23 ديسمبر، 2024 9:46 ص

الإستنابيّة : ( تحوّل دِلالي؟ أم نفاق؟ أم انتهازية؟)

الإستنابيّة : ( تحوّل دِلالي؟ أم نفاق؟ أم انتهازية؟)

للوصول إلى المعنى الحقيقي لهذا المبدأ؛ لابد من الرجوع الى الماضي القريب ليتسنى لنا التدرج في تلقي إدراك المصطلح بتأني ووعي كاملين. وسأنطلق في توضيح المعنى من قول أحمد شوقي:
الاشتراكيون: أنت إمامهـم      لولا دعاوى القوم  والغلـواءُ
داويت متئداً وداووا طفرة     وأخف من بعض الدواء الداءُ
عقود من السنين لا يشوبها الحذر والخوف، والمسلمون يرنمون هذين البيتين من قصيدة (ولد الهدى) لأحمد شوقي، التي صدحت بها أم كلثوم، حيث كان أنصاف المسلمين يناقشون أنصاف الشيوعيين مدعين بأن الإسلام أبو الإشتراكية، إذ كان المد الإشتراكي يغزو الوطن العربي أبان قوة الإشتراكية السوفيتية التي أثبتت تقدمها على الرأسمالية الأمريكية، حيث كانت إنتصارات الحرب الباردة في خمسينيات القرن العشرين لصالح الاتحاد السوفياتي. وكان لفظ الديمقراطية في البلدان العربية يدل كل الدلالة على الفسوق والفجر والتهتك الأخلاقي، حتى يصل إلى حد الكفر، فقامت الانقلابات العسكرية- التي ادّعى فيها المنقلبون بانهم ثوار- في معظم البلدان العربية باسم الاشتراكية،  وكم تشدقت المذاهب الاسلامية الجديدة بأن مُثلهم العليا كانت تمثل الاشتراكية، فهناك من قال بأن عمر بن الخطاب أبو الاشتراكية، وهناك من قال بأن علي بن ابي طالب هو أبو الإشتراكية، حتى حسمت أبيات احمد شوقي ذلك إذ قالت بأن النبي محمد هو إمام الإشتراكية، ورغم أن أحمد شوقي قال ما قال في عشرينيات القرن العشرين إلا أن أم كلثوم جعلت المسلمين يعيدون قراءة النص بطريقة التفكيك قبل أن يكتشف ديريدا هذا المبدأ عام 1967 . وكم كان أنصاف المسلمين يحاولون إقناع الشباب بإسلامية الاشتراكية، وانها ليس جديدة، وما كان دور ماركس الا أنه قرأ حركة التاريخ وتوقع ذلك، وإن المبدأ الأساس موجود في القران. ولكي يتلافى أنصاف المثقفين محاولات أخماس المثقفين للفصل بين الإشتراكية والإسلام ابتدعوا مبدأ الإشتراكية العربية، فظهرت أحزاب كثيرة تدعي هذا المبدأ، وكانت مقبولة من قبل الأكثرية التي لا تفهم شيء سوى أن الإشتراكية لا تتعارض مع الإسلام.
ودارت الأيام، حتى بدأ الفكر الإشتراكي الذي يؤمن بالدكتاتورية ينهار أما الفكر الرأسمالي الذي يؤمن بالديموقراطية كنظام للحكم، فبدأ أخماس المسلمين بالتحول التدريجي نحو هذا المبدأ المنتصر، فقال من قال بأن عمر بن الخطاب هو أبو الديموقراطية، وقال من قال بأن علي بن أبي طالب هو أبو الديموقراطية، وظهرت الدراسات والكتب التي تؤكد على أن النبي هو المؤسس الأول للفكر الديمووقراطي الذي جاءه بالوحي، وبدأت القصص والروايات تُقرأ وتـُـفسر من جديد، لكي تتحول مضامينها- بلا خجل- من كونها اشتراكية الى كونها ديمقراطية بامتياز.
ومن هنا بدأت المحنة الجديدة للشعوب العربية، فقد آمن الإنتهازيون من المسلمين بالفكر الديموقراطي، معتمدين على تخلف شعوبهم التي انهكتها الأنظمة الدكتاتورية، وقد اطمأن الانتهازيون بان الغلبة ستكون لهم اذاما تخندقوا تحت راية الاسلام الذي هو أصل الديمقراطية كما يقولون، حيث ظهرت أحزاب كثيرة تحمل اسم الديمقراطية، وتمكنت هذه الأحزاب من استغلال غضبة الشباب على الأنظمة الاستبدادية، وكذلك استغلت تمسك الناس بالثوابت الدينية التي طُوعت للتماشي مع الفكر الجديد الذي غزا الارض العربية بعد الاشتراكية. وفي النهاية تمكنت هذه الاحزاب من الهيمنة على مقاليد السلطة في أغلب البلدان التي حدث فيها تغيير، وستهيمن أحزاب أخرى على البلدان الأخرى التي سيحدث فيها التغيير. وما أن سيطرتْ هذه الأحزاب على السلطة حتى بدأت الديموقراطية تنزلق من بين أصابعهم، فبدأت القوانين الدكتاتورية الاسلامية تظهر شيئا فشيئا، وبدأ تقييد الحريات يتفوق على المعنى الذي جاءت من أجله تلك الدعوات؛ لأن الذين وُضعوا على رأس هذه الأحزاب يدركون جيداً بأن الأغلبية متخلفة، وهذه الأغلبية التي أوصلتهم إلى دفة الحكم تؤمن بدين تراثي بعيد عن النفكير المنطقي وعن محاولة التغيير، وأن أي جديد يعد كفراً، لكنهم انخدعوا بمقولةٍ تدّعي أن الإسلام أبو الديمقراطية.
ورغم ادعاء القادة الانتهازيين للديموقراطية، الا أنهم الآن يخضعون- اجتماعيا وتراثيا- لرأي الأغلبية المتخلفة . فلو سألت أي من الديمقراطيين الإسلاميين عن مبادئ الديمقراطية لأجابك إجابة يدور فيها في حلقة مفرغة، لكي يتخلص من البون الكبير بين الإسلام والديمقراطية، فلو تعرض أي ديموقراطي إسلامي لسوآل مفاده: (هل يجوز للمواطن أن يشرب من خزان فيه  1000 لتر من الماء، وُضعتْ فيه قطرةُ خمر؟) لبدأ ( يفر بأذنه ويغني عليك بأنكر صوت)؛ لكي يتلافى التناقض الفكري بين ما يدّعيه وبين ما يدّعيه أيضاً، علما أن قطرة الخمر الموضوعة في خزان سعة 1000 لتر: لا تؤدي بالشارب من ذلك الخزان إلى ما يبرره هؤلاء الإنتهازيين، فهذا الماء لا يُسكر ولا يجعل شاربه يفقد أخلاقه ولا يؤدي الى التحلل الاجتماعي ولا إلى اي شيء سوى أنه يخالف تعاليم الاسلام الثابته، ومن هذا المثال ومن الأمثلة الكثيرة الأخرى التي لا تحصى، أجد أن الأسلام ليس ديمقراطيا، فالإسلام: إسلام، والديموقراطية: ديموقراطية، وكل منهما يسير باتجاه مختلف عن الآخر، فلا داعي للإختباء تحت سقف الإسلام للسيطرة على الحكم الديموقراطي، ولا داعي للإختباء تحت سقف الديموقراطية وإضمار الإسلام، لأن ذلك غاية النفاق. وسيثبت ما ذهبت إليه حينما يظهر فكرٌ آخر ينطلق من منتصرٍ آخر في العقود القادمة، وحينها سيدعي الإنتهازيون من الإسلاميين بأن الإسلام هو أبو الإستنابية. ويقول من يقول بأن عمر بن الخطاب كان أول من طبق الإستنابية، ويقول آخر بأن علي بن أبي طالب كان أبو الإستنابية. ويظهر لنا شاعر آخر في مرحلة ما بعد بعد بعد الحداثة ليقول:
((الإستنابية: كانت أدنى العرشِ
فهمها الملائكة
ورفضها أبليس
فاستقبلته الأرض…)).