19 ديسمبر، 2024 12:44 ص

الإصلاح العراقي المبتور

الإصلاح العراقي المبتور

الشيعة والكرد والسنة شركاء في الوطن والنظام السياسي والحكومة، ولا يتشكل البرلمان و الحكومة ومجلس القضاء إلا بتشاركهم، ولا يتم تشريع قانون إلا بموافقتهم جميعاً، ولا يتم تخصيص موازنة إلا برضاهم معاَ.
هذا هو مقتضى الديمقراطية التوافقية، أحببناها أو كرهناها.
تبلغ النسبة التقريبية للمكونات العراقية في مناصب الدولة، من مدير عام وحتى رئيس الجمهورية على النحو التالي:
٥٠ % للشيعة
٢٥ % للسنة العرب
٢٠ % للسنة الكرد
5 % للأقليات.
وتبعاَ لذلك فإن نسبة الفساد والفشل في الدولة تتوزع على الأحزاب الشيعية والسنية والكردية كل حسب نسبته في الدولة، فتتحمل الأحزاب الشيعية ٥٠ % و السنية ٢٥% و الكردية ٢٠% من نسبة الفساد والفشل في الدولة.
وتبعاَ لذلك أيضاَ، فإن أية عملية جماهيرية للتغيير، والقضاء على الفساد والفشل، ومحاكمة حيتان السرقات، و إقامة نظام سياسي عادل، وحكومة شريفة قوية أمينة كفوءة؛ ينبغي أن تشارك فيها المكونات الثلاثة.
وإن أي تغيير في النظام السياسي وفي الدستور وفي قانون الأحزاب وفي قانون الإنتخابات وفي قانون النفط والغاز وفي قانون الموازنة، وفي نسب المحاصصة المكوناتية، لايتم إلا بموافقة كتل المكونات الثلاثة معاً.
فلا يمكن – مثلاَ- أن يكون الوزراء والنواب والقضاة والوكلاء والمدراء الشيعة أقوياء وأمناء وأكفاء وشرفاء ومستقلون، بينما المسؤولون السنة والكرد ضعفاء فاسدون عملاء حزبيون. والعكس صحيح.
لنأتِ الى الجانب العملي، بعيداَ عن الشعارات والانفعالات والإتهامات المعلبة، و عن ضوضاء وسائل التواصل الإجتماعي.
أمامنا السلوك الجمعي للتظاهرات الحالية ومطاليبها، وأغلبها واقعية ومحقة، لكنها غير جامعة، أي أنها عملياَ تقتصر على التغيير في إطار مكون واحد، وتستهدف عملياَ أحزاب مكون واحد، و تعمل على تطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين المنتمين الى مكون واحد.
والحال، أن هذا الهدف الأحادي لن يحقق بتاتاَ أي تغيير في واقع الدولة ومؤسساتها؛ لأن المسؤولين الشيعة يسيطرون فقط على نصف مفاصل الدولة.فلو تم استبدال جميع المسؤولين الشيعة الفاسدين الفاشلين بآخرين نزيهين أكفاء، فهذا يعني أن النصف الجيد الجديد سيتشارك مع النصف السيء القديم في إدارة مؤسسة واحدة. علماً أن النصف الكردي السني لا يستطيع رئيس الوزراء الشيعي أو الاحزاب الشيعية استبداله، بل تستبدله أحزابهم الكردية والسنية فقط، لأن هذه النصف من المناصب حصة أحزاب السنة والكرد حصراً، وهي التي ترشح من يشغلها، ولايمكن للشيعة وضع من يرونه مناسباً فيها.
صحيح أن التظاهرات المطلبية السلمية ترفع شعارات وطنية وتنادي بالتغيير على مستوى الدولة برمتها، وليس لها أهدافاَ طائفية. وهذه حقيقة لا غبار عليها. لكن شئنا أم أبينا فإن هذه التظاهرات تحصل داخل المكون الشيعي، وضد الأحزاب الشيعية حصراً، وليس لها دالة أو سلطة أو تأثير على الشريكين السني والكردي.

فلتفترض أن التظاهرات المطلبية الحالية لأهل الوسط والجنوب، ستقضي على الفاسدين من الأحزاب الشيعية، وتمهد لتشكيل حكومة جديدة من الأكفاء النزيهين غير الحزبيين وغير المنتمين للكتل السياسية، فهل هذا ممكن في ظل اشتراك الفاسدين أنفسهم من الأحزاب الكردية والسنية في الحكومة الجديدة؟
ذلك أن المجتمع السني والمجتمع الكردي الشريكين في الوطن، لم يتحركا جماهيرياَ ضد أحزابهم وسياسييهم، ولم يطالبا بتغييرهم، ما يعني قناعة الشركاء الكرد والسنة ببقاء سياسييهم أنفسهم في الدولة والحكومة العراقية القادمة.
بل أن إعلام الشركاء يحرض، بأساليب ذكية حرفية غير مباشرة، على ( الثورة) في بغداد والمحافظات التسعة، وعلى محاكمة السياسيين الشيعة والقضاء على الأحزاب الشيعية والحشد وفصائله، دون أن يتطرق مطلقاَ الى ضرورة الحراك والتغيير والثورة في المحافظات الستة الكردية والسنية. وهو خطاب وسلوك طائفي عنصري، لا يلتقي بالأهداف الوطنية للتظاهرات، لكنه يؤثر فيها.
إن إشكالية الحراك الوطني الشيعي الحالي، تكمن في كونه حراكاً منفرداً، و يهدف الى التغيير والبناء الجديد للدولة والحكومة بمفرده، ويستهدف عملياً الأحزاب الشيعية والسياسيين الشيعة والفساد في المكون الشيعي حصراً، إذ لا يمكن لهذا الحراك منع الأحزاب الكردية والسنية الحالية برموزها وسياسييها ومرشحيها أنفسهم، من المشاركة في النظام والحكومة الجديدة القادمة، وهم يحتلون 50% من مناصب الدولة العراقية، من مدير عام وحتى رئيس الجمهورية.
ولنكن واقعيين أكثر ..
إذا استطاعت التظاهرات الحالية في محافظات الوسط والجنوب، تشكيل حكومة جديدة، وإبعاد الأحزاب الشيعية المشارِكة في الحكم: “الدعوة” و”المجلس الأعلى” و”التيار الصدري” و”الحكمة” و”بدر” و فصائل المقاومة والحشد، إلّا أن قيادة التظاهرات ستكون مجبرة حتماً إلى إشراك الأحزاب الكردية والسنية نفسها: الحزب الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغييرالكردية والحزب الإسلامي و حزب النجيفي وحزب علاوي وحزب الكربولي وحزب أحمد الجبوري وحزب الحلبوسي وحزب المطلق وحزب خميس الخنجر.
كما ستُجبر قيادة التظاهرات أيضاً على أن يكون رئيس الجمهورية عضواَ في أحد الحزبين الكرديين الرئيسين، و أن يكون رئيس البرلمان عضواَ في أحد الأحزاب السنية الرئيسة.
وسبب هذا الإجبار هو أن الدولة لن تقوم، والنظام لن يأتلف، والحكومة لن تتشكل ألّا بوجود الأحزاب الكردية والسنية الحالية نفسها، بقياداتها ومسؤوليها ومرشحيها أنفسهم. ومن يقول ذلك، فعليه أن يعي جيداً حقيقة الخارطة السياسية العراقية وحقيقة الشراكة الوطنية من جهة، وموقع هذه الاحزاب (الكردية والسنية) في الواقع السياسي الإجتماعي للمكونين الكردي والسني، على اعتبار أن هذه الاحزاب هي ـ حتى الآن ـ خيارات جماهير الكرد والسنة، وهذا حقهم الديمقراطي، ولا سلطة لأبناء محافظات الوسط والجنوب على جماهير محافظات الغربية ومحافظات الشمال؛ لكي يفرضوا عليهم نائباَ أو وزيراَ أو مديراَ كردياً أو سنياً في المؤسسات الإتحادية.
وقبول قيادة التظاهرات الحالية بخيارات الأحزاب الكردية والسنية نفسها في التشكيلة الحكومية القادمة، وفي مؤسسات الدولة، يعني أن هدف التظاهرات ليس شاملاَ جامعاَ لكل الوطن، بل هدفه القضاء على الأحزاب الشيعية فقط، وليس كل الأحزاب العراقية، وأن المطلوب هو رأس السياسيين الشيعة وأحزابهم وفصائلهم فقط. أما السياسيين السنة والكرد فلا مشكلة في بقائهم.. كما هم، وكأنّ الاحزاب الكردية والسنية ليس شريكاّ أساسياً في النظام السياسي والحكومة منذ 2003 وحتى الآن، بنسبة 45 % للكرد والسنة، و50 % للشيعة، وكأنّها لا تتحمل بنفس النسبة مسؤولية الفساد والفشل في الدولة والحكومة.
أما إذا كانت قيادة التظاهرات تستهدف كل الفاسدين والفاشلين في كل الأحزاب العراقية، وإصلاح كل النظام السياسي ومؤسساته، فما هي الآلية والإجراءات التي استخدمتها منذ اليوم الأول للتظاهرات، وستستخدمها في المستقبل حيال الإصلاح على صعيد الأحزاب الكردية والسنية المشاركة في الحكم؟ وكذا الحلفاء الخارجيين الداعمين لها، كأمريكا والسعودية وقطر والأردن وتركيا؟
فالأليات التي طبّقتها قيادة التظاهرات ضد الأحزاب الشيعية وممثليها في الحكومة واضحة ومكررة، كالشعارات واللافتات والبيانات التي تذكر أسماء هذه الأحزاب ومممثليهم، والمطالبة بحلها، ومحاسبة قادتها ومسؤوليها، والإعتراض على علاقاتها مع الحليف الخارجي (إيران)، وشتم هذا الحليف، وحرق ومهاجمة المكاتب والمؤسسات التابعة لهذه الاحزاب، وغيرها من الإجراءات المعروفة.
بل، الأكثر من ذلك، أن قيادة التظاهرات ستفشل قطعاً في إقناع الأحزاب الكردية والسنية بالتعديلات الدستورية و بإصلاح النظم والقوانين والتشريعات التي يجب تمريرها وتطبيقها، كمقدمة للتغيير، لأن للمكونين الكردي والسني مطاليبهما الخاصة واستحقاقاتهما المناطقية والقومية والطائفية. وبمراجعة سريعة لتصريحات السيد مسعود بارزاني ونيجرفان بارزاني وقادة الإتحاد الوطني الكردستاني والسيد أسامة النجيفي وقادة الحزب الإسلامي وغيرهم، سنفهم بسهولة، أن الاحزاب الكردية والسنية تعتبر أن التظاهرات الحالية هي مشكلة شيعية ـ شيعية لا شأن لهم بها، وأن ما يعنيهم فقط هو الحفاظ على مصالح أحزابهم وحصصهم في السلطة والثروة.
وبالتالي، لا إمكانية مطلقاَ في الإصلاح والتغيير في العراق، دون الإصلاح والتغيير في إطار الاحزاب السنية والكردية الأساسية الشريكة، و إلا ستبقى الأوضاع كما هي، حتى وإن جئنا بمسؤولين شيعة من جنس الملائكة. وحينها لن تمثل الحكومة القادمة إرادة الحراك الحالي، ولن تكون هذه الحكومة حكومة وطنيين مستقلين أكفاء.
وعليه، ينبغي أن تشمل المطالبات الشعبية كل الطبقة السياسية من كل ألوان الطيف العراقي، بصورة عملية، وليس بالشعارت فقط، ، بعيداَ عن التمييز الطائفي والقومي، لأن الجميع أبناء هذا الوطن، ويتحملون مسؤولية متكافئة تجاهه.