23 ديسمبر، 2024 7:49 ص

الإسلاميون العراقيون وضرورة تجديد الخطاب الديني

الإسلاميون العراقيون وضرورة تجديد الخطاب الديني

الخطاب الديني التقليدي الذي اعتادت عليه الأدبيات الحركية الإسلامية العراقية؛ بحاجة ماسة اليوم الى ثورة فكرية تعالج الفصام الذي حصل بين التجربة الواقعية التي يخوضها الاسلاميون العراقيون منذ العام 2003، والفكر السياسي الذي نظّروا له طيلة ستين عاماً، ولاسيما مايرتبط بمفاهيم العمل الدعوي والتبليغي، ونظرية الدولة الإسلامية التي كانت تمثل فلسفتهم في التأسيس، وغايتهم في التحرك، اضافة الى المفاهيم الضاغطة الواقعية؛ كالدولة المدنية، واستخدام أدوات الديمقراطية في مجالات هيكلية النظام السياسي والحقوق والحريات، وصولاً الى الديمقراطية والليبرالية في بعديهما الايديولوجي والفلسفي.
هذه المراجعة الشاملة لها علاقة بنوعية الخطاب الفلسفي والايديولوجي للإسلاميين، أو ما يمكن تسميته برؤيتهم الكونية وغاياتهم النهائية. ويدخل ذلك في جدليات وثنائيات قديمة ـ جديدة، سبقهم في الخوض فيها الإسلاميون المصريون والإيرانيون والأتراك، وتتمثل في جدلية التنظير والتطبيق، أو الايدولوجيا وضغوطات الواقع، و الأصالة والمعاصرة، وسجال الوجوب والحرمة والإباحة في التماهي مع فلسفات وآليات المذاهب الاجتماعية الوضعية وغيرها.
وقد أفرز النهوض الحضاري الذي شهده واقع المسلمين منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي وحتى الآن؛ أفرز جملة من التحديات، مصدرها التجارب الإسلامية الجديدة على مستوى التطبيق من ناحية، والعامل الخارجي الذي يسعى لإفشال هذه التجارب من ناحية أخرى. ولعل القابلية الذاتية التي يمتلكها الفكر الإسلامي التجديدي التفاعلي تؤهله بمستويات معينة لمواجهة هذه التحديات، على الصعيدين النظري والعملي. و أبرز عناصر خلق تلك القابلية: المرونة والشمولية والتوازن والواقعية والحركية التي يتميز بها الفكر الإسلامي التجديدي التفاعلي؛ بالصورة التي تجعله قادراً على ضمان أصالته، وفي الوقت نفسه تمكّنه من استيعاب حاجات العصر ومتطلباته، وهو ما يمكن أن نطلق عليه مفهوم “تجديد فكر الواقع”، الذي يطوِّع حركة الواقع ويخضعها للثوابت العقدية والشرعية. وبمعزل عن هذا التجديد، ستبقى تلك التحديات قائمة، بل وتزداد عمقاً ورسوخاً.
ولعل تجربة الإسلاميين العراقيين الصعبة والملتبسة بعد العام 2003 هي في مقدمة التجارب التي ينقصها التكييف الفقهي والفكري المعمق والواقعي؛ بالنظر لكونها تجربة تشاركية فريدة؛ ليس على مستوى شراكة السلطة؛ بل على مستوى الشراكة في عقيدة الدولة ومنظومتها القانونية. وليس المستهدف هنا الفكر السياسي الإسلامي وحسب؛ بل كل تفاصيل الفكر الإجتماعي والبناء الإسلامي الحضاري لحياة الأمة.
والتجديد الفكري الذي يعبّر عن الطموح ليس تأسيساً لفكر جديد أو إحياءً لفكر قديم، بل هو عملية تفاعل حيوي في إطار منظومة فكرية قائمة، لإعادة اكتشافها وتطويرها من جهة، وتجديد الفهم الذي أنتجها بمرور الأزمان من جهة أخرى، فيكون فهم الأصول المقدسة فهماً زمانياً ومكانياً يعي حاجات العصر المتغيرة والواقع العراقي الملتبس، أي أنه لا ينطلق من فراغ، بل إن له منهجه ومرجعيته وثوابته.
وفي النتيجة سيتحول التجديد إلى خطاب نهضوي يستهدف البنية الفكرية، ليجعلها تلبي جميع حاجات الإنسان القائمة والمستقبلية، ويهدف أيضاً إلى صياغة المشروع الإسلامي الحضاري الذي يخضع له الواقع طوعاً، ولايتعارض مع أسس الشراكة مع الآخر المختلف فكرياً وعقدياً
والحقيقة أن التطور السريع جداً الذي يشهده العالم على كل المستويات: الأفكار والنظريات، الإكتشافات، النظم العالمية السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها، والذي ينبئ بقفزات نوعية كبرى في بدايات القرن الواحد والعشرين، ذلك التطور المرعب يفرض أن يكون المسلمون بمستواه، قد يتجاوزهم، وهو أمر يتقاطع مع قوة الشريعة وقابليتها الهائلة على استيعاب عملية التطور والاحتكاك مع العصر.
وإذا كان خطاب الإسلاميين و أداؤهم يعجزان عن تلبية بعض أهم الحاجات الواقعية للناس؛ بل يعجزان عن إقناع حواضنهم الاجتماعية؛ بما يمكن توصيفه بأنه إخفاق مركب في المطابقة بين المبادئ و الأداء من جهة، وفي إنشاء خطاب ديني واقعي متجدد من جهة أخرى؛ فكيف يمكن حينها الحديث عن استباق المستجدات واستدعاء مخرجات الفكر الإسلامي للاستجابة لمتطلبات المستقبل؟؛ لا سيما وأن العالم بات يعيش في المستقبل.. تشوّفاً تخطيطاً وتحضيراً.
هذه الحقائق المدخلية تتطلب ـ ابتداءً ـ خطاباً إسلامياً أصيلاً في مضمونه وعصرياً في شكله، وواقعياً في مخرجاته، وقادراً على الحوار والتفاعل والإقناع والاستقطاب، في خضم الكم والكيف الهائل من التحديات والمشاكل النظرية والواقعية؛ بالشكل الذي يمكنه ـ في الحد الأدنى ـ إيقاف توسع الفجوة بين الواقع الداخلي العراقي، والحضارات والثقافات والأفكار الخارجية المتفوقة مادياً ومدنياً.
وإذا كان الغرب المتفوق مادياً ومدنياً يتشدق بالاحتكاك والتفاعل الحضاري والتثاقف والحوار وحرية الرأي الآخر؛ قد أفرز نظرية “فوكوياما” التي أعلنت عن وصول العالم إلى «نهاية التاريخ» وشطب أفكار الآخرين وثقافاتهم، تاركةً للبشرية خيار العلمانية الليبرالية الغربية فقط دون غيره؛ فيما لو أرادت الخروج من مأزقها التاريخي، كما أفرز نظرية “هانتنغتون” القائلة بحتمية «الصراع بين الحضارات»، وزوال كل الحضارات التي تهدد الحضارة الغربية؛ كونها الحضارة الحصرية؛ فإن الإسلام يمتلك كل المقومات الذاتية للبناء والنهوض الروحي والفكري والمادي، ويمتلك إرادة التفاعل مع الآخر والاستفادة من تجاربه وعناصر قوته المادية. ولكن المشكلة ليست في الإسلام عقيدةً وشريعة؛ بل في العنصر البشري المسؤول الذي يستثمر هذه المقومات، ويوظفها في خدمة الإنسان؛ ليحقق له كل ألوان الإستقرار الروحي والفكري والمادي.
ولذلك فإن قدرة الخطاب الإسلامي المعاصر على الإقناع؛ هي المهمة الأصعب التي تواجهه، لأنها تتطلب مشروعاً فكرياً واقعياً عميقاً؛ يطرح الإسلام بمضمونٍ يحفظ له أصوله ويرسّخها في عمق المشروع، وبصيغ تؤمن له التقنيات والآليات العصرية، كما تتطلب أداءً يثبت عملياً إمكانية تطبيق ذلك المشروع بأكثر الصور إشراقاً. ولعل بعض الصيغ الناجحة التي تطرحها حركات إسلامية في تركيا وتونس و إيران؛ يمكن أن تكون نماذج للدراسة و الاستعارة والاستفادة؛ بما ينسجم مع الواقع العراقي.
أما الإستمرار في حالة الجمود الفكري، والخطاب المنفعل، والاخفاق العملي؛ فإنه سيعمق الفجوة مع الواقع الملتبس المتحرك، ويطيح بكل الآمال والاحلام والطموحات التي بقيت الأمة تنتظرها قرون مظلمة، ولن ينفع حينها خطاب العاطفة لتسكين الألم والعوز الروحي والفكري والمادي لحواضن الإسلاميين الاجتماعية.