احتل مفهوم الإصلاح حيزاً أساسياً ومفصليا في الصراع الأزلي بين جبهة الكفر والإيمان وبين الصلاح والفساد وبين الخير والشر وربما كان الانقلاب السلبي الذي حصل لإبليس مقدمة لهذا الصراع بعد أن أعلن إبليس متوعداً بغواية عباد الله وخلقه عن جادة الاستقامة والعمل على بذل كل الوسائل والطرق لإسقاط الإنسان في فخ الضلالة وجره لمسار الانحراف وعبر عن هذا المشروع الخبيث بقوله (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، إلا إن الرد جاءه سريعا من لدن الله سبحانه وتعالى لبيان إحباط هذا المسعى الهدام عبر التخطيط الإلهي لاستنقاذ الإنسانية من براثن إبليس وأعوانه بعد أن رد كيده وأبعد المؤمنين عن الوقوع في براثن فخاخه وهذا ما عبر عنه التصريح القرآني بقوله تعالى (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ، ولذلك فأن إبليس لم ولن يكن له نصيب من الإنسان الذي يعتصم بحبل الله تعالى وإنما ستكون غلته مملوءة بقطيع لا ينتهي من الذين في قلوبهم مرض والذين يتبعون شر القول وليس أحسنه وهم ما عبر عنهم النص القرآني بالغاويين في قوله تعالى مخاطبا إبليس (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) .
وهكذا كان سلاح إبليس في صراعه مع إرادة الحق هو الغواية والتجهيل والتضليل وكان الموقف الإلهي يتمثل في بعث الرسل والأنبياء للتصدي لمشاريع الشيطان ولهداية الإنسانية إلى جادة الحق وإتباع الإله الواحد الأحد ونبذ عبادة الشيطان وجنده ، أما منهج الرسل والأنبياء والأوصياء في هذه المواجهة وهذا الصراع فكان شعار (الإصلاح) وهو ما أفصح عنه تعالى في قوله على لسان نبيه شعيب (ع) : (أنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) .
لقد أولى الإسلام عناية كبيرة بالجانب الإصلاحي والتربوي سواء على صعيد الفرد أو المجتمع وجعل مقدمة الإصلاح الاجتماعي هو إصلاح الفرد لنفسه لينطلق بعد ذلك على محيطه العائلي ومحيطه الاجتماعي قبل أن يكون مؤهلا للتصدي لوظيفة الإصلاح العام ، وأفصح القرآن أن الهدف الأساسي من بعثة الأنبياء وخلافة الأوصياء ومسيرة العلماء والصلحاء هي إصلاح الإنسان وتزكيته ولهذا تجد التأكيد الكبير على مفردة (صَلُحَ) حيث وردت أكثر من (180) مرة في القرآن الكريم .
واعتبر القرآن الكريم أيضاً أن الصلاح الفردي بل وصلاح النظام الكوني العام يمر من بوابة الإصلاح الفردي، أي انه إذا صلح الفرد..صلح المجتمع بل والكون كله وهذا ما يعبر عنه النص القرآني في قوله تعالى (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا ) ،بل أن جميع الابتلاءات الآنية التي يتعرض لها الفرد وتمر بها الإنسانية هي نتاج سلوك المجتمع السلبي وانحرافه عن القيم السماوية يقول تعالى جل وعلا ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ ) ثم يبين تعالى أن الهدف من الابتلاءات هو إن يعود الإنسان إلى ربه ، قال تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ويكون هذا الرجوع من خلال الاستجابة لعملية التغيير والإصلاح التي لم تخلوا الأرض منها على يدي الأنبياء والأوصياء وخلفائهم من العلماء العاملين المخلصين .
والإمام الحسين (عليه السلام) وريث المرسلين والأنبياء والصديقين ولذلك كان شعاره شعارهم وهدفه هدفهم وكان عنوان ثورته (الإصلاح) امتداداً لمسيرة الإصلاح الإلهي ومشروعا لإعادة مسيرة الرسالة إلى بوصلة الإسلام المحمدي بعد أن تعرض ذلك الإسلام إلى تشويه وتحريف في مقاصده وأهدافه ومبادئه على يدي حكام الجور وسلاطين اللهو والعبث والظلم ، ولم تثنه المخاطر والتهديدات والمصير المحتوم للمصلحين بالقتل لأنه لهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة ..
ان مفهوم الإصلاح الحسيني من خلال نظرتنا القاصرة عن أدراك معالم ذلك المشروع الإلهي الكبير والذي بذل في سبيل تحققه الإمام الحسين (عليه السلام) ما لم يبذله من قبله أحد من المصلحين من التضحية والقربان توجهُ بما عبرت عنه سيدة الإباء والشموخ زينب الكبرى وهي تقف على جسد الحسين (ع) الملقى على صعيد كربلاء مقطوع الرأس من القفا وهو مسلوب العمامة والردى وقد رضت الخيل جسده الشريف ( اللهم تقبل منا هذا القربان) .