يُعدّ العراق بمثابة مستودع ضخم للأفكار والنظريات والمقولات التي مازالت مخفية في ثناياه بانتظار الكشف عنها وتقديمها من ثم كمنهج للدراسة والتحليل .
من هذه الأفكار مايورد من حديث عن ( المجتمعيات العراقية) وكيف يمكن وضعها في إطار نظري تتوضح من خلاله المقصود من ذلك ، ولماذا إستوجبت طرحها على هذه الشاكلة ؟.
بداية ، ماالذي يخلق الإشتقاقات ؟ إن في معناها المصطلحي ؟ أوفي تشخيصاتها العملية ؟
انطلاقاً من السؤال ، سنفترض ان ازدحام المصطلح بتعدد المعاني وتشعبها ، يجعله عاجزاً عن الإحاطة بما وضع أساساً للتعبير عنه، أو توضيح التفاصيل التي قد تطغى على مشهديته العامة ، بمعنى ان المصطلح المتخصص قد إستنفد أغراضه ، وبالتالي لابدّ أن يخلق إشكالية في الفهم والتباساً في المفهوم ، إذا استخدم بصيغته الوظيفية السابقة ، ما يتطلب إستيلاد مصطلحات مشتقّة من المصطلح ذاته ، للتعبير من ثم عن جزئيات أو تفصيلات تمثل أركاناً جوهرية لايستقيم المعنى من دون حضورها .
لم يعد مصطلح (المجتمع ) ، يفي بالغرض عند دراسة الأوضاع المتشابكة للشعوب ، خاصة بعد ظهور مشكلات بنيوية تشي بانشقاقات وانقسامات خطيرة قد تؤدي – أو هي قد أدت فعلاً – إلى قيام كيانات مستقلة ، بعد أن تتحول فيها المجتمعيات السابقة ، إلى مجتمعات ، تتكون بدورها من مجتمعيات ، وان باختلاف ما إنقسمت عنه .
(المجتمع ) كمصطلح ومفهوم ،لم يكن محلّ خلاف كبير في مدلولاته ومعانية العامة ، إذ من المتفق عليه ان يُقصد في تعريفه :جماعات من البشر تسكن بقعة جغرافية معينة ،ترتبط من خلالها بعلاقات إقتصادية وروابط إجتماعية ، ينشأ عنها شعور مشترك وإحساس بالإنتماء والإلتزام من ثم بنظام يشرف على ترتيب علاقاتها وتنسيق نشاطاتها والحفاظ على أمنها ، إن بواسطة دولة إذا كان ذلك المجتمع قد وصل مرحلة بناء المدن ومن ثم إنشاء دولته الخاصة ، أو كان طور البناء أو في مرحلة ماقبل المدنية ،حيث ينتظم ضمن سلطة من نوع آخر كالقبلية بأعرافها أو الإقطاعيات بأحكامها .
تلك هي المنظورات العامة لمفهوم المجتمع ، وهي تحمل في أهم مفاصلها معنى سياسياً ، أي ان الجماعات كي تصبح مجتمعاً ،لابد لها من مواصفات كيانية خاصة ، يأتي في مقدمها مساحة أرض تمارس عليها سلطتها أو سيطرتها بواسطة نظام حكم من نوع ما ، ثم ما ينتج عن ذلك من إشتقاقات .
ولكي تتضح الصورة في هذا المنحى ، يمكن وضع كلّ من المصطلحات المذكورة ضمن تراتبية السياق التالي :
1- المجتمع : جماعات من الناس تضّمها أرض ذات حدود سياسية ودولة موحدة تمارس سيادتها على تلك الأرض.
2- المجتمعية : جماعة من المجتمع ذات خصوصيات ثقافية أو إثنية أو دينية أو لغوية معينة ، تمارس نشاطها ضمن الدولة (2) .
3- الفئة – قسم من المجتمع أو المجتمعية ، تتميز بتقارب في المستوى الثقافي أو التعليمي أو الوظيفي .
4- الشريحة – فئة من أصحاب المهنة الواحدة متقاربة في الدخل المادي.
تلك إطلالة أولية لاشك انها بحاجة إلى إشتغالات أخرى كيما تصبح من ثم أكثر إحاطة بموضوع آخذ بالتعقيد والتشابك ، إذ لم يعد مجدياً إستخدام كلمة (مجتمع ) لوصف شعوب ترتدّ نحو مكوناتها مادون السياسية أو خارج أنساقها المعروفة ، ذلك لأن إستخدام مصطلح كهذا ، لم يعد يعني شيئاً محدداً ، إذا أريد لتشخيص الأوضاع في بلد ما ، أن يقترب من الدّقة ، من دون الإغراق في العموميات غير المختلف عليها .
لم يكن الحديث عن ( المجتمع ) السوداني مثلاً ، وقبله اليوغوسلافي والتشيكوسلوفاكي – وربما غداً البلجيكي وسواه -يلاقي الكثير من الإعتراضات في إطلاق تلك الصفة الفضفاضة ،لكن الوقائع اللاحقة أثبتت بشكل قاطع ،ان الصفة المذكورة ، كانت مجرد يافطات آيديلوجية لشعارات سياسية تخفي تحتها حقيقة أن هناك مجتمعيات مختلفة جُمعت قسراً ، وما أن لاحت لها فرص العودة إلى حقيقتها ، حتى أعلنت عن نفسها بإنفصالات، بعضها كان عنيفاً دامياً ، وبعضها تم بطلاق سلمي ، فيما ينتظر البعض الآخر مصائر مشابهة .
ان مصطلح (مجتمع) لايجد مدلولاته الحقيقية، إلا في بلدان قطعت شعوبها مرحلة في طريق بلورة هويتها الوطنية ، ليصبح فيها الإنتماء الوطني أكثر تماسكاً من الولاءات الفرعية – أوبمستوى معادل على الأقل – أما البلدان التي ماتزال تعاني قلقاً في إنجاز هويتها الوطنية الجامعة ، فالأصح للتعبير عن أوضاعها إستخدام صيغة ( الإجتماع) الذي يمكن إعتباره بمثابة مرحلة إنتقالية :أما نحو إستكمال بناء الهوية الوطنية ، أو تراكم الحيثيات لإنفراط لاحق .
في هذا المنحى ، يبرز العراق كواحد من الأمثلة الحيّة ، الأمر الذي من شأنه أن يدفع إلى القول ، بأن العراق لم يشهد صياغة تتعدى مايصح ان نطلق عليه ( الإجتماع العراقي ) وذلك طوال تاريخه الحديث ، الذي لم يصل فيه إلى مرحلة بناء المجتمع بالمعنى السالف ذكره ، وان المجتمعيات بقيت هي الأكثر حضوراً في الجوهر ،على الرغم من محاولات تغطيتها بغلاف من الهوية الوطنية ، حسبما رأتها الأنظمة المتعاقبة على حكم البلد.
مماورد أعلاه يمكن الإستنتاج ان هناك نوعين من البلدان :
1- مجتمع متبلور ومجتمعيات متفاعلة – شأن البلدان المتطورة إقتصادياً وسياسياً والمنسجمة إجتماعياً ووطنياً – (3).
2- إجتماع حائر ومجتمعيات قلقلة – في البلدان المتخلفة إقتصادياً، والمتنوعة سكّانياً، والمحكومة دكتاتورياً-.
ذلك لايعني بحال ، ان جميع المجتمعيات في بلدان ( الإجتماع الحائر) مرشحة للتحول الى مجتمعات يستقل كلّ منها بدولته الخاصة ، ذلك إحتمال متعلق بشروط أكثر قد لاتتوفر لكل مجتمعية بالضرورة ، منها: أن تكون للمجتمعية حركة سياسية ترفع مطالب محددة من ضمنها الإنفصال ، وان تسيطر على مساحة من الأرض يمكن من خلالها أن تمتلك مقومات التحول إلى دولة ، كذلك أن تكون تلك المجتمعية ذات أكثرية ساحقة على بقعة الأرض المذكورة أو أن تتفق بالأهداف السياسية مع المجتمعيات التي تعيش على الأرض ذاتها ، كما عليها إختيار الظروف المناسبة التي تضمن إعترافاً دولياً وقدرة على الدفاع ، فيما لوقرر الإجتماع العام ، رفض الإنفصال، أو كان دستور الدولة لايسمح بذلك ، ما يحول الإنفصال الى حركة تمرد ، كذلك فيما لو كانت هناك ثروات طبيعية مشتركة في الجغرافيا لايمكن لمجتمعية الإستيلاء عليها بشكل منفرد ، وإلا تسبب ذلك بحرب ، قد يجد المنخرطون صعوبة في إيقافها أو حصرها، من دون تنازلات قد يعتبرها كلّ طرف مؤلمة له أو مجحفة بحقه .
في هذا المنطلق ، يعتبر العراق من البلدان النموذجية لمعنى المجتمعيات التي تمتلك ثلاثة منها ، بعضاً من مقومات التحول إلى مجتمع – أي الإستقلال في دولة خاصة – وان ضمن شروط لاتبدو متوافرة ، فالمجتمعية الكردية في الشمال ، تسير بخطى متسارعة لتشكيل مجتمعها الخاص ، وقد قطعت في ذلك أشواطاً مهمة ، فهي تمتلك مساحة أرض تسيطر عليها بواسطة حكومة ومؤسسات مكتملة الصلاحية ، كما ان لها جيشها ومواردها الإقتصادية ، أي معظم ما تحتاجه المجتمعيات لتقيم دولتها ، لكن المشكلات التي تعترض الكرد ، تبدو صعبة التجاوز ، فالمجتمع الكردي لا يخلو من مجتمعيات أخرى : عربية – تركمانية – إزيدية – شبكية – كلدو/آشورية – لاتشارك المجتمعية الكردية طموحاتها ، وبالتالي فتلك المجتمعيات –أو أكثرها – لاتبدو مستعدة للتضحية بكونا جزءاً من إجتماع يمتلك مقومات الثبات والعراقة كالإجتماع العراقي ، من أجل الإنتقال من ثم الى مجتمع جديد، لم تتوضح ملامحه المستقبلية، ولا مرتكزاته الأساسية بعد .
ثم ان تلك المجتمعيات لن تكسب شيئاً في حال تحولت الى جزء من المجتمع الكردي ، بل ربما خسرت بعض خصوصياتها القومية أو الثقافية في ظلّ (مجتمع) لايخفي نزوعه نحو الهيمنة واعتباره الأرض التي تشاركه فيها تلك المجتمعيات ، ملكاً خالصاً يطلق عليها (كردستان – أرض الكرد) ، في مقابل (مجتمع ) عراقي أكثر انفتاحاً، وبالتالي تحتفظ فيه المجتمعيات بتسمياتها وخصوصياتها بإعتبارها جزءا ً من وطن إسمه العراق ، من دون إسقاطات حصرية لقومية بعينها ، ما يتيح الإنتماء إليه بلا شعور بالمصادرة ، كذلك لاتقدم المجتمعية الكردية نظاما سياسياً أفضل مما يقدمه الإجتماع العراقي في ظلّ الديمقراطية ، كي يتوفر الدافع للمجتمعيات المذكورة ، في مشاركة الكرد مايريدونه من التحول إلى مجتمع خاصّ، كما إن المجتمعية الكردية ، تنقسم بدورها الى إثنيات رئيسة ثلاث: الكورمانجيين والكورانيين والسورانيين ، ولكل ّ منها خصوصياتها الثقافية والمجتمعية المختلفة عن الأخرى ، ثم ان كلمة (كرد) بحدّ ذاتها ، تعني صفة لساكني الجبال ، وليس عرقاً أو قومية بالضرورة (كور – جبل بالسومرية ).
تلك ليست موضوعات عابرة يسهل تجاوزها ، إذا ما أرادت المجتمعية الكردية التحول إلى مجتمع ، وهو مايهدد بعدم الإستقرار فيما لوحاول الكرد حصر المجتمعيات الأخرى ضمن مشروعهم ، كما حصل مع العرب بشعاراتهم القومية التي جسّدها نظام البعث .
المجتمعية الشيعية تبدو أقل إشكالية من الكرد ، فمناطقها في الجنوب والفرات الأوسط ، تتكون بأغلبيتها الساحقة من قبائل وعشائر عربية ، وهي متجانسة مذهبياً ومتقاربة إجتماعياً، وبالتالي لاتعاني من وجود قوميات أو أعراق أخرى، بل حتى السّنة في تلك المناطق ، انما يتحدرون من العشائر العربية ذاتها التي يتحدر منها الشيعة ، والعربية هنا تعني إنتماءاً الى عرق بعينه أو جدّ مشترك .
أما المجتمعية السنيّة ، فينطبق عليها ما ينطبق على المجتمعية الشيعية من مواصفات عامة ، مع الإستثناءات المتمثلة بإشتراكها في بعض المناطق مع القوميتين الكردية والتركمانية إضافة الى الكلدور آشورية والشبك وسواهم – خاصة في الموصل وديالى وكركوك – .
المجتمعيات العراقية ، باتت تمتلك من الدوافع والمقومات ، مايؤهلها الإنتقال من حالة الإجتماع إلى صيغة المجتمع ، بمعنى انها ترى نفسها للمرّة الأولى في تاريخها الحديث، قادرة بخيارات حرّة ، على إعادة إنتاج هويتها الوطنية وفق معايير حديثة متطورة – دستورياً وسياسياً – فتوافر المشاركة في بناء الدولة من دون مصادرة لطرف على حساب آخر ، وشعور جميع المكونات بضعفها الخاص وقوتها العامة ،مع تكامل في الجغرافيا وتقاسم في الثروات ، كلها عوامل تساهم في التقدم نحو بلورة (المجتمع) .
وبتفصيل تلك الحيثيات ، يُظهر ان إنفصال المجتمعية الشيعية ، سيعرضها لضغوط شديدة من دولة مجاورة – إيران – في سبيل البحث عن مواقع ونفوذ مؤثرين داخل الكيانية الناشئة ، ما يهدد بفقدان المجتمعية الشيعية العراقية ،خصوصيتها السياسية والوطنية ، وتحولها من ثم إلى جزء تابع لمجتمعيات في دولة أخرى قلقة بدورها .
المجتمعية السنية لاتخلو من إشكال أشد خطورة ، فسوف تتعرض لضغوط مختلفة الإتجاهات : تركيا- سوريا – السعودية – وكلّ من هذه الدول بمجتمعياتها غير المستقرة ، ستحاول جذب المجتمعية السنية الناشئة ، لتكون جزءاً منها أو دائرة في فلكها ، ما يفقدها كذلك خصوصياتها الوطنية والسياسية على حدّ سواء .
القراءة الموضوعية للمكونات المجتمعية والجغرافية العراقية ، تشير إلى أن خيار التحول وفق معادلة : مجتمع متبلور ومجتمعيات متفاعلة – آنفة الذكر – يملك مصاديق واقعية لبناء مستقبلي ، على رغم ماظهر من تصدعات في مراحل سابقة ماتزال تجرّ بعض مفاعيلها .
(*) : في مقابلة تلفزيونية مع رئيس الوزراء العراقي السابق إبراهيم الجعفري ، ذكر فيه ( المجتمعيات ) بصفة عامة ومبهمة من دون أن يوضح ماهيتها وخصائصها وما المعنى منها .
أما عن العلمانية ، وهل يمكن اعتبارها مجتمعية بدورها ؟ فيمكن القول ان العلمانية بما هي إطار للحكم يقضي بفصل الدين عن الدولة ، فإنها قد تسهم في بناء ( المجتمع ) إذا كانت خياراً سياسياً للأكثرية المجتمعية في بلد ما ، لكنها لاتمثل بذاتها مقوماً مجتمعياً – إلا إذا تحوّلت إلى (عقيدة ) ليست من خواصّها أساساً ، كون العقائد والمعتقدات والثقافات ، تعتبر من المقومات الرئيسة في تمايز المجتمعيات.
(1) يفترض هنا ، الاّ تحمل الدولة صورة خاصة عن مجتمعية بعينها ، بمعنى أن تبقى هوية الدولة معبّرة عن وظيفتها السياسية ( الإجتماعية ) لا تجسيداً لهيمنتها المجتمعية ، ويحدث ذلك حين يتحول مفهوم الأكثرية والأقلية ، إلى معنى سياسي متغيربواسطة أحزاب أو كتل وطنية ، بدل إعتماده على الخصوصيات المجتمعية الثابتة ، ان على الدولة أن تحمي خصوصية المجتمعيات بما يقرّه الدستور -المنبثق عن إختيار حرّ – من دون ان تتبنى أيّاً منها كهوية حصرية ، أو تمنح إمتيازاً لأحدها على حساب أخرى .
كما يمكن للمجتمعيات ان تكون موزعة في أكثر من دولة ، تشعر كلّ منها بتقاربها مع المجتمعية المشابهة لها ، ما قد يتطور إلى قيام كيانية سياسية خاصّة ، إذا كانت تتشارك في التوجهات ذاتها ، وبظروف مناسبة لكلّ منها .
(2) لم تتخلص المجتمعيات حتى في الدول المتطورة ، من العودة الى التمسّك بخصوصياتها مهددة بإنشقاقات سياسية واجتماعية – كما يحدث في بلجيكا وإسبانيا وكندا وغيرها – وربما يعود ذلك في جزء منه، الى إستنفاد دولة العقد الإجتماعي لدورها الذي أدتّه بفعالية طوال القرنين الماضيين ، وبالتالي بحث الشعوب عن شكلّ آخر لمعنى الدولة .