من القنوات الفضائية المفَضلة لدي ، قناة (ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي) ، و(Quest عربية( ، لأنها غير مألوفة في عالم (الستلايت) ، فهنالك أكثر من 1000 قناة ، تلك التي يزخر بها (النايل سات) ، فتصفحت أكثر من 200 محطة ، لم تستأثر إهتمامي ولا واحدة ، كنت أتنقل فيها من الحروب والدمار ، إلى الطائفية ، والتهديد ، وأخبار النزوح ، واللجوء ، وفنون الطبخ ، خطابات دينية متشنجة ، أفلام مصرية مكررة ، أزمات إقتصادية ، دجل وشعوذة ، حزورات سخيفة ، أعلانات حد التّخمة ، وأعتقدت إني وجدتُ ضالتي في تلكم القناتين ، لأنها تتحدّث عن العلم وأسرار الطبيعة ، وتقارير الغموض ، ومواضيع تثير الفضول ، فوضعتها في أعلى سلّم قنواتي المفضلة في جهاز الإستقبال خاصتي ، كونها استأثرت إنتباهي ، وهنا تكمن المشكلة ! .
أتحدّث هنا عن أوسع وسائل الإعلام الشعبية إنتشارا ، فتدخل كل البيوت وفي طياتها الألغام والحرب النفسية وطُعما شهيا يبتلعه المشاهد ، فتشد الإنتباه والمتابعة ، بعد ذلك يأتي دور (شطحات) هذه القنوات بما فيها من حرب نفسية وغسل للأدمغة ، من خلال فقرات عديدة تمجّد الآلة العسكرية الأمريكية بكل ما بها من تهديد مبطّن ، وكيف إنها أسلحة لا تُقهر.
تعرض هذه القنوات أيضا مآثر وتدريبات الجيش الإماراتي (!!) ، بقيافاتهم الأنيقة التي لم تمسّها ذرة من غبار الميادين ، وفصائل (سوات) خاصتهم ، قناة MBC تعرض بطولات الجرحى الإماراتيون والسعوديون ، وكلّهم بمنتهى الإنسانية والمهنية والشجاعة ، كلهم إصرار على مقاتلة (العدو) لأنهم على (حق) ، ولكن أي عدو يقصدونه ؟! ، فعدو الإنسانية واضح وضوح الشمس ، إنه داعش وإسرائيل وأمريكا ، المعسكر الواحد ، اليس كذلك ؟ ولكن هذا آخر ما يقصدونه ! ، فعدوهم هم أبناء جلدتهم من الحفاة العراة في اليمن ، ولم يكونوا هم المعتدين ، لكنهم أوصلوهم إلى المجاعة بحرب الإبادة والحصار ، وتبديد عشرات المليارات من الدولارات ! .
وثائقيات وقصص عن جنود غزاة محاصرون ، أمريكان وبريطانيون ، خلف خطوط العدو (نحن في العادة !) ، أحدهم وسيم أشقر بعينين زرقاوين ، ببدلة عسكرية أنيقة ، متحضر يقطرُ إنسانية وملي بالمبادئ والإيمان بالله ، ترك بلده الذي يبعد آلاف الأميال لأحقاق الحق ونشر العدالة ومحاربة الظلم ، وإسقاط ديكتاتوريوات (هم من زرعها !) ، أزاء همج برابرة لا يعرفون الرحمة ، يرتدون خِرَقا وجلابيبا ، قبيحون ومِلحان ! ، غير متحضرين وأغبياء وجبناء ، الفيلم الذي أخرج بعناية ، لا يترك صفة سلبية إلا وألصقتها بهم ! ، بالطبع سيتعاطف المشاهد الذي لا يمتلك (مناعة) من أمراض العولمة ، مع الجندي الأشقر الوسيم ! .
فقرات أخرى عن رجال خارقون يعاركون الطبيعة القاسية ويسخرونها ويدجنونها ، مثل (بير جريلز) الذي يأكل الأفاعي والعناكب ، ويشرب الماء من غائط البعير ! ، إنهم شجعان إلى أبعد حد ، مجازفون حد الجنون (الإيحاء من الفلم طبعا) ، ويواجهون الكوارث والوحوش الكاسرة فينتصرون عليها دون خدش ، ولا ينسى المعلق أن يذكرنا ، أن هؤلاء الخارقون الجبابرة إما من القوات الخاصة البريطانية ، أو المارينز الأمريكي ! ، هكذا تتم عملية غسل الأدمغة بنجاح ، وبوسيلة خليجية !..
إحدى الوثائقيات التي أسمها (في لمح البصر) ، تتحدّث عن الحوادث والكوارث ، ثم تتخللها فقرات لا علاقة لها بالموضوع ، عن خصائص سلاح (أمريكي طبعا) ، أستخدم في العراق لقهر الدفاعات العراقية في عاصفة الصحراء ! ، أوالصاروخ الفلاني ، ثم يسرد نبذة (وافية) عن الأسم والمدى ، والوزن ، والطول ، وكيف أنه صاروخ ذكي ولا يُقهر ، وأنه أستخدم في الحرب على العراق ! ، وإستعراض مدروس للطائرات الفتاكة وحاملاتها ، أو لقطات أرشيفية عن تجارب نووية مرعبة للغاية …
إنه تدمير للآيديولوجيات الشرعية بل الفطرية ، والمبادئ الإنسانية العامة ، في الحق بمقاومة المعتدي ولو بحصاة ، ولو بكلمة ، وإضفاء الشرعية للعدوان ولأعمال جبانة كارثية ، والترويج لأفكار هدامة بمنتهى الخطورة ، إنه تكريس للطغيان والرّضوخ للأمر الواقع ، أفلام تزرع المقارنة ، بين واقعنا المتخلّف للغاية (هم مَن سبّبه) ، وبين التقدم الهائل ، قد ينتج عنه إحتقار النفس وإستصغارها ، ونزع الإعتداد بها ولعن الإنتماء ، أنه إمتداد لاسلوب (رامبو) الذي طل علينا ، وهو يُسقِط قاعدة روسية بأكملها بمفرده وبصحبة سلاحه الخفيف فقط ، تصوروا إنه أسقط هليكوبتر روسية مدرّعة ومدججة بالصوارخ بواسطة مقلاع وحصاة ! .
قناة (رويال سيكريتس Royal Secrets ) الأردنية ، والتي إختفت منذ أكثر من عام ، كان لها نفس النهج ، وأنتقدتها في مقالة (قناة رويال سيكريتس ، والدعاية للآلة العسكرية الأمريكية) ، تذكرني هذه القنوات ، بالسم الذي دُسّ في شربة عسل إلى (مالك الأشتر) من قبل عملاء معاوية الذي قال بإبتهاج بعد إبلاغه بموت (الأشتر) : (إن لله جنودا من عسل) …