متابعة حياة الناس عامة ، والمشاهير خاصة ، على بعض مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الفيديو تثير الكثير من التساؤلات عما تسير إليه البشرية في جانبيها العائلي والأخلاقي . لكن ما يلفت النظر وجود الكثير من العوائل المسلمة ، المواطنة والمهاجرة ، التي تجمع بين السلوكيات المحرمة وبين الفروض الدينية .
فالكثير من أبناء هذه العوائل يكتنزون إيماناً عالياً ، تكشفه رغبتهم الدائمة باحترام القران الكريم أو المقدسات الدينية ، حتى أن أغلبها لا تمس ورق القرآن الكريم إلا على وضوء ، ولا يذكرون مقدساً دينياً الا بالتبجيل ، كما أنهم يحاولون احترام والمشاركة في المناسبات الدينية الكبرى ، وقد تكتفي بعض النساء – غير المحجبات – بإهداء القران الكريم اليهن كمهر زواج ، فضلاً عن التزامهم بالصلاة والصيام .
لكن كل ذلك يتم بشكل مادي ، فالقرآن الكريم هو ذلك المكتوب على ورق بين دفتين ، والمناسبات الدينية هي طقوس فلكلورية متوارثة ، والصلاة هي وقت الحجاب فقط ، والصيام مشاركة جماعية في أجواء روحانية .
فذلك كله ، وإن كان خيراً في حد ذاته ، إلا أنه ليس الدين الاسلامي ، فالإسلام معنى ومبنى ، هو الرقي والسير باتجاه الرب ، وصعود فوق عالم الملائكة باتجاه الله وصولاً إلى ساحة محبته ومعرفته . ولست اقصد من ذلك المثالية غير الواقعية ، بل الواقع السائر باتجاه المثالي .
فليس من المعقول أن تجمع فتاة مسلمة بين التهتك في الأماكن العامة وبين حجاب الصلاة ، أو بين الرقص وبين الطقوس الدينية ، أو بين الصيام وبين أكل المال المشتبه ، وكذلك ليس من المعقول أن يجمع الشاب المسلم بين طقوس الصلاة وبين الحفلات الماجنة الخليعة ، أو بين طاعة الله وبين طاعة الظالم .
حتى صارت الكثير من المجتمعات المسلمة ترى الإسلام هوية قومية لها ، كما في شرق أوروبا ، أكثر من كونه سلوك . وهذا ما تتجه إليه شعوب بلدان المركز في العالم الإسلامي . إذ أن هذه المجتمعات جميعاً تسير باتجاه تقليد ما عليه حضارة المجتمعات الأوروبية من كونها علمانية متطرفة في الشارع والعمل ومسيحية متدينة في المنزل ، كما يصفها الدكتور عبد الوهاب المسيري .
وقد تكون أسباب هذا الخلط المشوّه بين الدين واللادين أربعة ، كلها من نتائج الارساليات التبشيرية الكاثوليكية والبروتستانتية الغربية في بلاد الشرق بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، لا سيما البروتستانتية منها ، والتي كانت الاستعمار العسكري الأوروبي للعالم جزءاً من عملها[1] :
سيطرة السلطة العلمانية على التعليم والإعلام والقضاء في البلدان الإسلامية ، ونقلها النشء الجديد إلى مساحة التيه عن ماضيه وعقيدته .
وتجريمها السلوك الديني في الكثير من البلدان ، كما في البلدان السوفيتية في روسيا ووسط آسيا وشرقها وكذلك بلدان شرق أوروبا التي حكمتها الأنظمة الشيوعية الشمولية[2] ، والتي كانت فرصة العيش فيها تعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على الانتماء إلى الأحزاب الشيوعية الالحادية ، حتى تركت الشيوعية – بعد رحيلها خاسرة فاشلة إقتصادياً وسياسياً – أجيالاً فقيرة من شعوب لا تعرف لنفسها هوية دينية ، كانت من السهل ان تنبهر بالحضارة المادية الرأسمالية الغربية , ومثال ذلك الفتاة الألبانية المتزوجة من شاب عراقي في بلجيكا وهي تعتقد أن الزواج من ابنة العم وبنت الخالة حرام لأنها من دولة ألبانيا التي ورثت قوانين أول حكومة أعلنت أنها ملحدة في العالم والتي كانت تسجن من يفعل ما يخالف قوانينها[3] ، فالفتاة المسلمة تلك لم تعد تعرف الفرق بين الحرام الإسلامي الشرعي والحرام الشيوعي المزاجي ولا تملك العقل الكلياني القادر على رؤية ان هذه الأنظمة صاحبة تلك القوانين المزاجية هي ذاتها من جعلت بسياساتها وثقافتها ألبانيا ذات اقل نسبة خصوبة في العالم من حيث السكان وجعلتها تسير نحو الاختفاء عن العالم خلال الخمسة والعشرين سنة القادمة ، أو كما في العراق عندما كان نظام صدام البعثي يعتقل عشرات المتدينين بتهمة الانتماء إلى (حزب الدعوة الإسلامية) ، والذي تم تجريم الانتماء إليه بقانون خاص يحكم بالإعدام أو السجن لفترات طويلة[4] ، رغم أن القانون نفسه اتخذ حجة لاعتقال كل شاب ملتحٍ وجد يصلي في مسجد مع جماعة ، ونحن كعراقيين كنا نعيش هذه التجربة بصورة مباشرة دون مبالغة ، أو كما في مصر حين ناقش البرلمان الانقلابي قانون طرد (الإخوان) من دوائر الدولة[5] ، وهي تهمة – على كونها باطلة ولا تسمح بحرية الرأي – إلا أنها يصعب ضبط تطبيقها في ظل اتهام آلاف المتدينين على أنهم من جماعة (الإخوان) ، وفي تونس كذلك كان نظام الدكتاتور (زين العابدين بن علي) يصل به الأمر في آخر أيامه إلى جر حجاب المتدينات في الشارع من قبل الشرطة ، وفي تونس الانقلاب اليوم يعيش المتدينون تهمة الانتماء إلى جماعة محظورة كلما ازداد النظام قوة ، وفي فرنسا تم حرمان الطالبات المسلمات من ارتياد الجامعة لأنهن ملزمات دينياً بارتداء الحجاب الذي عدته السلطات الفرنسية رمزاً دينياً تمنعه وهي تدرك أنه فرض إسلامي لا يمكن للمرأة المسلمة المؤمنة التخلي عنه والا تكون عاصية .
وسيطرة رأس المال الفاسد أو القريب من السلطة والجيش على الاقتصاد – بالخداع أو بتمكين حكومي – ومن ثم على الإعلام ، واستشعاره الخطر الدائم على الأجواء الفاسدة التي يوفرها عزل الدين عن الساحة الاجتماعية والتي وفرت له فرصة التمدد المالي ، لذلك إعلام وجدنا رأس المال الفاسد مثل قنوات (cbc)[6] و (صدى البلد)[7] وغيرها اكبر المدافعين عن الانقلاب العسكري الدموي في مصر في العام 2013م[8] ، وكان أغلب المالكين للقنوات الفضائية ممن عليهم مؤشرات فساد كبرى ، وهو شبيه بما جرى من عزل للدين وأهله عن الحياة الأوروبية وحصره في زوايا الاتهام بعد سيطرة رأس المال اليهودي وفروعه على الإعلام هناك ، وهو إعلام لا يكتفي بتغييب صوت الدين الحقيقي ، ولا اتهامه فقط ، بل يصنع الأصوات الدينية الناشزة والمشوهة تماما ، تعرض عقيدة جديدة وفقه مستل من ضعيف التراث الروائي بما يناسب رغبة الحاكم أو الفاسد .
بل وصل الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاستفادة من صناعة نسبة كبيرة من العازبات العاملات ، قد تصل إلى ٤٠٪ ، من خلال تأثيرات إعلامية طويلة توجه المرأة إلى سوق العمل وتحثها على تأخير الزواج وتفعّل داخلها حب التبرج ، لتكون هذه النسبة مستهلك كبير لمنتجات التجميل .
ورغبة المهاجرين من البلدان الإسلامية في التخلص من نير السلطات الظالمة وقلة الفرص والمحسوبية وانعدام الخدمات في الكثير منها ، وذلك عبر الهجرة إلى البلاد الأوروبية ، ليجدوا أنفسهم في وسط مادي صريح لا علاقة له بالدين ، لأنظمة علمانية متطرفة كما في فرنسا , أو مجتمعات متهتكة حد التطرف كما في بلدان اخرى ، بل ان بعض تلك البلدان تفرض بسلطة القانون تعليم وتدريس ما يعارض المبادئ الدينية , من أفكار غير مؤكدة مثل ( التطورية) , او سلوكيات شاذة مثل (المثلية) , وتمنع أي رؤى تنتهي الى فلسفة دينية مثل (التصميم الذكي) , كما في الغرب عموماً والولايات المتحدة الامريكية خصوصا[9] , وفي دولة مسلمة ظاهراً مثل الامارات قريبة الى كل مراكز العلوم الدينية في المنطقة يصعب جداً مقاومة التيار المادي الصاخب هناك , حتى وصل الامر بالحكومة الى الغاء عطلة عيد المسلمين الدائم (يوم الجمعة) والالتزام بتعطيل أعياد اليهود والمسيحيين (يومي السبت والأحد)[10] , ولا يسع مع كل ذلك إلا عدم اظهار الالتزام الديني بصورة صريحة ، وكذلك عدم السعي لتحصيل المعلومة الدينية , لا سيما مع الجري الدائم غير الواعي خلف المادة .
ساعد في كل تلك الظواهر سيطرة مؤسسات دينية رسمية أو شبه رسمية ساكتة صامتة أو خائفة أو متواطئة أو مخترقة في أغلب البلدان الإسلامية ، كما في مؤسسة الأزهر في مصر التي – وإن كانت غير متهَمة بالتواطؤ – إلا أنها شديدة الضعف في حاضرها قياساً بماضيها الثوري ، وكذلك المؤسسة الدينية الكلاسيكية في النجف الاشرف في العراق وهي مؤسسة شديدة الصمت ، أو هيئة كبار العلماء السعودية التي يسير بلدها اليوم سريعاً باتجاه الغيبوبة الدينية التي سارت إليها البلدان الإسلامية وهي صامتة خائفة رغم تطرف أعضائها تاريخيا , وهذه المؤسسات الثلاث هي الأكثر تأثيراً في العالم الإسلامي .
ولما كانت البشرية لا تستقيم بوجود هذا الكم من الأنظمة العلمانية المتطرفة ، والتي تسببت بمقتل ملايين الأنفس على مدار سنين معدودة ، ولا رأس المال الفاسد ، والذي تسبب بتعطيل مصالح الناس لأسباب أنانية محضة ، حتى ألغى كل الخصائص الاقتصادية الوطنية التي كانت توفر لقمة العيش للأغلبية لأجل توحيد سيطرته المالية ، لابد من وجود زخم ديني يحفظ البشرية من الزوال ، كما كان للدين الدور المحوري في معارفها على مر الأجيال .
ومن هنا لابد ، على الأقل ، من مساحة للدين والمؤمنين في العمل السياسي والمشاركة في السلطة لتخفيف وطأة الحكومات الظالمة ، وكذلك لزوم دخول المؤمنين في العمل العسكري لكسر ظاهرة تسخير الجيش في خدمة الأنظمة المزاجية ، وارتفاع نسبة مشاركة رأس المال الأخلاقي عمودياً وافقياً في مفاصل الاقتصاد المحلي والعالمي لتقييد سعار رأس المال الاناني الفاسد ، كما يجب تعزيز دور المؤسسات الدينية في العمل الرسمي والاجتماعي ، واتجاه الناس لتشخيص ودعم المرجعيات الدينية الواعية والحركية التي تستشرف المستقبل ودعمها ، وحث الجماعات الإسلامية المهاجرة على الارتباط بالوطن الام ، وعلى توثيق عراهم المعرفية ، وعلى الاعتزاز بهويتهم الثقافية الأصلية ، وادخالهم في دورات مجانية لزيادة الوعي الديني ، والعمل – من خلال السفارات الإسلامية – على حث الدول العلمانية المتطرفة على احترام هوية واعتقاد الشعوب المسلمة التي تستفيد تلك الدول من خدمات أبنائها لكنها تمنعهم من التمتع بحياتهم الشخصية المعنوية .
[1] يمكن مراجعة كتاب ( ولاية البصرة ) , تأليف : القنصل الروسي في البصرة خلال القرن التاسع عشر ( الكسندر أداموف) .
[2] من البلدان المسلمة التي حكمتها الأنظمة الشيوعية السوفيتية المباشرة او الغير مباشرة دول القوقاز وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان وأذربيجان في وسط آسيا , وألبانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفا في وسط أوروبا .
[3] حكمت الشيوعية دولة ألبانيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى العام 1992م .
[4] اصدر نظام صدام البعثي قرار مجلس قيادة الثورة المنحل الذي يقضي بإعدام المنتمين لحزب الدعوة الاسلامية والمتعاطفين معه والمروجين لأفكاره وبأثر رجعي في 31 اذار 1980م .
[5] اتخذ مجلس النواب المصري قرار الموافقة على مشروع قانون يعطي للحكومة حق فصل الموظفين المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين من عملهم في الجهاز الإداري للدولة بتاريخ 12 تموز 2021م .
[6] في 23 5 2022م صدر حكم قضائي – مجامل – بحبس رجل الاعمال (محمد الأمين) – مالك قنوات (cbc) وغيرها واهم الداعمين الإعلاميين لنظام السيسي – ثلاث سنين بتهمة هتك عرض عدة فتيات يتيمات قاصرات في ملجأ للايتام مستغلاً ضعفهن وحاجتهن .
[7] نشر الاعلام المصري في 9 5 2019م تصريحات رجل الاعمال (محمد أبو العينين) – مالك القنوات- التي يشكر فيها الصحافة التي وقفت واستمرت في دعم حكومة الانقلاب . وهو الذي شهدت الفترة الديمقراطية القصيرة جداً في مصر 2011-2013م عدة بلاغات قضائية ضده لإثرائه من خلال استغلال فساد نظام مبارك .
[8] قاد الفريق عبد الفتاح السيسي الجيش المصري في انقلاب عسكري على حكومة الرئيس محمد مرسي المنتخبة في 3 تموز 2013م .
[9] في دوفر في بنسلفانيا الامريكية تمكن محامو اتحاد الحريات المدنية الأمريكي من إقناع القاضي الفيدرالي (جون إي جونز) بحظر عرض كتاب (الباندا والناس) في مكتبة مدرسة عادية رغم رغبة أهالي الطلاب بذلك , لأن الاتحاد رأى ان هذا الاقتراح بمثابة فرض “ثيوقراطية” حين يتحدث عن “التصميم الذكي” للطبيعة . وقد قام نشطاء داروينيون في العام 2006م فقط بتخويف مجلس التعليم بولاية أوهايو لإلغاء خطة درس نموذجية تشجع الطلاب على تحليل الأدلة الرئيسية المستخدمة لدعم نظرية داروين بشكل نقدي. كما حاول الداروينيون إقالة أعضاء مجلس التعليم بولاية كنساس لأنهم شجعوا الطلاب أيضًا على دراسة الأدلة المؤيدة لنظرية داروين والمعارضة لها. وفي جامعة جورج ميسون ، ارتكبت أستاذة علم الأحياء (كارولين كروكر) خطأ مناقشة “التصميم الذكي” بشكل إيجابي في صف بيولوجيا الخلية , فتم إيقافها من التدريس للفصل ، وبعد ذلك لم يتم تجديد عقدها. وفي جامعة ميسيسيبي للنساء ، تمت إقالة أستاذة الكيمياء (نانسي برايسون) من منصب رئيس قسم العلوم الطبيعية في عام 2003 بعد تقديم انتقادات علمية للتطور البيولوجي والكيميائي إلى ندوة للطلاب المتفوقين. وفي ولاية مينيسوتا ، تم استبعاد مدرس المدرسة الثانوية (رودني ليفيك) من تدريس علم الأحياء بعد أن أعرب عن شكوكه حول نظرية داروين . نقلاً عن الدكتور (جون جي ويست) نائب رئيس معهد ديسكفري في سياتل والمدير الإداري لمركز العلوم والثقافة التابع للمعهد ورئيس سابق لقسم العلوم السياسية والجغرافيا بجامعة سياتل باسيفيك , مقالة منشورة بعنوان
Banned Book of the Year: Of Pandas and People)) في September 25, 2006 .
[10] نشرت وكالة أنباء الامارات قرار تغيير أيام التعطبل بتاريخ 7 12 2021م .