ظاهرة الإرهاب ومايرتكبه من فظاعات لامثيل في وحشيتها وهولها ، وهي تستهدف في الغالب ، ضحايا أبرياء بما فيهم أطفال لايتجاوزون الأشهر من العمر،أو عابري سبيل يسعون وراء لقمة العيش ، باتت تثير سيلاً من أسئلة يحار العالم في تفسيرها : هل هي سلوكية معقدة ومركبة في مدلولها كما في بواعثها ومنطلقاتها؟ أم هي كراهية لبني الإنسان تجاوزت سويّتها لتصبح مرضاً فتّاكاً ؟ وهل من وسيلة لمعالجتها وحصرها ؟ أم انها تحولت إلى (طاعون ) من نوع جديد لاعهد للحضارة البشرية بمثله ؟ثم لماذا تبدو المنطقة العربية هي المصدر الأول لتلك الكراهية ومعتنقيها ؟وهل يمكن إعتبارها طارئاً ظرفياً ؟ أم ثقافة متجذرة؟ .
حتى سنوات خلت، لم تكن المنطقة العربية قد إستقرت على صورتها النمطية الراهنة، بإعتبارها خزّاناً هائلاً لتصدير الكراهية أو استجلابها، وبالتالي لم يكن العرب عندئذ قد حشروا بعد في (مكانتهم) البارزة لإنتاج هذا النوع من (الأسلحة) الفتاكة للدمار الشامل، إذ لم تكن تلك المفردة حكراً على العرب دون غيرهم من سائر الأمم ، فهي قد وجدت طريقها إلى السلوك البشري منذ وجوده الأول، بكونها شعوراً فردياً يتولد في النفس حينما يكتشف الإنسان مقدار عجزه عن قهر الآخر المنافس له على طريدة أو فريسة.
ومع تحول الجماعات إلى مجتمعات، ومن ثم نشوء الدول والكيانات السياسية، تطور مفهوم الكراهية تبعاً لذلك، ليصبح جزءاً أساسياً من مركبّ جمعي تعاد صياغته أو إحياؤه ليأخذ أشكالاً متعددة حسبما تقتضيه طبيعة المرحلة التي تمرّ بها هذه الأمة أو تلك، كالإدعاء بتفوق روحي أو عرقي مثلا، أو إمتياز ديني أو حضاري ينتج عنه حقّ حصري بالسيادة والملك وهكذا، أي أن الكراهية تحولت من حالة شعورية فردية، إلى سلاح يشهر دوما بوجه الآخر المختلف، وقد شهد التاريخ حضارات بأكملها تحولت فيها الكراهية إلى آيديولوجيا ومعتقدات لدول وشعوب بقيت تعتاش عليها زمناً طويلاً، حيث إعتبرتها واحدة من أهم مصادر قوتها ومن مرتكزات وجودها وحركيتها في الزمن والمكان .
وعلى الرغم من ان علم السياسة جاء لينظم تلك الكراهيات باتجاه أولويات المصالح، التي غالباً ما تكون مشتركة إذا قامت بين قوى متكافئة على درجة ما، وبعكسها إذا فقد التكافؤ، لتتحول من ثم المصالح إلى تبعية لطرف وهيمنة للآخر، الإ أن الكراهية ظلت حاضرة على الدوام، يرتفع منسوبها بتناسب عكسي مع ضعف الأمّة أو قوتها، فالأمم الأكثر إستحضاراَ للكراهية، هي الأقل قدرة على التفاعل أو التناظر مع غيرها، من هنا يظهر ذلك التشابك المثير بين مجموعة من العوامل المتناقضة التي تتكون منها الكراهية، لتنشط في المحصلة كمعادل موضوعي يدخل في منظومة التشكّل النفسي أو الغرائزي الذي يجنح بإتجاه مصادرة العقل بشكل تامّ، لأن العقل بحساباته الدقيقة التي لا تقبل الإ بما هو متحقق فعلاً، أو ما يمكن توفيره من العوامل الموضوعية لضمان تحقيقه، يتحول عندها إلى رقيب يذكّر دائماً بالفشل، لذا يفقد العقل وظيفته المعرفية، محدثاً فجوة لايمكن ردمها الإ على أنقاض ما بنته الكراهية من سلوكيات.
يمرّ العرب اليوم بحالة تكاد تكون نموذجية في إنتاج كراهية تبدو طاغية إلى درجة تلغي معها كلّ ماعداها، وقد إنتقلت من حالتها السوية كخطّ دفاع لأمة تشعر انها تواجه وضعاً مصيرياً، إلى مايشبه سلاحاً للتدمير الشامل للذات، بمعادلة بسيطة ومركبة معاً: مادمنا عاجزين عن تدمير الآخر، فلندمر أنفسنا إذاً.
وكان يمكن أن نُترك لندمر أنفسنا بكراهيتنا من دون ان ينشغل العالم بالتدخل كما حدث في الكثير من البلدان الأفريقية وغيرها، لكننا ـ لسوء أو لحسن حظنا ـ نشغل منطقة حساسة موقعياً وحيوية للعالم، فلدينا أكثر من نصف المخزون العالمي من الطاقة البترولية (نجلس عليه ولا نملكه، كماعبرّ جيمس بيكروزير الخاريجة الأمريكي الأسبق )، ونشغل في الجغرافيا، إما عائقاً فاصلاً، أوجسراً بين عالمين لابد أن يتواصلا ـ الشرق والغرب ـ لذا نبدو في نقطة حرجة لايملك الآخرون حيالها الإ أحد خيارين: اما إدخالنا في التاريخ، أو إخراجنا من الجغرافيا.
في فيلم “الحديقة الجوراسية” الذي قيل ان من أسباب نجاحه الساحق، هو ما حمله من إيحاءات تستهدف العرب، فالديناصورات التي توفرت لها أمكنة نموذجية للعيش، وإهتمامات إستثنائية من خبراء لامعين، إنقلبت فجأة الى وحوش مفترسة لم تكتف بمهاجمة المشرفين عليها، بل إنتقلت الى إفتراس بعضها البعض مهددة بالزحف نحوالمدينة، ولما لم يستطع العلماء إيجاد تفسير منطقي لسلوكياتها الغريبة يمكن من خلاله إيجاد العلاج الملائم لها، قرروا تدميرها.
لا شك ان إيحاءات من هذا النوع، ما كانت لتجد صدى يقبل لدى الآخرين على علاّته، لو لم تتوفر نماذج وشواهد كثيرة، أظهرت بمجملها أن بعض تلك الإيحاءات لم يكن مخطئاً بالكامل، فما الذي يدفع مهندساً يشغل وظيفة مرموقة في بلد غني ، عاش فيها سنوات طويلة بأمن وسلام، ثم يفجر نفسه في رواد للمسرح، بل ما الذي دفع الأردني “رائد البنا” إلى قطع آلاف الأميال تاركاً دراسته وعمله في أمريكا، ليرتكب مجزرة مدينة “الحلة” بحق عراقيين أبرياء، ثم تتجسد الكراهية بالإحتفال بما قام به، هل يمكن لأيما نظرية أن تفسّر سلوكيات من هذا النوع؟ وهل يمكن لأيما “آخر” أن يكرهنا بأكثر من ذلك؟ .
لقد تجاوزت الكراهية كونها آيديولوجيا أو أحدى مكونات الهوية، لتدخل من ثم في مناطق مجهولة قد يتولد فيها (دين) جديد، ليصبح البحث عن إيجاد توصيف لهذه الكراهية، ـ في نظريات العلم كما في إجتهادات الفقه أو مقولات الموروث ـ ضرباً من المستحيل، فالآيديولوجيا في المحصّلة هي بناء فكري يبحث عن تحقيق هدف ما، أما الهوية فتثبيت في المعنى، أوتشخيص لخصوصية حضارية ـ أيّاً يكن شكلها وأحقيتها ـ أما ما نمّر به اليوم، فينبغي إستخراجه من مرويات الخرافة، بعد تجريدها من كل أبعادها الأدبية والجمالية.
لقد بذلت أوربا جهودا ًجبارة لتنفض عن كاهلها “كراهية” محاكم التفتيش والحروب الصليبية وكوارث النازية والفاشية، لتضع مكانها القدرات الكامنة في مقولة ديكارت عن ربط الوجود الإنساني بإنتصارالعقل “أنا افكر، إذاً أنا موجود” كذلك حوّلت اليابان كراهيتها للأمريكي، إلى طاقة منتجة بعد أن أعادت صهرها بمصاهرالعقل.
لكن، لا تقدم الأمثلة المذكورة شيئاً لواقعنا كعرب، إذ سنجد على الدوام أعداداً لاتحصى من كتّابنا ومرجعياتنا الفقهية أو السياسية، تطالبنا بأن نلتزم بمقولة “أنا أكره، إذاً أنا موجود” فهي قد تكون المرة الأولى التي تجتمع فيها (أمة) خلف كراهيتها، لتطرح جانباً حتى أسئلة “فضولية” عن ماهية الآخر، وأيّ جانب فيه، هو الأجدر بكراهيتنا أولاً: سياسته، أم إقتصاده؟ تفوقه المادي، أم قوته العسكرية؟ وكيف نتعامل مع منجزاته الحضارية التي دخلت في أدقّ مفردات حياتنا؟ ثم ماهو الإستثمار المتوقع لهذه الكراهية؟ هل بالإمكان تحويلها إلى فعل خلاّق؟ أم ستبقى “سلاحا ” للتدمير الذاتي كما تبدو عليه اليوم؟ خاصة بعد أن إختلقنا “الآخر حتى من داخلنا.
ليس من المفترض أن تقاس عطاءات الشعوب بمخزون عواطفها، بل بمنتوج عقولها، والأمة التي تعجز عن تقديم مساهماتها على هذا الصعيد، لابد أن تصل إلى مرحلة تجد نفسها وقد تحولت أوحولت، الى مجرد “حديقة ديناصورات” تهدد المدنية.
لم يكن حديث (الكراهية) مجرد لفظ يقال ويمضي، إذ نبتت له قرون وأجنحة ومخالب وأنياب كتنين خرافي، فالأقلام التي صبتّ حممها على العراق، كانت بأعداد لايمكن حصرها، الى درجة أن مجرد الإقتراب من محاولة تفسير معقول لهذه الظاهرة، سيحتاج إلى زمن طويل والى أعداد معتبرة من علماء النفس والإجتماع والتاريخ والأنثربولوجيا وعلماء الدين المتنورين ـ بل وربما خبراء في الجغرافيا كذلك ـ للإجابة عن سؤال كيف يمكن لبلد كان على دوام أزمنة طويلة في هذه الأمة، مبعث فخر ومصدر إعتزاز، ثم ينقلب الحال إلى مصدر غضب وحقد عارم صادر العقول وذهب بالإدراك؟ لابد ان هناك خزيناً متراكماً وجد الفرصة ليخرج عنيفاً مدمراً لم يترك مجالاً للتوقف ولو لحظات للنظر في مصير هذه الهستيريا المنصبّة ، تارة على العراق ، وطوراً على كلّ الآخرين – بما فيهم الشريك في الوطن الواحد- .
أنها المرّة الأولى التي تتحول فيها الكراهية من حالة شعورية – أو لاشعورية – مؤقتة وفردية في الغالب ، إلى هستيريا جمعية مركبة ومتداخلة يتم التنظير لها وإدخالها من ثم في مجال اشتغالات الفلسفة تارة ، ومقومات الدين من جانب آخر لتخلق إلهاً دموياً خالصاً متعطشاً لرؤية الأشلاء البشرية .
التضحية بالبشر لإرضاء إله غاضب في المعتقدات الوثنية ، كانت تتعلق بإله الحرب وحسب ، أما بقية الآلهة ، فلم تكن بحاجة إلى تضحيات بشرية ، بل تكتفي بالعبادات وتقديم النذور مما يجنى أو يملك من خيرات الأرض ، وقد جاءت قصة النبي إبراهيم وتضحيته بالكبش بديلاً لإسماعيل ، إسقاطاً رمزياً للدلالة على انه لايمكن لإله تحت أي منظور ، أن يقبل أضاحيَ من البشر ، لكن الإرهاب ودعاته ومفتيه ، إخترعوا إلهاً لم تشهده البشرية بكلّ تاريخها ، سواء الديني/ المعتقدي ، أو السياسي / الاجتماعي .
إن الإرهاب بمحصلته ،أخطر مايمكن أن تفرزه المجتمعات نتيجة أورامها أو إمراضها ، إنه بمثابة قيء ينتج عن معدة اجتماعية غير سليمة تحاول التخلّص منه ، لكنه قد يصيب الجسد الاجتماعي كله بالتسمم إذا ماتمكن منه واستفحل فيه وبالتالي قد يتحول إلى مرض سرطاني يهدد حامله بالموت .