الآن علينا أن نقتنع بأن الأمن وحده ليس كافيا للتصدي لخطر الإرهاب، وأن هناك حاجة إلى جهود ضخمة على المستويات الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية.
عسر التعامل مع استتباعات الإرهاب
رغم وجود مؤشرات على قرب اندحار وهزيمة تنظيم داعش الإرهابي في سوريا والعراق، فإن الجرائم التي يرتكبها التنظيم بوتيرة متسارعة في دول ومناطق عدة من العالم، وآخرها استهداف كنيستين مصريتين بالأمس القريب في جريمة دنيئة خسيسة تتنافى مع كل الأديان والقيم الإنسانية، يؤكد تزايد خطر الإرهاب وتسارع وتيرة ارتكاب الجرائم الإرهابية بشكل غير مسبوق.
قناعتي الشخصية أن هزيمة تنظيم داعش إنجاز نوعي على صعيد الحرب ضد الإرهاب، ولكن هزيمة التنظيم جغرافيا لا تعني بالضرورة هزيمته فكريا، فمثل هذه التنظيمات تؤهل أفرادها وعناصرها لتلقي الضربات والهزائم وعمليات الكر والفر، بل إنها تهيئ أتباعها نفسيا للقبول بخسائر مرحلية، واعتبارها نوعا من “البلاء والابتلاء”، ومن ثم الصبر في التعامل معها والالتفاف على تبعاتها والحد منها.
ومن ثم، فإن الرهان على أن هزيمة تنظيم داعش عسكريا في العراق وسوريا هي نهاية التنظيم خطأ استراتيجي فادح، فمرحلة ما بعد الهزيمة، بحسب التجارب والخبرات التاريخية مع تنظيمات الإرهاب، هي أشد وأقسى وأكثر عنفا من قبلها، وعلى العالم أن يتوقع المرور بمرحلة الضربات اليائسة العشوائية، التي يصعب أن تجد لوقوعها تفسيرا أو مبررا منطقيا، كما حدث في عملية الدهس التي شهدتها مملكة السويد مؤخرا، فضلا عن الانتشار الجغرافي للضربات الإرهابية على أكبر بقعة ممكنة من الدول.
ففي خلال أيام قلائل، شهد العالم العديد من الجرائم الإرهابية بشكل يعكس خطورة تشظي تنظيمات الإرهاب وتحولها إلى فسيفساء تضرب في هذه البقعة أو تلك، وهذه هي المرحلة الأخطر في ما بعد الهزيمة المتوقعة وسقوط الدولة المزعومة في سوريا والعراق. وعلى العالم أن يتوقع مرحلة أخطر في مواجهة الإرهاب، وعلى العالم أن يستعد لمرحلة أخطر في دورة الإرهاب الزمنية، التي تمر عبر كر وفر ومد وجزر، ولكن بوسائل وآليات مختلفة.
إن ما تعرضت له كنيستان مصريتان يؤكد بما لا يدع مجالا للشك ضرورة التعامل مع خطر الإرهاب بأقصى درجات اليقظة والاستنفار الأمني، والتحوط من كل صغيرة وكبيرة وسد جميع الثغرات المحتملة، وعدم التهاون في أي نقطة من نقاط الأمن مهما كانت الظروف والأحوال.
الآن علينا أن نقتنع بأن الأمن وحده ليس كافيا للتصدي لخطر الإرهاب، وأن هناك حاجة إلى جهود ضخمة على المستويات الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية، فما يبذل حتى الآن على الأصعدة الفكرية والدينية ليس كافيا، والموضوعية تقتضي القول بأن سؤال التجديد الديني والخطاب الإعلامي لا يزال يراوح مكانه ولا يجد ردا شافيا عليه، فما زالت الجهود تمضي على استحياء، أو في أحسن التقديرات هي جهود فردية لدول ومؤسسات، وليست عملا جماعيا يعبر عن تضامن العالم الإسلامي وجديته في التصدي للإرهاب ونبذه وإقصاء المتعاطفين معه تماما.
اللافت أن الإرهاب يتحرك بوعي ربما يفوق تقديرات الخبراء والمتخصصين في أحيان كثيرة، والحديث عن الإرهابيين باعتبارهم مجموعة من الأغبياء ليس في مصلحة الحرب ضد هذه الظاهرة الخبيثة، ومن يتابع وسائل الدعاية التي يتبعها تنظيم داعش تحديدا، يدرك حجم الخبث والدهاء، الذي تتميز به دعاية التنظيم ومدى تقدمها وتطورها، وعلينا أن نفرق بين الأفكار الظلامية التي يتبناها التنظيم من ناحية، وبين مستوى تأهيل وتدريب الكثير من عناصره في مجالات تقنية المعلومات وتطوير الأسلحة وغير ذلك من ناحية ثانية.
علينا أن ندرك أيضا أننا نتعامل مع “أفكار” وليس مع “أفراد” فقط، وقد يكون من السهل التعامل مع الأفراد وهزيمتهم أو قتلهم، ولكن الأفكار لها جذور مجتمعية من الصعب تقصي فروعها وتشعباتها.
الأمر في غاية التعقيد والتشابك والتداخل، فالإرهاب في مراحله الأولى، أي التعاطف، ومرحلة ما قبل التجنيد الفعلي من الصعب اكتشافه، ومسار تطور الإرهابي عبر مراحله الفكرية المختلفة يصعب اكتشافه، ناهيك عن تتبع مراحله الزمنية، فقد يحدث في شهور وسنوات، وقد يحدث في أسابيع أو حتى أيام، ومن ثم فنحن بحاجة إلى المزيد من الدراسات والبحوث العلمية حول شخصية المتطرف، والقابلية للتطرف، حتى يمكن بالتالي بناء آلية رصد مبكر قادرة على التنبؤ بمسارات التطرف والاكتشاف الوقائي للإرهابيين.
نقلا عن العرب