22 ديسمبر، 2024 2:42 م

الإبداع الخبيث وسطوة السفاح

الإبداع الخبيث وسطوة السفاح

يزخر الكون بعجائب تجبر الأفواه أن تتدلى من هول الصدمة. لكن فيما يبدو أن الإنسان يتناسى عجيبة طبيعته المركبة التعقيد، التي تستلزم دراسات مستفيضة حتى يمكن فهم ولو القليل عنها. ومن أعقد ثنايا النفس البشرية هي عملية “الإبداع”، التي هي بالأساس إلهام جارف للتعبير عمَّا يجول بالنفس بطريقة تمس وجدان الآخرين وتنفخ في أرواحهم قبسًا من نفس الشعور الذي كان يموج بنفس المبدع عند ابتداعه لعمله الفني.
لكن عملية الإبداع لم تخلو من التعقيد الذي يحيط بالنفس البشرية؛ فهناك نوعين من الإبداع، وكلاهما يناقض الآخر. النوع الأول، وهو المتعارف عليه، يسمى ب”الإبداع الحميد”Benevolent Creativity ، وهو ذاك النوع من الإبداع الذي يحاول أن يفيد الآخرين قبل أي شيء مع إضفاء لمسات من الجمال تشع بنورها على كل من يشهد أو يمسّ هذا العمل الإبداعي. ومثال على ذلك، اللوحات الفنية والمنحوتات والمقطوعات الموسيقية والغناء والكتابة بجميع أشكالها، وما شابه تلك الأعمال. أما النوع الآخر، فهو “الإبداع الخبيث” Malevolent Creativity والذي يعمل على تطبيق الأفكار الإبداعية من أجل إيذاء الآخرين عمدًا، والاستمتاع بآلامهم. وذاك النوع من الإبداع الغرض منه هو إمتاع صاحبه فقط ويتميز بالأنانية الشديدة. وكلما كان حجم الإيذاء عظيمًا، كلما زاد حجم نشوة المبدع الخبيث، وشعر أنه أنجز عملًا إبداعيًا هائلًا يفتح شهيته على تنقيحه مع ضحايا أخرى. ويكمن “الإبداع الخبيث” في شخصيات الثالوث المظلم التي تكون بطبيعتها غير قادرة على التكيُّف مع الآخرين وينجم من ذلك عواقب نفسية اجتماعية سلبية تجعل من العدوانية والتسلط والإجرام بجميع درجاته عنوان لها.
ولقد أثار دهشة الباحثين أن أغلب الذين حكم عليهم في قضايا إجرامية، من قتل وقتل متسلسل واغتصاب وسرقات بالإكراه وما شابه، أن عند إيداعهم بالسجون كانوا يجنحون أكثر لتمضية أوقاتهم في الأعمال الفنية، حتى ولو كانت تجميع خرز أو طهي أو صنع حلويات؛ ذلك لرغبتهم في تفريغ طاقتهم الإبداعية الخبيثة، التي لا سبيل لممارستها في ابتداع عمل فني آخر ملموس يرضي غريزتهم الفنية ويزيدهم شعورًا بالفخر.
ولم يخلو تاريخ البشرية من وجود العديد من كبار الساسة الذين اشتهروا بهذا النوع من “الإبداع الخبيث”، والذي كانوا يسيطرون عليه بين كل حين وآخر بالتعبير عنه في صورة عمل أدبي. ومن أشهر الشخصيات السياسية التي اشتهرت بقسوتها المفرطة لدرجة جعلتها تفوق وحشية القتلة المتسلسلين، كان الرئيس “جوزيف ستالين” الذي حكم الإتحاد السوفياتي السابق من 1922 إلى 1953 بالقهر والتعذيب وزجّ الأبرياء في سجن الجولاج بسيبريا، لكنه كان يشتهر بكونه أديبًا ورياضيًا يمارس هواياته في أوقات الفراغ، التي تتخلل قتل وتعذيب من يشتم معارضته. أشعاره التي كان ينظمها في مستهل شبابه، كان موضوعها رثاء البائسين والمظلومين. وتنساب كلماته الرقيقة فتجبر السامع أن يذرف الدمع من رقَّتها وعذوبتها. وبنفس الطريقة، كان الزعيم النازي “أدولف هتلر” (1889-1945)، الذي وضع العالم بأكمله في محرقة من الوحشية والدمار خلال الحرب العالمية الثانية. والغريب أنه التحق بالجيش بعد فشله في الالتحاق بكلية الفنون ليصبح رسامًا. لكنه لم يتخلَ عن حلمه الإبداعي بعد عبور بوابات السياسة، وكانت أولى خطواته الإبداعية كتابه الشهير “كفاحي”، ومن بعدها خطبه العصماء وطريقته التمثيلية التي أقنعت حلفاؤه والملايين من الشعب الألماني بأفكاره.
ولم يخلو تاريخ العرب من شخصيات مماثلة خبيثة الإبداع، قد يقف عندها البعض وهم لا يجزمون ما إذا كانوا ظالمين أم مظلومين. ومن أشهر الشخصيات المثيرة للجدل كان “الحجاج بن يوسف الثقفي” (660-714 م) الذي المعروف بالظلم والدموية بالرغم من حنكته الإدارية وقدرته الفائقة على قيادة الفرقاء وتطويعهم. وظهرت موهبته الإبداعية في شكل لسان فصيح مكَّنه من نظم الأشعار، وكتابة خطب بالغة الأثر في نفوس سامعيها، والتي كان يتفنن في نظمها وفقًا لكل مناسبة، ومن خلالها يرسم لوحة فريدة من الطاعة. وبعيدًا عن سيرته السياسية التي يتناولها الباحثون بالتحليل، سوف يتركَّز الحديث عن فصاحته وحسن بيانه؛ لأنه أديب جدير بالتحليل للوصول لأعماق شخصيته.
كانت نشأة الحجاج بن يوسف الثقفي كريمة حيث كان والده ورعًا تقيًا، علَّمه القرآن حتى حفظه في سن صغيرة؛ حيث كان والده يمتهن تحفيظ القرآن للصبيان في الطائف. ولمَّا اشتد عوده، سار الحجاج على درب أبيه وامتهن تحفيظ القرآن للصبية. وإن لم يقنع بهذا؛ فاتصل بقبيلة هزيل المشهورة بالبيان والفصاحة، لكن فاقها الحجاج، حتى أنه اشتهر بين العرب بقوة بيانه وفصاحته، حتى قال عنه عمرو بن العلاء: “ما رأيت أفصح من الحسن البصري والحجاج.” وبسبب فصاحته تلك، استطاع الحجاج أن يؤثِّر في الرعية ويجبرهم على طاعته ، فهو من وضع حدًا للفتن الطائفية وجمع الفرقاء تحت لواء الدولة العباسية.
وفيما يلي بعض مختارات من أقواله التي تغوص في نفسيته المركبة، وتفضح القائد الدموي البليغ. ففي قوله: ” إنَّ امرءً ذهبت ساعةً من عمرهِ في غيرِ ما خُلقَ لهُ لَحَرِيٌّ أن تطولُ عليها حسرتُهُ إلى يومِ القيامة” يلاحظ أن الحجاج هنا يرتدي عباءة الشيخ الورع الذي يحض سامعيه على اتباع الطريق القويم والرجوع إلى الله وإلا ندم سواء في الحياة الدنيا أو الآخر من غضبة الرحمن. إلا أن ذاك النصح والإرشاد اللين هو تورية تكتنز تهديد ووعيد لمن يجرؤ على مخالفته حتى ولو لوهلة؛ لأن ذلك لن يكلِّفه حياته فقط، بل راحته لدرجة تجعل من الموت أمنية صعبة المنال.
وكانت خطبته في أهل العراق من أشهر الخطب التي تلاعب فيها بعقول السامعين. فبعد ديباحة قصيرة، كان مفتتح حديثه بيت شعر يجعل منه أحد الزاهدين : “متى أضع العمامة تعرفوني/ أنا ابن جلا وطلاع الثنايا”، لكن معرفته تلك لا يقصد منها التواضع، بل تذكيرهم بأنه قاتل يسفك الدماء بلا رحمة. وأما عن متن الخطبة نفسها، فلقد صنع بها ما يستحسن تسميته ب”تعجيم المعاني”؛ حيث كان يجاور كل جملة يقصد بها أنه خادمًا للشعب بأخرى يؤكِّد فيها أنه لسوف يرضي شهيته الشرهة على القتل وسفك الدماء إن فكَّر أحدهم في مخالفته.
لمعرفة مدى بلاغة خطب الحجاج، يجب تحليلها لغويًا بالتفصيل لكي يعلم القارئ أن الدماء صارت له مرتعًا، وأن سفكه السادي للدماء هو إرضاء لإبداع خبيث يسيطر على ذاته وينبلج في شكل إبداع أدبي فريد، حتى بمقاييس العصر الحديث.