ايها القارىء المحترم .. أريد أن أسترعي انتباهك إلى مسألة أبين لك فيها كيف أن الالتباس في كلمتي مدنية وثقافة قد يضل المصلح الجريء ذا الروايا والعزم فيقود غيره إل الخسران الذي لا يمكن تلافيه يريد المصلحون أن يأخذوا بالمنية الغربية للأسباب التي وربما كنت أنا نفسي أكثر حماسة من جميع الراغبين في هذا الإصلاح .
نعم ولكن ما هي المدنية ؟
المدنية هي حالة اجتماعية تهيئ للإنسان جميع الوسائل والشروط الضرورية التي يستطيع بها أن يحقق الرفاه في الحياة على قدر طاقة البشر وذلك بارتقاء الصناعة ونموها المتصل وتحسين الأوضاع الاجتماعية شيئا فشيئا وهكذا فإن شكل الحكم الموافق لشروط الحياة الاجتماعية في أمة من الأمم أفضل من غيره من الأشكال لأنه يضمن حقوق الأفراد فيها والمساكن الحديثة أرقى من الأكواخ الأولية الحقيرة لأنها أقرب إلى شروط الصحة ولوازم الرفاه وكذلك الجسر الذي أنشئ فوق النهر أحسن من جذع الشجرة الملقى فوق الجدول .
فالمدنية إذن تابعة للوسائل المادية التي استطاع الإنسان في أدوار حياته المتابعة أن ينتزعها من المحيط ويسخرها لمقاصده العملية وأعني بذلك الوصول إلى درجة علية من الرفاه والراحة هذا حال المدنية في ماضيها ومستقبلها.
وأحسن مثال على ذلك العصر الحجري وعصر النحاس وعصر الحديد وعصر البخار والكهرباء فإنها أدوار تاريخية مختلفة تدل على أن الحضارة لا تغير إلا الوسائط أما الغاية التي ترمي إليها فلن تتغير أبدا ومدنية العصر الحاضر لا تشذ عن هذه القاعدة لأنها صورة جديدة متولدة من تطبيق الاكتشافات العلمية على الصناعة وغايتها لا تختلف عن غيرها لأن الضارة إنما ترمي دائما لإيجاد الرفاه وحفظه .
أما الثقافة فهي على عكس ذلك لأنها ثمرة من ثمار التربية الاجتماعية التي توارثتها الأجيال وما برحت تنتقل من دور إلى آخر حتى انتهت إلى طور من الأخلاق والتفكير والأدب لا عهد للإنسان به من قبل لولا الثقافة لما تكاملت معرفة الإنسان بما يجب عليه نحو الإنسانية لولا الثقافة لما أدرك الإنسان غاية اتساق الطبيعة البشرية في نظام الكون ولولاها لما رق ذوقه ولا لطف ولا اتسع خياله المبدع والإبداع هو المنبع الفياض الذي تنبجس منه صور الفن وتتغذى بوحيه الطبيعي اكتشافات العلم العجيبة فالثقافة هي إذن بهذا المعنى صورة شخصية وطابع جنسي لا بل هي قوة حيوية تصان بها عبقرية الشعب ووحدته .
فعلى المصلحين إذن أن لا يترددوا في تفضيل مظاهر المدنية الحديثة على مظاهر المدنية القديمة لأنه لا بد لهذه المظاهر من تغيير عاداتنا القديمة بالتدريج وتبديل أخلاقنا شيئا فشيئا أما القضاء على الأوضاع الاجتماعية وهدم اللغة القومية وتبديل الثقافة والعقائد الدينية والخلقية واستبدال غيرا بها في سبيل التجدد فليس ذلك كله إلا ضربا من ضروب التهور والتي الباطل لأن لهذه الأوضاع الاجتماعية صلة بروح الشعب وحياته التاريخية، فليس بالإمكان تغييرها دفعة واحدة وتجريد الشعب منها كما يجرد البدن من القميص القذر.
ما من أمر هو أكثر إفسادا للأخلاق وتفكيكا لعرى الحياة وآذ لكيان الأمة الناهضة من ثقافة غريبة ساء تمثيلها وفسد الاتصاف بهاولقد أثبت التاريخ ذلك ودلت على صحته التجارب الاجتماعية والسياسية فلم يعد بالإمكان جهله .