كلما أرسلنا نظراتنا حولنا هنا وهناك تتقاذف نحونا حكايات وصور كثيرة من الحياة, كل واحدة من تلك الصور تصلح أن تكون فلمًا طويلًا له أهداف وعِبَرْ ليس لها حدود.ِِلم أكن أتصور أن حادثة بسيطة (بالنسبة لي عظيمة جدًا للبعض الآخر)تُحرك في داخلي صور وحكايات وأحداث لايمكن أن تنتهي الا عند أفول هذه الحياة.بدأت الحكاية على الشكل التالي:
“وضعتُ إطار العربة المهشم المخصصة لأصحاب الحاجات الخاصة في كيس أسود صغير التي تعود ملكيتها لأخي الكبير-الشقيق الذي كان له دورًا كبيرًا في كل مراحل حياتي من الطفولة حتى لحظة كتابة هذه الحروف الصامتة صمت الأموات-أروم التوجه إلى ساحة النصر في بغداد.بعد دفع الثمن للبائع وضعتُ الإطار الجديد مع الإطار القديم في ذات الكيس الأسود وتوجهتُ نحو الشارع الطويل المزدحم بالسيارات.قبل أن اعبر الشارع إلى الجهة الأخرى استوقفتني رائحة –اللبلبي-فتحركت في داخلي رغبة عارمة في شراء قدح واحد في ذلك اليوم الشديد البرودة.كان البائع ذو بشرة شديدة السواد أما من السودان أو الصومال.كان هناك ثلاثة شباب في عمر أولادي يلتفون حول عربة اللبلبي كأنهم يحتمون من البرد بالبخار المتصاعد من الأناء الكبير.في اللحظة التي طلبتُ فيها قدحًا كبيرًا من ذلك المحصول المتواجد داخل الوعاء الكبير تنحّى أحد الشباب مبتعدًا عن العربة قليلا وهو يطلب مني بأدب ملحوظ أن أحتل مكانه لأستمتع برائحة الطعام المتصاعدة من القدر ولأضع قدحي في مكان أمين بدلًا من حملهِ بيدي.شكرته بلطف ملحوظ وشعرتُ بسعادة كون الشاب أظهر الود والاحترام لرجل كبير السن على شاكلتي.
كان الشباب يتحدثون عن أشياء مختلفة كلها تصب في قالب واحد تتعلق حول الحياة في الدول الأوروبية وعن الحياة الصعبة في العراق وكيفية التخلص من حالة الضياع الذي يعيش فيها البلد بسبب هيمنة الأحزاب التي يعود انتماءها للبلدان المجاورة وليس العراق.حديث مستهلك نسمعه كل يوم في برامج فارغة في القنوات المختلفة لاتغني من عطش او جوع كما يقول البعض.ولكي أغيّر مجرى الحديث سألتُ البائع فيما إذا كان من السودان أو الصومال وقبل أن يُجيبني أخبرته بأنه كان لي صديق من الصومال اسمه(إبراهيم عبد الله)كان معي في كلية الآداب -جامعة بغداد وأخبرتهُ بأشياء جميلة عن ذلك الزميل.صمت الشباب وراحوا يتابعون حديثي مع البائع السوداني وكأنهم كانوا قد وجدوا شيئًا جميلًا في حوارنا عن أشياء كانت قد حدثت قبل مجيئهم إلى هذا العالم الصعب.عرفتُ من حديث البائع أنه جاء إلى العراق عام 1988 وانه عمل سنوات طويلة بصفة حارس في إحدى العمارات وكذلك المنازل المختلفة وهو يعيش في الوقت الحاضر مع زوجته وأولاده في منطقة قريبة من منطقة البتاويين في وَسَط بغداد وانه لم يغادر العراق على الرغم من جميع الحالات المأساوية التي كانت قد حدثت للشعب العراقي بين الحين والآخر, يشعر أنه صار واحدًا من ابناء بلاد مابين النهرين ويحلم في الوقت الحاضر أن يجد له مكان عمل بصفة حارس في عمارة أو بيت في أية منطقة في العراق لأنه-على حد قوله لم يعد قادرًا على الوقوف إلى جانب عربة اللبلبي كل ساعات النهار.أخبرته بأنني سأحاول أن ابحث له عن تلك الوظيفة وأخبره بأذن الله.شكرني من أعماق قلبه وتمنى لي الصحة والسعادة.ودعتُ الرجل الطيب القلب وركضتُ نحو العجلة التي كانت قد وقفت قريبًا مني وسائقها يصرخ بأعلى صوته بأنه يصل إلى جسر الطابقين(وهذا هو ما أريده بالضبط).ألقيت بجسدي المنهك على المَقْعَد الأخير في الجهة اليسرى قرب النافذة كي يكون لي متسع من الحرية لتأمل الأشياء التي تمر بسرعة أو ببطء حسب حركة وازدحام المرور.وضعتُ الكيس الأسود بين قدمي كيما أفقده أو ربما أنساه عند النزول.وانا التهم بنظراتي كل صورة من صور الحياة التي تمر أمامي لا أعرف كيف حضرت صورة الصحفي الأمريكي-بيتر- في ذهني في تلك اللحظة عام 1988 وأنا أرافقه في احدى جبهات القتال المحررة قبل ساعات وكيف كان ينظر من نافذة السيارة-ألميني حافلة-وهو يحاول تسجيل أشياء كثيرة بقلمه وكأنه في سباق مع الزمن.كلما حاولت الحديث معه يقول لي بسرعة(أرجوك لا تتحدث معي إلا بعد الخروج من تلك المنطقة) لأنه يعمل بكل جَد ولا يريد أن تفوته لقطة واحدة.كنت اتصور أنه يمزح وأنا أخاطب ذاتي بصوتٍ هامس(ماذا يوجد هنا؟ لاشيء سوى جثث متناثرة ونبات القصب أو البردي ومياه باردة تتلاطم مع الريح المتصاعد بين لحظة وأخرى) وحينما عدنا إلى الفندق في البصرة سألني فيما إذا كنت أريد معرفة أي شيء.أخبرته بأنني فهمت كل شيء وليس لدي أي شيء أستفسر عنه.اعتقد أنني كنت غاضبا في داخلي بَيْدَ أنني أكدتُ له بأنني ما أشعر بأي غضب.
في تلك اللحظة وأنأ ارسل نظراتي إلى الجهات المختلفة فهمت كم ان ذلك الصحفي كان على حق لأن نظرة واحدة نحو هدف معين قد تمنحه أفكار كثيرة عن مواضيع ليس لها نهاية وهذا ما يحدث لي الآن.ربما يقول أحدهم الآن (اضرب لنا مثلًا كي نكون داخل الصورة الواقعية التي تعيشها الآن).حسنًا, سأتكلم بصورة مختصرة عن بعض الصور التي تمر أو مرت أمامي وكيف وفرت لي فرصة أو فرص للحديث عن حكايات وصور لاتنتهي.البناية الكبيرة في تقاطع منطقة المسبح مكتوب على واجهتها(ويسترن يونين) ذلك العنوان جعل قلبي يعتصر من الحزن والغضب على شخص له وقع جميل في قلبي يومًا ما.عشتُ معه أحد عشر عامًا خلف الحدود بسبب ظروف الحرب الكبيرة التي كانت قد حدثت يومًا ما ضد بلدي الجميل-لا أتحدث عن عدالة ذلك الحرب أو همجيتها فالموضوع هنا ليس الحديث عن نوعية الحروب التي كانت قد حدثت ضد العراق.بعد سنوات الغليان الذي عشناها هناك شاءت الظروف أن عدتُ إلى وطني مع العائدين إلا أنه ظل هناك خلف الحدود مع الكارهين للنظام السابق وكل ما يتعلق بالحياة في بلاد مابين النهرين وكان يعتقد بصورة كبيرة أن (جلاوزة النظام الدموي السابق سيعدمونه بلا أدنى شك لأنه كان قد تحدث بالكثير عن صدام وحزبه العفن-على حد قوله.بعد سقوط النظام عاد إلى الوطن ولحقت به زوجته الفارسية-كان رجوعها بطريقة تصلح ان تكون فلم أكشن-وبعد حِقْبَة من الزمن تمكن بطريقة معينه أن يسافر إلى ألمانيا ليعمل في إحدى الإذاعات العراقية الفضائية التي كانت قد اتخذت لها مقرًا في ألمانيا.للتاريخ ينبغي أن أذكر أنه كان ذكيًا وصاحب قلم من الدرجة الأولى.طلب مني أن أكتب له مواضيع مختلفة من العراق وأبعثها له لينشرها في موقع-ونلتقي-على أن يدفع لي ثمانون دولارًا عن كل مقال يُنشر في ذلك الموقع.أرسلتُ له عشرة مواضيع مختلفة وطلب مني أن افتح لي حساب مصرفي في مَصْرِف معين ما أريد أن أذكر اسمه.رجوته أن يبعث مستحقاتي إلى (ويسترن يونين)لكنه ذكر لي بأن الأسم المذكور يستقطع 25 بالمئة عن كل مئة دولار وأخبرته بأنني موافق لكنه راح يراوغ بطريقة معينة شممتُ من خلالها انه قد استحوذ على مستحقاتي.لايهم ستكون في ذمته إلى يوم القيامة-ولو أنه لا يعترف بشيء اسمه يوم الحساب.
تحركت الميني حافلة مرة أخرى بعد توقف غير قليل بسبب شدة الأزدحام المروري.بعد مدّة وجيزة توقفت المركبة بالقرب من سوق عملاق ظهرت من خلال زجاج السوق أنواع مختلفة راقية جدًا من الفطائر والمعجنات التي تجعل الناظر إليها يتوق للولوج إلى داخل السوق لشراء من كل زوجين اثنين من تلك المصنوعات التي تفنن الطهاة في اخراجها إلى عالم المأكولات الشهية.أغمضتُ عيناي وأرسلت خيالي إلى سنوات القحط والحرمان التي كنتُ أعيشها مع مجموعة بائسة وقف القدر في طريقها لتكون رهينة لسلطات خارج الحدود جعلت من تلك المجموعة وسيلة للضغط على سلطات بلادي لتحقيق هدف سياسي آخر لم أتوقع يومًا ما أن أكون أنا طرفًا يتفاوض عليه طرفان متنازعان لأسباب سياسية.حضرت إلى ذهني صورة سطام المتيوتي من أبناء الموصل الشرفاء وهو يوجه لي دعوة لتناول –فطيرة أو كيك – بمناسبة نهاية السنة الميلادية لعام 1994 م وحينما سألته بتعجب عن كيفية حصوله على المواد المطلوبة لصناعة –فطيرة-في ذلك المكان الذي بالكاد نحصل عليه على وجبة طعام –مارسوا معنا سياسة التجويع بشكل لايمكن وصفه مطلقًا. نظر نحوي بطريقة سيطرت عليها هالة من الحياء اللامتناهي وقال وهو يبتسم للقدر الذي وضعه في موقف محرج مع أستاذه او الشخص الذي تطوع لتعليمه مادة اللغة ألانجليزية:منذ خمسة عشر يومًا وأنا اقتطع جزء قليل من حصة الخبز التي استلمها كل يوم ووفرت عدد لأباس به من حبات السكر(القند) وقررت أن أعزم المدرس الذي يعلمني اللغة ألانجليزية كنوع من رد الجميل).أنا أعرف ما يقصده(سطام)حزنتُ وفرحتُ في نفس الوقت, فرحتُ لأنه أراد أن يرد لي ولو شيء معنوي بسيط لتلك الساعات الطويلة التي كنتُ اقضيها معه لتدريسه تلك اللغة على مسافة أحد عشر عامًا.لو درسني أي فرد أية لغة مدة أحد عشر عامًا بلا توقف يومًا واحدًا لصرت طليق اللسان في تلك اللغة.على أيةِ حال حضرتُ تلك الدعوة وكانت دعوة تخللتها ضحكات لا تنقطع وكأننا نتحدى الزمن ونتحدى قساوة السلطة التي أرادت أن تجعل منا نحن البؤساء هياكل عظمية.شكراً سطام ولا أعرف هل سنلتقي يوماً بعد تلك السنوات العجاف وقد مضى على عودتنا من أرض التيه أكثر من عشرين عاماً.تحركت السيارة وهي تشق عباب الهواء في ازدحام مرعب-ومسكين من يأتي إلى وسط العاصمة كل يوم ليعيش هذا الألم المرعب من حركة المرور.قبل الوصول إلى جسر الطابقين توقفت الميني باص بالقرب من أحد المطاعم العملاقة واستطيع أن أشاهد أنواع الرز واللحوم بمختلف أنواعها من خلال نافذة السيارة وبدون سابق إنذار راح ذهني إلى (ثامر عامر) الفتى الطيب القلب من مدينة الثورة حينما شحذتُ منه ملعقة من الرز في يوم شديد البرودة هناك خلف الحدود وكنتُ لا أستطيع الحركة بسبب الجوع الذي توغل إلى كل مكان في جسدي المنهك.لم تكن تربطني بالشاب معرفة قوية كما كان ذلك مع سطام, والغريب انه قال لي(تدلل أخوي) وناولني ملعقة واحدة أو اثنين ما اذكر شعرتُ بعدها أن روحي عادت لها الحياة.قلت مع نفسي –من يدري لعلي اكتب عنك بعد سنوات طويلة-وعاهدتُ نفسي على ألّا أنسى تلك الحركة الجميلة من جانبه وسأذكرها للأجيال القادمة إذا تمكنت من الحصول على فرصة لتدوين تلك الحالة وها أنا أفي بوعدي بعد أكثر من خمس وعشرين عاما, شكرًا ثامر عمار وجعل الله ذلك في ميزان حسناتك.شاهدت بعد ذلك صور عدّة لواردت الكتابة عنها كلها بالتفاصيل لاحتجت إلى عشرات الأوراق لأخطها جميعًا.في اللحظة التي تحركت فيها السيارة مرة أخرى مددتُ يدي لأتحسس موضع الكيس الأسود ومايحويه من أشياء ثمينة بالنسبة لي ولصاحب العربة ذات الإطار المهشم.مازال الطريق طويلًا للوصول إلى جسر الطابقين.أسندتُ رأسي إلى الوراء في محاولة لأغماض عيناي المرهقتان ولأتخلص من الصور الكثيرة التي تحاول الهجوم على روحي المتناثرة في كل ألاتجاهات.بلا توقع رحتُ اناقش روحي بحسرة بصمت لا يسمعه الا من خلق السموات والأرض(ماذا لو حاول أعضاء الإطار السياسي في الزمن الحاضر صرف نصف ما في حوزتهم من أموال هائلة على كل الطبقات الفقيرة المسحوقة ومحاولة بناء مصانع عملاقة لتطوير الذات البشرية وبناء مساكن شعبية وتوزيعها مجانًا على كل عائلة لاتملك مسكنا في هذا الوطن الجميل؟ شيء يسير جدًا هذا الذي نذكره الآن لو كانت هناك عدالة حقيقية ونكران الذات ولكن لا نعرف لماذا يتحول كل من يأتي لحكم هذا الوطن وكأنه يصبح المالك الحقيقي لكل شيء.سيموت الجميع وعندها لن تنفع الأموال والقصور إلا من كان يعمل كما يريده الله سبحانه وتعالىِ.أدركت أن كل الإطارات أو الأطر السياسية التي تحكم العراق إطارات مهشمة ليس لها فائدة للوطن الجريح لا بل شعرتُ أن الإطار المهشم الذي جلبته من ساحة النصر له فائدة كبيرة لشخص كبير السن يحلم بالسير على قدميه كما يفعل اصحاب الإطارات في كل زمان ومكان.