بصرف النظر عن جدلية المفهوم, وهل له أثر في الواقع الإسلامي, أم هو مبتكر من قبل آيدلوجيات تتقاطع مع الدين, لكنّها تعيش في مجتمعات مرتبطة إرتباطاً وثيقاً بالدين, وبالتالي فهي تبتعد عن الإصطدام المباشر وتحاول تقسيم المنافس إلى؛ سياسي ديني, وديني محضّ, في إيحاء إلى المقولة غير المحسومة “عدم تعارض العلمانية مع الدين”.
إنّ أي نشاط سياسي, ولو بإشارات ضمنية, لا يمكن وصفه بغير مضمونه الحقيقي (عمل سياسي). مفهوم (الإسلام السياسي) يفترض تعارض أكيد, أو على الأقل بعد, بين المؤسسة الدينية ونظيرتها السياسية التي تضمّ الأحزاب الدينية. بذات الوقت, فإنّ تلك المقولة, وحتى تثبت صحتها, ينبغي أن تسعى التيارات الدينية الإسلامية إلى أسلمة الدولة بطريقة صارمة لا تخضع لأي نقاش, سيما إنّ أصحاب الرأي القائل بتقاطع الأحزاب الدينية مع مبادئ الدولة المدنية يقدّمون أنفسهم تحت عنوان (المدنية).
إنّ أي نموذج لدولة سواء كانت مدنية أو دينية, يجب أن يقوم على أسس تتشكل عليها البنية الأساسية للدولة والتي من خلالها تنبثق القوانين الناظمة للحياة بصورة عامة..هذه الأرضية اللازمة لبناء الدولة, إشترك ببناءها الإسلامي والآخر على حدٍ سواء, وأتضح إنّ الجميع متوافق وبقناعة على عدم أدّلجة الدولة, مع الأخذ بالإعتبار الخصوصيات والحريات الدينية عبر كفالة دستورية أعطت الحق للجميع بالإعتقاد بما يؤمن.
لهذا التأسيس معاني عصرية واضحة, إذ لم تؤسس القوانين على النص الديني, كالحدود والمنع, وهذا يعكس غياب الصراعات الفكرية بين التيارات الإسلامية من جهة ونقيضتها العلمانية من جهة أخرى, بمعنى إنّ الحزب الديني لم يفرض فكره ومعتقده في عملية التأسيس.
من هنا نجد إنّ لا هيمنة لمذهب فكري على آخر في صياغة الدولة العراقية الجديدة, وهذا التوازن لم يفرض نتيجة لقوة الحركة العلمانية؛ إنما جاء لقناعة الإسلاميين بعدم إمكانية قيام دولة دينية في العراق من جهة, ورأي المرجعية العليا المساند لتلك القناعة من جهة أخرى. هذه النتيجة توصلنا إلى إكتشاف عدم منطقية النقد الموجّه للدين أو تحديداً (الإسلام السياسي) والمطالبات ببناء دولة مدينة؛ إذ إنّ عنوان تلك الدولة المدنية متحقق. ولعل الخلل يكمن في الفراق المزمن بين “النظرية والتطبيق” في البيئة السياسية والإجتماعية الشرق أوسطية.
إنّ الممارسة التي أثبتت فشلها في إدارة وقيادة الدولة العراق تعود لعوامل عديدة, لكنّ الذي يهمنا هو المفردات التي تتعلق بحياة المواطن مباشرة كالأمن, الفساد, البطالة, الترهّل الوظيفي, الفشل الخدمي, وملفات أخرى..رغم إنّ ظاهر قيادة الدولة طيلة عقد كامل كان إسلامياً, بيد إننا نجد البديل العلماني المطالب به, فاسد وبشراهة تفوق التصوّر ولنا أمثلة بوزراء الدفاع والكهرباء!.
من المؤكد إنّ سرقات هؤلاء لا تنعكس على المنظومة العلمانية, كما لا تنعكس سرقات الإسلامي على المنظومة الإسلامية السياسية. لكنّ هناك تفوّق في المنظومة الإسلامية, وهذا التفوّق متحقق بفضل عملية النقد المستمر من الأعلى, والنقد البيني الذي يركن أحياناً في خانة (التسقيط السياسي أو التنافس الإنتخابي). إنّ قيمة النقد وجديته تأخذ عناصرها من المركز المرموق الذي تتمتع به المرجعية الدينية التي أنقذت الدولة من الأنهيار, وأغلقت أبوابها بوجه الساسة إحتجاجاً على الفشل والفساد المرافق لحقبة الثمان سنوات, ثم أوصت بعدم إختيار “المجرب” في الإنتخابات, وما زالت توجّه بإستمرار..هذا التوجيه والإعتراض والإنقاذ, يلغي الحدود بين (الديني) والمدني؛ فلا وجود (لإسلام سياسي) وآخر ديني منعزل من جهة, وليس هناك صراعاً فكرياً أو تأسيسياً على شكل الدولة وعنوانها من جهة أخرى.
الرأي المباشر والصريح الذي أبدته المرجعية الدينية في تغيير رئيس الحكومة السابق, يُعطي دلالات على أسباب الفشل والهزيمة, وغالباً تندرج تلك الدلالات ضمن المراس الشخصي أو الحزبي, سيما إنّ الحكومات التي تعاقبت كانت من لون حزبي واحد, بل تحوّل الحكم إلى حالة ومزاج شخصي يعتمد على الولاء والصلة بعنوان رئيس الحكومة!..فهل يتحمل الدين أخطاء ومنهجية شخص واحد؟!
ثمة خلط آخر؛ حكومة عمرها سنة واحدة, إستلمت الدولة في حالة حرب وضياع موزاناتها الإنفجارية ووسط مافيات فساد مزروعة في جسدها وشبه غياب تام للمؤسسة العسكرية وإنهيار شامل للدولة وروابطها؛ نحمّلها وزر التقشف أو غياب الخدمات والكهرباء!..لا شك إنّ تلك الإصلاحات بحاجة إلى وقت, وعلينا عقلنة مطالبنا وتوجيهها بالإتجاه الذي يمكّننا من محاسبة المسؤول عن تلك الإنهيارات, ولعل أول من حاسب المفسدين؛ المؤسسة الدينية التي دونها ما حدث التغيير والإنفراج السياسي.