23 ديسمبر، 2024 12:29 م

الإرهاب ، لماذا العراق بالذات ؟!

الإرهاب ، لماذا العراق بالذات ؟!

في أيام الإعدادية ، طلب منا مدرّس اللغة العربية الأستاذ (صادق) ، موضوعا إنشائيا تحت عنوان (الذبابة لا تحط على قدرٍ يغلي) ، ودارت الأيام بما فيها من هزائم وإندحارات ، وحروب ورعب وإستبداد وإحباط ، وطيلة كل هذه العصور المظلمة ، لم يغب عني المعنى العميق لهذه العبارة حكمةً ومغزىً بكل ما بها من أسرار تجيب عن تساؤلات لا تُعد ولا تُحصى ، تلك التي جعلتنا أتعس شعوب الأرض ، نعم لم تخبو النيران طيلة حياتنا ، لكنها أوقدت لإلتهامنا ، لا لتطرد الذباب المتربص بنا !.
لقد صار أحدُنا مثل حشرة ، بلا جهاز عصبي ، بلا حواس ، فقدت حتى قرون الإستشعار ، فلم تعد تميّز بين الظلمة والنور ، فكيف لها أن تميّز بين الحق والباطل ؟ ، صرنا نتلمس طريقنا (إن كان لدينا طريق) ، ونحن لا نتحسس العوائق والموجودات إلا بالإصطدام بها ! ، فتجبرنا على تغيير المسار ، ودون البحث الجدّي عن حل لمشكلة ما ، صرنا ننصب الجداريات لرموز مقدّسة لا لشيء سوى لمنع تراكم النفايات ! .
الإرهاب صناعة مزدهرة ، ومشروع عالمي معروف جيدا ، ومن المؤكد إن العراق تحديدا مُستهدف بهذا الإرهاب ، لأسباب ثأرية وطائفية وإقليمية بل وإقتصادية عديدة ، لكن هذا ليس مبرر لكل هذا الكم من الفشل في الأمن والإعمار ، فكل عواصم العالم هدف لهذا الإرهاب ، لكننا نرى أنه ليس بمقياس وكثافة وعنف الإرهاب في بلدنا ، ليس مبررا أن تكون هيبة الدولة مسخرة ونكتة يتندّر بها الجميع ، ليس مبررا أن يصبح بلدنا أضحوكة تاريخية أمام الجنس البشري ، ولو كان لدينا شيء من الرغبة الحقيقية في التغيير ، ما تسلّط علينا أفراد نكرات مجهولون متعددو الجنسيات دون مؤهلات ، لكني أعود وأقول ، أن هؤلاء قد جاءت بهم صناديق الأقتراع ! ، إنها دائرة مغلقة حسب قاعدة (كيفا تكونوا يولّى عليكم) ، فهؤلاء إختصروا الجانب المظلم الكالح بكل ما فيه من سلبيات لشخصية الفرد العراقي ، الذي كُتب عليه أن يولد وهو يقاتل بالنيابة عن العالم ، وهو يعاني من الإحتضار الطويل ، هكذا ترعرع الإرهاب بين ظهرانينا ، لأنه وجد الأرضية الخصبة والرعاية كي يتفاقم ، فما أكثر السمّاعون للفتن بيننا وما أكثر منظريها ، كيف لا ، ونحن مجتمع متناحر وغير متماسك ، أثبتنا إننا لا نمتلك مناعة من الأمراض المنقولة بهذا الذباب ، إختفى من مجتمعنا الشعور بالمواطنة ، وتفشت فيه أعراف عشائرية دخيلة أغرب من الخيال ، فإن غاب الإرهاب عن منطقة ، ظهر إرهاب من نوع جديد ، هو الإرهاب العشائري ! ، ومنطقة الشرف لدينا ضيقة جدا تقع تحت الحزام ليس إلا ! ، وحتى هذه المنطقة تمردت على (إيواء) هذا الشرف المزعوم ! ، لُدِغنا من جحورنا مئات المرات ولا زالت جعبة الدروس والعِبَر لدينا خاوية ! ، نحن أمة لديها أكبر عدد من الوعّاظ في العالم ، مواعظ قد تطرق أسماعنا ، لكنها لا تستقر في أدمغتنا ، نحن أكثر أمة على وجه الأرض ، تسأل عن الحلال والحرام لمجرّد السؤال ، فأطلقنا لحايانا لأن حلاقتها حرام !، لكننا آوينا شيطانا خلف كل شعرة ! ، نحن أكثر أمة على وجه الأرض ، يحدث فيها (الفرهود) وكأنه دورة فلكية ! ، إلا أن تراخي الدولة ، جعلت من الفرهود هذه المرة ، مفتوحا وساري المفعول لحد هذه الساعة ! ، نسينا المعاملة الطيبة وحسن الظن ، نسينا حسن الجوار ، هجرنا آداب الحوار ، فلا نفكّر إلا بنسف المقابل لأنه يحمل فكرة مغايرة ! ، إنعكس هذا الوضع السوريالي على أحيائنا التي صارت كالمقابر ، فأغتُصبت الأرصفة ، وتحول المنزل الواحد إلى خمسة بحجم قن الدجاج ، لن تجد زقاقا ، إلا وإكتظ بالمواد الإنشائية وأكوام الرمال والأنقاض طيلة أيام السنة ، والمساحات الباقية ، نفايات وعشوائيات وحواسم ! ، أثبتنا إننا غير ميالين لإحترام الأعراف ، نتمرّد على القوانين بمجرد أن يخفض الجلّاد سيفه ، فالتمرد على القوانين وإغتصاب حق الغير مقياس للرجولة عندنا ! ..
فلو عرف هذا الذباب ، أن هنالك شيء من اللّحمة الوطنية والتكاتف والحرص والعقلية المسؤولة والوعي الوطني ، لو عرف إننا شعب متحضر يتحلّى بشيء من النزاهة ويحترم القانون حتى بغياب الرقيب مثل كل أمم الأرض ، ما حطّ على ذلك الجسد المتفسخ فملأه قيحا من الصعب جدا علاجه !.
هكذا تنازلت الأغلبية المسحوقة عن حقوقها لصالح أقلية أترفت بجنون ، وأختفت الطبقة الوسطى من مجتمعنا ، وهذا عار في كل دول العالم لأنه عنوان الفشل الإقتصادي والسياسي ، أغلبية لا هم لها سوى البحث الدائب عن رغيف الخبز ، يلاحقها إبتزاز الفساد وشبح الموت والإرهاب حثيثا ، أغلبية سُلبت كل شيء ، حتى الحق في الحياة الغير العادلة إلى درجة العُهر بفضل هذه الأقلية ، فأنطبقت علينا وعلى الدوام ، حكمة الإمام علي (ع) : (الدنيا إذا أقبلت على المرء ، أعارته محاسن غيره ، وإن أدبرت ، سلبته محاسن نفسه) .