زعزع صعود التيارات والأحزاب الشعبوية في الغرب “الديمقراطية” فكرة وممارسة ، وخصوصاً من جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، ناهيك عن ارتقائها دست الحكم في بولونيا وهنغاريا وتشيكيا وسلوفاكيا والنمسا وتعزّز نفوذها ومواقعها في فرنسا وهولندا وألمانيا وإيطاليا وشمال أوروبا في الدول الاسكندنافية.
وتبدو الحقيقة أكثر تعقيداً حيث تتآكل الديمقراطيات الغربية بسبب أوضاعها الداخلية وصعود موجات من التعصّب والتطرّف والعنف ضد الأجانب بشكل عام وضد المهاجرين واللاجئين المسلمين والعرب بشكل خاص، وتدريجياً وعلى مدى العقود الأربعة ونيّف الماضية، ولاسيّما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وتحوّل الصراع الأيديولوجي إلى شكل جديد ، اتّخذ أبعاداً مختلفة ، اعتبر الإسلام عدواً لا بدّ من استئصال شأفته تحت عنوان ” القضاء على الإرهاب “، خصوصاً وقد صوِّر الصراع بأنه “صراع تاريخي” تناحري بين الحضارات المختلفة حسب صموئيل هنتنغتون، وكان فرانسيس فوكوياما قد أطلق عليه ” نهاية التاريخ”.
لقد تهدّدت ” الديمقراطية” بانتقال السلطة إلى مؤسسات هيمنت عليها الطبقات العليا والشركات واللوبيات المتنفّذة ووسائل الإعلام وبعض الهيئات الأكاديمية والجامعية ومراكز الأبحاث الاستراتيجية التي تعمل في خدمة الجهات والمجموعات المتنفذة، أو ما يسمّى بـ”مجمّع العقول” أو “تروست الأدمغة” والذي عمل فيه وتخرّج منه كبار المسؤولين الأمريكان مثل هنري كيسنجر وزبيغينيو بريجنسكي ومادلين أولبرايت وكونداليزا رايس وغيرهم.
إن الديمقراطيات الغربية تمرّ اليوم بتغييرات جذرية أقرب إلى الانقلاب على بعض أسس الديمقراطية، خصوصاً الاستثمار في “عولمة اليد العاملة” والاعتماد على عمال من الصين وبعض دول شرق آسيا مقابل أجور أقل بما لا يقاس بالأجور التي يتقاضاها العاملون في الغرب، الأمر الذي انعكس سلباً على أوضاع الطبقة العاملة ، إضافة إلى أوضاع الطبقة الوسطى، حيث بات سوق العمل لهاتين الطبقتين يواجه صعوبات متزايدة للحصول على فرص وظيفية تمكّنهم من تحقيق مستوى معيشي أفضل.
وقد فوجئت “الديمقراطيات الغربية” مؤخراً باندلاع انتفاضة عارمة ضد “العنصرية والتمييز العنصري” إثر حادث اغتيال جورج فلويد الذي أشعلت استغاثته ” لا استطيع أن أتنفس” الضمير الإنساني حين كان جزمة الشرطي فوق رقبته؛ وامتدت الاحتجاجات من الولايات المتحدة إلى بريطانيا وفرنسا واسبانيا والمانيا وبلجيكا وهولندا والعديد من الدول الأوروبية، حيث حطّم المحتجون تماثيل في الساحات العامة ولطخوا رموزاً اتهمت بالعنصرية وبيع الرقيق وجرائم ضد الإنسانية.
ولعلّ تراكم هذه التغييرات خلق مجتمعات جديدة ومختلفة ، خصوصاً بعد انتهاء عهد الحرب الباردة ، وتراجع دور النقابات العمالية والمؤسسات الدينية ، رغم الترويج لعدم جدارة ما سمّي بالصراع الطبقي، بصعود الأوليغارشية أو ” الأقليّة الحاكمة” في ظل إثارة مخاوف وفوبيا ” البيض” إزاء الهجرة والمهاجرين واللاجئين والملوّنين، مع إثارة فوبيا الإسلام المعروفة باسم ” الإسلامفوبيا” (الرهاب من الإسلام ).
ويواجه بعض دعاة “النيوليبرالية” كل من يعارض أسلوبهم في إدارة الشأن العام ويعتبرونه مختلاًّ نفسياً أو عقلياً، ولا يتورع هؤلاء من إعلان نيتهم لحجز معارضيهم في المستشفيات قسرياً، بما في ذلك معارضو دونالد ترامب والمصوتون بعدم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وباقي أنصار الحركة الشعبوية، وهو ما انكشف على نحو مريع خلال مداهمة وباء كورونا مؤخراً حيث بانت هشاشة النظام الصحي والضمان الاجتماعي للعديد من البلدان التي تصنف بأنها غنية ومتقدمة.
وبالطبع فإن النخب الأوليغارشية في دوائر المال والسياسة والإعلام تحاول التحكّم في أذهان الناس وعقولهم وثقافتهم بما فيها خطابها إزاء البلدان النامية، بالترويج لفكرة إن الحاضر أفضل من الماضي، والمستقبل أفضل من الحاضر ، في محاولة لإشعار الناس بالخجل تجاه تراثهم وهويّتهم ، ليكونوا مستعدين للتخلّي عنها أمام أساليب الدعاية الديماغوجية وسطوة الإعلام والصراع الآيديولوجي، ولاسيّما بهيمنتها على المؤسسات الثقافية الكبرى ومحاولة ضخّ أفكارها وأساليبها لفرض قواعد جديدة مفادها إن كل من يتصدّى للأوليغارشية، يعدّ إنساناً رجعياً ومثيراً للخجل، بل ويحمّلون هؤلاء ما يعانيه العالم من خيبات ومرارات وآلام، الأمر الذي يستوجب إنهاء المعارضة وتحقيق الإنسجام لضمان العدالة.
وتحاول النخب الأوليغارشية شن حرب ضد خصومها وضد الطبقتين العمالية والوسطى، بزعم أفكارها ورؤاها المخالفة لمصالح الحكم الأوليغارشي في إطار حرب ثقافية شاملة. وتحت هذا العنوان تتم عملية تشويه مواقف الطبقة الوسطى والبيض المنتمين إليها، باعتبارهم “معادون لحركة الحقوق المدنية والفكر التقدمي”.
وقد كانت هذه الأطروحات جزءًا من حوار مستمر في الغرب، وهو عبّر عنه كتاب صدر في الغرب مؤخراً بعنوان “The New Class War” “حرب طبقية جديدة” لمؤلفه مايكل لاند، مع عنوان فرعي ” إنقاذ الديمقراطية من النخبة الإدارية”، وهو أمر يحتاج إلى “تفكّر وقراءة” ليس على الصعيد الغربي فحسب، بل على صعيد العالم الثالث بشكل خاص، لاسيّما وإن الطبقة الوسطى تكاد تكون غائبة في ظل صعود شعبوية دينية وطائفية وقومية ، ذات توجهات شمولية وعنفية وبعضها إرهابية.
نشرت في صحيفة الخليج (الإماراتية) ، الأربعاء 24/6/2020.