمارات سيطرة الطغم المالية المباشرة على وسائل الإعلام، الصحف الكبرى واهم الشبكات الإعلامية ووكالات الأنباء، وتوجيهها لخدمة مصالحها(). كذلك تمت السيطرة غير المباشرة، على وسائل الإعلام، من خلال تحكم الشركات الكبرى بمصادر التمويل الذي يأتي من الاعلانات التي من المستحيل أن تستطيع وسائل الإعلام الاستمرار بالعمل بدونها، وهذا يعني أنه من غير الممكن أن تسمح الشركات الكبرى بنشر توجهات تخالف مصالحها، وبالتالي ازدهاروسائل الإعلامالصفراء التي تعتمد على الإعلان كمصدر اقتصادي رئيسي().

ولم تسلم الصحف المستقلة من الأحتواء من قبل الشركات الإعلامية الكبرى ورجال الإعمال، فصحيفة Liberation الفرنسية ذات الاتجاه اليساري تخضع حاليا لمجموعة روتشيلد المصرفية وصحيفة Le Figarou   الفرنسية اليومية أصبحت مملوكة لمجموعة داسو الصناعية(). وكذلك صحيفة الاندبندنت التي أشتراها الملياردير الروسي ألكسندر ليبيديف().

طبعا سيطرة كبار الرأسماليين على وسائل الإعلام لم تقتصر على الدول الغربية؛ بل شمل الدول الرأسمالية في أسيا، على سبيل المثال، استحواذ مجموعة «أداني غروب» على شبكة «نيودلهي تليفيجن» الإعلامية البارزة التي يمتلكها الملياردير غواتام أداني، الذي يعد ثالث أغنى شخص في العالم().

تكثيفاً، أصبحت صناعة الرأي العام من المهام الرئيسية  لوسائل الإعلام في عصر العولمة ” بمعنى جعل الرأي العام يوافق على أمور لا يرغبها بالأساس عن طريق استخدام وسائل دعائية”()، إن هذا التوجه من وسائل الإعلام يتعارض مع أهم المبادئ الاخلاقية التي يستند عليها الإعلام الحر، في عرض المعطيات للرأي العام عن الأحداث وتترك له حرية تكوين الموقف.

بعض مظاهر تخلي الإعلام الغربي عن المعايير الأخلاقية

ـ انساق الإعلام الغربي، في ظل نظام القطبية الواحدة، وراء النظريات والأفكار المتعصبة لمفكري الليبرالية الجديدة، حول آفاق التطور العالمي،  من خلال التناغم ” أي الإعلام الغربي” مع نظرية نهاية التاريخ، التي أعلنت انتصار الحضارة الغربية ونموذجها السياسي التي يجب أن يسود في كل مكان، سواء بالفكر والسياسة أو بالقوة أذا تطلب الامر وبالتالي اعطاء لكل ما غربي صبغة عالمية. والترويج لنظرية ” الفوضى الخلاقة” كطريق لتحقيق الديمقراطية من خلال تفكيك الدول الوطنية واعادة بنائها بشكل يخدم  الهيمنة الغربية.

وفيما يخص تنوع الثقافات لدى الشعوب، ساهم الإعلام المعولم بنشر مفاهيم الكراهية والحقد، بدل المحبة والتسامح والسلام وتعميم المعرفة والمعايير الاجتماعية والثقافية الإيجابية والتعريف بثقافة الشعوب والتعاون المشترك القائم على التنوع والاعتماد المتبادل لخير البشرية، مستلهما أفكاره من نظرية صراع الحضارات العنصرية، لصومائيل هنتغون، التي قسمت العالم إلى ثقافات متصارعة غير قابلة للتعايش المشترك، تتصارع فيما بينها من أجل التفوق، مؤكداً الغلبة في هذا الصراع لصالح الثقافة الغربية.  

ـ لقد أدت سيطرة كباررجال الأعمال المرتبطين بعلاقات وثيقةبالنخب السياسية الحاكمة في الدول الرأسمالية على وسائل الإعلام، إلى ظهور نوع جديد من وسائل الإعلام الجماهيري، الإعلام التجاري السياسي، الذي يقدم الترفيه المجاني الشيق الممول من كبار رجال الأعمال وبنفس الوقت تسويق سياسة الليبرالية الجديدة من خلال تبني التفسيرات التي تقدمها السلطات الحاكمة حول قضية معينة، خاصة بعد نشوء الإعلام الفضائي، حيث أصبحت الفضائيات أداة للتنشئة السياسية تهدف إلى تخطيط السلوك السياسي والمواقف الاجتماعية والثقافية وبالتالي أصبحت أداة ” مثالية في صناعة الثقافة القمعية التي تضمن سيطرة القيم الاجتماعية والاستهلاكية الرأسمالية”(). إن هذا التحول شكل نهاية الإعلام المستقل، وبالتالي ابتعاده التدريجي عن المعايير الأخلاقية الذي تعمق في ظل نظام القطبية الواحدة.  

ـ  تسويق النموذج الأمريكي للديمقراطية، باعتباره المثال الذي ينبغي الاقتداء به من المجتمعات التي تتخلص من السلطات الاستبدادية والتغاضي عن الكوارث التي  نتجت عن فرض تطبيقها في بلدان تختلف فيها البيئة الثقافية والاجتماعية كالعراق، على سبيل المثال، الذي جرى فيه تسويق مفهوم ديمقراطية المكونات، الطائفية القومية. كما روجت وسائل الإعلام المعولم لمفهوم مزيف عن الديمقراطية يقوم على اختزالها بجانبهاالسياسي، وأهمال جانبها الاجتماعي الذي يعرقل غيابه قدرة الفئات الاجتماعية الكادحة والفقيرة من التمتع الفعلي بالديمقراطية، وبالتالي السماح لقلة من المجتمع متمثلة بالإغنياء لإدارة العملية الديمقراطية بما يوفر استمرار سيطرة هذه الفئة على السلطة عبر الشرعية الإنتخابية. هذا جانب ومن جانب آخر نلاحظ ترويج وسائل الإعلام المعولم لدول معينة، باعتبارها نموذجا للديمقراطية، كدولة إسرائيل، على سبيل المثال، بهدف التغطية على إرهاب الدولة الذي تمارسة ضد الشعب الفلسطيني وجيرانها من الدول العربية، بينما يجري تشوية تجارب ديمقراطية لا تطبق النموذج الغربي، كتجربة الصين الشعبية وكوبا وفنزويلا، على سبيل المثال، التي نجحت، رغم بعض النواقص في الجوانب السياسية، في توفير قدر معقول من العدالة الاجتماعية في مجتمعاتها من خلال اعطاء الديمقراطية بعدها الاجتماعي.

ـ الترويج للأكاذيب التي تطلقها السلطات الرسمية في الدول الرأسمالية، بخصوص الكوارث البيئية والأزمات التي تواجه البشرية. وهنا نذكر مثالا لهذه الأكاذيب عن جائحة كورونا، حيث تم الترويج لأكاذيب الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب، حول الجائحة التي بلغت(400) كذبة حسب جريدة الغارديان البريطانية(). كما تمثل الموقف اللاخلاقي للإعلام الرأسمالي بعدم تسليط الأضواء على كيفية تعامل الدول الرأسمالية اللا إنساني مع الجائحة الذي اتسم بنظرة وطنية ضيقة بدلاً من التعاون الدولي، إضافة إلى الأنانية غياب العدالة في توزيع اللقاحات واللوزام الطيبة، التي حصلت الدول الغنية على الحصة الأساسية منها في حين تركت الدول الفقيرة تواجه الجائحة بامكاناتها المحدودة، وحرمان ملايين الناس من تلقي اللقاح.

عموما روجت كثرة من وسائل الإعلام المعولم للموقف الإيديولوجي للنخب الحاكمة في الدول الغربية الكبرى من الجائحة، وقد عبر عن ذلك، أنتوني فاوتشي، مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية الأميركي بقوله: تأثرت القرارات المتعلقة بتدابير الصحة العامة مثل ارتداء الأقنعة والتطعيم بلقاحات فعالة وآمنة للغاية، بمعلومات مضللة والآيديولوجيات السياسية().

ـ إخفاء الحقائق عن موقف الرأي العام من قضايا معينة، وبهذا الصدد يشير الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي، إلى ان الإعلام الأمريكي لم يشر إلى نتائج الاستفاءات التي قامت بها مراكز الأبحاث عن أكثر الدول تهديدا للسلام العالمي والتي أظهرت بأن الخطر الأكبر يأتي من الولايات المحتدة(). كما يجري التعتيم على المعاناة الهائلة للناس في مناطق الصراع كما في فلسطين وسوريا واليمن وشرق أفريقيا وغيرها من الدول التي تعرضت لكوارث طبيعية، مقابل ذلك تجري تغطية واسعة للمعاناة الأوكرانية، وقد انتقدت أزدواجية المعايير في الإعلام الغربي،آمي فيشر»، من «منظمة العفو الدولية بالقول: بأنه من الواضح أنه لا توجد طريقة للاهتمام بهؤلاء اللاجئين الذين «يغلب عليهم السواد»، بخلاف الأوكرانيين الذين يتصدرون عناوين الصحف الرئيسية لمجرد وجوههم البيضاء” ( ).  

ـ يركز الإعلام الغربي على النتائج وليس على الأسباب، على سبيل المثال عندما يتطرق إلى الزيادة الهائلة في اعداد اللاجئين والمشردين والنازحين في العالم، لا يتناول الأسباب التي أدت إلى هذه الزيادة، الناتجة عن عدم التكافؤ في العلاقات الاقتصادية بين الدول الغنية والفقيرة، والعقوبات الاقتصادية والغزو الغربي لبعض البلدان، والتدخل الغربي، في الشؤون الداخلية للدول الوطنية، اضافة إلى الاستبداد السياسي.  وكذلك فيما يخص تناول ظاهرة الإرهاب، حيث نلاحظ تغطية واسعة للأعمال الأرهابية التي تقوم بها المنظمات المتطرفة، في حين يجري التعتيم على الأسباب الموضوعية لنشوء هذه الظاهرة، التي تشترك في كثير منها، مع أسباب زيادة اعداد اللاجئين والمشردين، اضافة إلى أسباب أخرى تتمثل، بنمو اليمين المتطرف في البلدان الغربية، وتوفر بيئة آمنة للعناصر الإرهابية في الدول الغربية، والمساهمة المباشرة في تأسيس المنظمات الإرهابية وتقديم مختلف أشكال الدعم لها().

كما ينساق الإعلام مع ادعاءات الموقف العنصري  لليمين المتطرف من قضية اللاجئين وتحميلهم مسسؤلية البطالة وانتشار الجريمة والعنف في المجتمعات الغربية في حين يختلف الموقف من اللاجئين الأوكرانين حيث لاحظنا نظرة تتسم بالعنصرية حيث تردد وسائل الإعلام الغربية: عبارة كيف يحدث ذلك لمواطنين أوروبيين بيض البشرة ويمتلكون سيارات، وليسوا من مواطني الشرق الأوسط أو أصحاب البشرة السمراء؟»().

ـ الموقف اللا اخلاقي من المخاطر التي تهدد البشرية نتيجة التغيير المناخي كتلوث البيئة ومشاكل التصحر والجفاف والكوارت الطبيعية، والتي أصبحت احد أهم اهتمامات الرأي العام العالمي بفضل تسليط وسائل الإعلام الحرعليها، حيث نلاحظ، في الآونه الأخيرة، ليس تراجع اهتمام الإعلام  الغربي بمخاطرها فقط؛ بل عدم انتقاد موقف الدول الغربية ومساعيها لتخريب التعاون العلمي الدولي، حيث تم قطع التعاون العلمي بين الدول الغربية وروسيا، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي لا يمكن الاستغناء عنه حسب رأي العلماء الغربيين().

ـ الموقف من قضية السلام والحرب وسباق التسلح

لقد خاضت البشرية صراعات وحروب أدت إلى خسائر بشرية ومادية هائلة، إلى أن تمكنت قوى السلام ومن ضمنها الإعلام الحر من التوصل إلى مبدأ التعايش السلمي بين المعسكرين المتصارعين، الإشتراكي والرأسمالي في سبعينيات القرن الماضي، ولكن بعد انهيار المعسكر الإشتراكي أصبح الموقف من قضايا السلام والحرب وسباق التسلح، يحتل أهمية ثانوية من اهتمامات الإعلام المعولم، على الرغم من المخاطرالكبيرة التي تهدد السلام العالمي في ظل نظام القطبية الواحدة. وهذا ما تدلل علية العديد من المعطيات، منها:

تراجع دور القطبية الواحدة في حل الأزمات والمخاطر التي تهدد السلام العالمي، نتيجة انتشار الحروب الأهلية في معظم القارات والتي تبلغ (54) نزاعا مستمرة لحد الآن().
زيادة سباق التسلح على المستوى العالمي حوالي 100%  خلال العشرين سنة الأخير حيث ارتفع الإنفاق على التسلح من (1.1) ترليون دولار عام 2000 إلى (2.113)  ترليون دولار عام 2022، منها 800 مليارإنفاق الولايات المتحدة ().
تراجع دور الرأي العام المعارض للحرب واستخدام القوة في العلاقات الدولية

إن سبب ذلك يعود إلى الدور الذي لعبه الإعلام المعولم من خلال الترويج للفكرة التي تزعم بأن الحروب التي تشنها الولايات المتحدة والدول الغربية المتحالفة معها، هدفها درء المخاطر الخارجية والدفاع عن المصالح الوطنية والقيم الغربية، لذلك لم تلاحظ معارضة فعالة من قبل الرأي العام للغزو والتدخل العسكري في عدد من البلدان، من قبل التحالف الغربي، بالمقارنة مع الحرب الفيتنامية على سبيل المثال.

المحور الثالث، موقف الإعلام الغربي خلال الأزمة الأوكرانية والمعايير الأخلاقية

في البداية أشير إلى أنه ليس هناك مبررات أخلاقية إلى لجوء روسيا إلى الحرب كوسيلة لحل المشاكل بينها وبين أوكرانيا والدول الغربية، باعتبارها حرب بين الدول الرأسمالية من اجل المصالح الخاصة واعادة توزيع مناطق النفوذ بالقوة بين روسيا والدول الغربية.

بعد إندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بقليل، ظهر اتجاهان لإنهاء الحرب، الاول، الضغط من أجل إيقاف الحرب عن طريق المفاوضات، والاتجاه الثاني، مواصلة القتال حتى سقوط ” آخر أوكراني” وتوقع المواجهة النووية حسب تصريح، تشارلز فريمان، السفير الأمريكي السابق في السعودية(). وكان يبدو ان الاحتمال الأول، قابل للتحقيق، عندما توصل الطرفان الروسي والأوكراني إلى وثيقة قدمها الوفد الأوكراني، في اجتماع وزيري الخارجية الروسي والأوكراني في اسطنبول، بعد أقل من شهرعلى بداية الحرب، تنص إلى حيادية أوكرانيا  مع ضمانات دولية وحل قضية الدونباس من خلال المفاوضات وتأجيل النظر بقضية شبه جزيرة القرم لفترة طويلة وانسحاب القوات الروسية. وقد تخلى الجانب الأوكراني عن مسودة الاتفاق ورفض مواصلة المفاوضات، بطلب من الولايات المتحدة وبريطانيا، مقابل تقديم الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا لمواصل القتال وهزيمة روسيا، وبالتالي السير بالاتجاه الثاني، الذي أدى إلى نتائج كارثية على على الوضع الدولي.

إن دعم الاحتمال الثاني لتطور الحرب الروسية الأوكرانية من قبل الولايات المتحدة وأغلب التحالف الأطلسي، يرجع إلى طبيعة النخب الحاكمة التي تسعى لخدمة كبار رجال الأعمال التي تزيد ثرواتهم عبر زيادة الانفاق العسكري ولا يتم تحقيق ذلك إلا عبر تشجيع الحروب التي يخلق حالة من التوتر على الصعيد الدولي وبالتالي نشوء بيئة، تزداد فيها الحاجة إلى المعدات العسكرية، وهذا ما نلاحظه، بشكل خاص، في ظروف الحرب الروسية الأوكرانية حيث بلغت المساعدات المدنية والعسكرية من دول حلف الأطلسي 120 مليار دولار في عام 2022 وتعهدات أولية بقيمة 57.6 مليار دولار لعام 2023()، اضافة إلى زيادة كيبرة في الإنفاق العسكري للدول الرئيسية في التحالف الغربي” الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا”().

من بديهيات المعايير الأخلاقية ان تقوم وسائل الإعلام بتسليط الضوء على أهمية الحل السلمي والأسباب التي تعرقل المفاوضات وتخلي أوكرانيا عن وثيقة الحل السلمي التي قدمتها؛ وبدلا من هذا التوجه الأخلاقي وقت الأزمات التي تهدد السلم العالمي، تماهي الإعلام المعولم مع الخطاب الرسمي للحكومات الغربية واصبح مروجاً لخطاب الحرب الذي يقوم على تقديم المزيد من الأسلحة من أجل استمرار الحرب، والمساهمة بتدجين المواطنين في الدول غربية، لقبول ما لا يرغبون به، من خلال التهويل من الخطر الروسي، بتغطية إعلامية ضخمة لانجد فيها عبارة واحدة تدعو لتحقيق السلام عبر المفاوضات؛ بل يجري الترويج لفكرة استمرار الحرب يؤدي إلى تحقيق النصر على روسيا، متغاضيا عن أن هزيمة دولة نووية بالحرب التقليدية، يزيد من مخاطر احتمالات مواجهة نووية. سنلقي الأضواء على ابتعاد الإعلام المعولم عن المعايير الاخلاقية من خلال المعطيات الآتية:ـ

ـ تسويق الحرب الروسية الأوكرانية، بأنها حرب ضد الديمقراطية، وليس محاولة إعادة تقسيم النفوذ بالقوة، الذي كان قائماً على التراضي بين روسيا والدول الرأسمالية الغربية. وبهذا الموقف تماهي الإعلام الغربي مع موقف الدول الغربية الذي يعتبر الحرب الروسية في أوكرانيا نزاعاً وجودياً بين الديمقراطية والاستبداد، وتقسيم دول العالم إلى دول استبدادية أو ديمقراطية بناء على موقفها من الحرب، فالدول التي لا ينسجم موقفها مع الموقف الغربي من الحرب وأسبابها، جرى وصفها بالاستبدادية، على الرغم من أن هذه الدول، كروسيا والصين، لم يجر أي تغيير على طبيعة نظامها السياسي وأسلوب ممارسة النخب الحاكمة للسلطة، وكانت توصف من قبل بأنها دول ديمقراطية.

ـ أهملت وسائل الإعلام الغربية، مناقشة الأسباب الموضوعية للأزمة الأوكرانية، التي تتعلق بعدم مصداقية الغرب بايفاء تعهداته بعدم توسع حلف الاطلسي شرقاً باتجاه الحدود الروسية، حسب اتفاقية بودابست 1996، وتنفيذ اتفاقية مينسك لحل قضية إقليم الدونباس(). إن معرفة هذه الحقائق تساعد على خلق رأي عام متوازن رافضا للحرب وبنفس الوقت يضغط على السلطات الحاكمة لايقافها عبر المفاوضات للتوصل إلى تسوية سليمة دائمة تاخذ بنظر الإعتبار الأسباب التي أدت إلى نشوبها، وليس هزيمة روسيا وهو الشعار الذي أصبح ” النغمة اليومية ” للنخب الحاكمة في البلدان الغربية وإعلامها.

ـ غابت عن الإعلام المعولم الدعوة للسلام وايقاف الحرب وتشجيع المفاوضات، وسادت بدلا عن ذلك سياسة الترويج لفكرة أن هزيمة روسيا في الحرب سيؤدي إلى إبعاد الخطر الروسي عن الدول الغربية، وهذا يتطلب تقديم المزيد من الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا، متناسياً ” أي الإعلام”  إن هذا النهج يؤدي إلى استمرار الحرب  لفترة طويلة وتزايد احتمالات تطورها إلى حرب عالمية.

ـ الإهمال المتعمد للنتائج الكارثية التي سببتها الأزمة الأوكرانية، للفئات الفقيرة والكادحة في الدول الغربية، المتمثلة بغلاء متطلبات المعيشة لأغلبية المواطنين، بسبب زيادة اسعار المواد الغذائية والخدمات وارتفاع نسب التضخم وانهيار القدرة الشرائية للفئات الأقل ثراء. وللحد من تذمر المواطنين، تردد وسائل الإعلام أطروحة النخب الحاكمة التي تزعم: إن للحرية ثمن ().

ـ كما كشفت الحرب الروسية الأوكرانية، المعايير المزدوجة التي يتناول فيها الإعلام الغربي قضية مكافحة الجوع في كثرة من الدول، حيث يشهد العالم انعدام الأمن الغذائي الحاد الذي ارتفع من 135 مليوناً عام 2019، إلى 345 مليوناً عام 2022(). ففي الوقت الذي أوقفت فيه المنظمات الإنسانية أعمالها في تقديم الأغذية إلى ملايين الجوعى في الدول الأفريقية والأسيوية، بسبب عدم توفر الأموال اللازمة لشراء الأغذية، تقدم الدول الغربية عشرات المليارات من الدولارات إلى أوكرانيا لتمويل الحرب، في حين لم تقدم مساعدة للدول الفقيرة التي عانت أكثر من غيرها من نتائج الأزمة الأوكرانية، بسبب زيارة أسعار الطاقة والمواد الغذائية، على الرغم من تحذيرات منظمة الأغذية والزراعة الدولية من زيادة المجاعة على مستوى العالم بعد الأزمة وبدلاُ من تسليط الأضواء على حقيقة موقف الدول الغربية من قضية المجاعة،روجت وسائل الإعلام المعولم إلى أن الأزمة الأوكرانية هي سبب المجاعة(). وقد علق على هذا الموقف رئيس المكسيك، أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، بالقول: إن الولايات المتحدة لم تستطع توفير حوالي 4 مليارات دولار لتنمية دول أمريكا الوسطى، لكنها وفرت 65 مليار دولار ،( في وقت التصريح) ، منها 17 مليار معدات عسكرية، لمساعدة أوكرانيا ().

ـ لقد وقف الإعلام المعولم موقفاً لا اخلاقيا من الانتهاك الفاضح لكل القيم والمعايير الليبرالية عن حرية الرأي والتبادل الحر للأفكار بين الشعوب، وحماية الاستثمارات الأجنبية وحرية تنقل الأفراد والبضائع وحرية الأسواق والتجارة الحرة، وهي الأسس الرئيسية للعولمة الرأسمالية التي جرى تثبيتها باتفاقية دولية ” الجات ” التي تعتبر القاعدة القانونية التي تنظم مبدأ حرية التجارةالعالمية، حيث لاحظنا تجاهل الإعلام الغربي للعقوبات غير المسبوقة على روسيا، وحجز أموالها في الدول الرأسمالية والتي تقدربأكثر من 300 مليار دولارا أضافة إلى عشرات المليارات لمواطنين روس، وكلها اجراءات تتعارض مع مبادئ العولمة.

ـ   تماهى كثير من الإعلاميين والصحف الليبرالية الكبرى مع مضامين الإعلام المعولم، الذي اتسم  بوحدانية الرأي في تناول أسباب ومجرياتها الحرب الروسية الأوكرانية، نتيجة حرمان المتلقي من الوصول للرأي والرأي الآخر، الذي يعني حرمان الجمهور من حرية الاختيار بين الآراء المختلفة، الامر الذي يعني تجاوزا للمعايير الأخلاقية التي ميزت مسيرة الإعلام الليبرالي الحر، بحيث أصبحث حرية التعبير سلعة تخضع للعرض والطلب كما يقول أيلون ماسك  بعد شرائه شبكة تويتر().  

أخيراً، أفرزت تغطية الإعلام الغربي للحرب الروسية الأوكرانية كثير من الظواهر التي لا تنسجم مع المعايير الأخلاقية للعمل الإعلامي ومنها:

انتشار ظاهرة ” الفوبيا” من الروس، بحيث أصبحت الأصوات العنصرية، تلقى التشجيع وليس الشجب، مثلما جرى التعامل مع تصريح، توماس فريدمان، الذي طالما تغنَّى بحرية الرأي ومفاهيم الليبرالية، أن يطالب بطرد الأطفال الروس من مدارسهم في سويسرا وغيرها، بحجة الضغط على حكومة بلادهم (). وهذا الموقف هو تكرار للموقف من الإسلام بعد 11سبتمبر حين تمالترويج للفوبيا من الاسلام من خلال الخلط المتعمد بين حقيقة مبادئ الدين الإسلامي والتفسير المتطرف للجماعات الجهادية لتبرير نهجها وأعمالها المتطرفة.

ـ الفبركة والتزييف لحوادث مروعة ارتكبها الجيش الروسي لكسب الرأي العام لقبول العقوبات الاقتصادية ضد روسيا والنتائج السلبية التي تنتج عنها، وبنفس الوقت تأييد تقديم المساعدات الضخمة إلى أوكرانيا بدلا من تقديم المساعدة للمواطنين لتخفيف آثار العقوبات على تدني مستوى المعيشة الناتجة عن التضخم وارتفاع الأسعار().

ـ روج الإعلام الغربي إلى معاداة روسيا في الفضاء العام من خلال التحريض ضد كل ما هو روسي كاللغة والثقافة الروسية وحتى الرياضة التي تعتبر بعيدة عن السياسة، باعتبارها وسيلة تعارف ومحبة بين الشعوب، اضافة إلى التحريض لاستخدام العنف ضد الروس، عسكريين ومدنيين، وكل ما يمت بصلة بالشعب الروسي، بشكل لم يسبق له مثيل في حالة الازمات والصراعات العسكرية بين الدول التي حدثت سابقاً.

ـ الإنحياز الواضح لسياسة السلطات الأوكرانية، سواء فيما يتعلق بتغطية مجريات الحرب، حيث تجري التغطية الواسعة لمواقف وسياسة الحكومة الأكرانية، في حين يجري التعتيم على الموقف الروسي، كما يتم التغاضي عن استهدافها للمدنين مقابل تضخيم السلوك الروسي من هذه القضية، أو فيما يتعلق بالتغطية على فساد الحكومة الاوكرانية الذي قال عنه، بيل غيتس انها ” واحدة من أسوأ الحكومات في العالم. إنها فاسدة ويسيطر عليها عدد قليل من الأثرياء. وهذا أمر محزن للغاية بالنسبة للشعب هناك”().

خلاصات

1.إن الحديث عن المعايير الأخلاقية يحتل ضرورة قصوى، نظراً إلى الانفلات الكبير للذاتية المفرطة التي تعتبر تحقيق المصلحة الخاصة المعيار الوحيد في الحياة، وتدعو إلى التخلي عن أية معايير إنسانية تقوم على العدالة واحترام حق الإنسان في حياة حرة كريمة.

وبخصوص التزام وسائل الإعلام بالمعايير الأخلاقية، فإنه يحتل أهمية في  الظروف الراهنة، نظراً لتسارع التطور التكنولوجي الذي يسمح بسهولة تغيير وتزييف الوقائع والأحداث واختلاق بدائل لها تتناسب مع المصالح الخاصة لفئات معينة، إضافة إلى تسارع وقع الحياة اليومية، والإرهاق الذي يصيب الفرد بسبب  صعوبات الحياة الناتجة عن الجهود التي يبذلها لتدبير وسائل العيش اليومية. إن كل ذلك يترافق مع تراجع الوعي وشيوع ثقافة الإنترنت الذي يشمل فئات واسعة من المواطنين، بما فيهم المثقفين، الامر الذي يؤدي إلى سرعة التصديق بالمعلومات التي تبثها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة.

2. إن لجوء الليبرالية الجديدة ومفكريها إلى للكذب والتضليل يشير إلى أن سير التطور العالمي خلال نظام القطبية الواحدة، أكد عدم مصداقية اطروحتها حول نهاية التاريخ وانتصار أيديولوجيتها على المستوى العالمي.

3. تغيرت مهمة وسائل الإعلام في ظل نظام القطبية الواحدة، فبدلاً من عرض الأحداث وتحليلها بهدف تمكين الجمهورمن الاطلاع على التطورات والمستجدات، إلى مهمة التواصل الذي يهدف فيه الإعلام إلى التفاعل مع الحدث من خلال التقنيات التي تضاف إلى شكل الحدث بعد التلاعب بمحتواه، بحيث أصبح الترويج للأخبار الزائفة المدعومة من الجيوش ” الالكترونية” حالة شائعة في أغلب وسائل الإعلام، الامر الذي ادى تراجع  ثقافة التحقق من الأخبار المتداولة قبل التصديق بها والتفاعل معها.  

4. إن تخلي وسائل الإعلام الغربية عن رسالتها الإنسانية والمعايير الإخلاقية للإعلام الحر، أصبح واضحاً، بإنحيازها خلال الأزمة بين أوكرانيا وروسيا، وأدى ذلك إلى اضعاف مستلزمات التوصل إلى حلول وسط  لحل الصراع الروسي الاوكراني عن طريق المفاوضات، بحيث نجد من الصعوبة التفريق بين الإعلام الحربي والإعلام الحر الذي غالباً من يروج إلى التوصل للحلول السلمية لانهاء الأزمات والنزاعات العسكرية بين الدول.

5. يظهر ابتعاد الإعلام الغربي عن الاستقلالية، خلال الأزمات التي تهدد مصالح النخب الرأسمالية الحاكمة أو الصراعات التي تنشب بين المراكز الرأسمالية الدولية، من خلال فرض الرأي الواحد والحوار المغلق، وهذا ما لاحظناه خلال الحرب الروسية الأوكرانية حيث اشتركت وسائل الإعلام في الهوس الإيديولوجي للنخب الحاكمة حول الحرب وأسبابها وكيفية انهاءها، والإنخراط بالترويج لسلوك الدول الغربية ضد الشعب الروسي والدول التي تحاول أن تقف على الحياد من صراع الإحتكارات الرأسمالية في الأزمة الأوكرانية.

6. لقد أكدت الحرب الروسية الأوكرانية، ابتعاد وسائل الإعلام المعولم عن بديهيات المعايير الأخلاقية، في تغطيتها لأسباب الحرب ومجرياتها ومخاطر استمرارها على السلام والتعايش السلمي بين الشعوب، عندما أصبحت وسائل الإعلام في خدمة وجهة النطر الغربية من الحرب فأصبح الإعلام صورة مطابقة للعمليات النفسية الدعائية، وبما ينسجم مع المزاعم  والدعاية السياسية للحرب، وبما يشبه الموقف من الإرهاب عقب تفجيرات الحادي عشر من أيلول2001.

أحدث المقالات