لم يحدث أن جرت تطورات سريعة وعاصفة في العلاقات الدولية على نحو ما يجري اليوم وفي ظلّ عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لاسيّما بصعود الأوليغارشية الجديدة، فما أن وصل مجددًا إلى دست الحكم، باشر بطائفة من الإجراءات الداخلية والخارجية التي من شأنها إحداث تغيير جوهري في العلاقات الدولية وقواعد السلوك الدولي.
والأوليغارشية تعود في أصلها إلى اللغة اليونانية (أوليغارخيا)، وتعني “حكم الأقلية”، حيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة نافذة تمتلك المال والقوة.
وكان أفلاطون في كتابه “الجمهورية” أول من سلّط الضوء على ثلاثة أنواع من الأنظمة وهي: المثالية، والديمقراطية، والأوليغارشية، وهذه الأخيرة لا تحترم القوانين، وحسب أرسطو فإن الأوليغارشية غالبًا ما تنتهي إلى حكم الطغيان، بتشبثها بالسلطة، والأوليغارشية بقدر ما هي حاكمة في بلد، فإن طموحها أحيانًا يتجاوز ذلك ليمتدّ إلى العلاقات الدولية، كما هي الأوليغارشية الأمريكية اليوم تُعتبر عابرة للأوطان، وتسعى للهيمنة على العالم.
واتّخذت البنية الدولية منحىً جديدًا بعد الحرب العالمية الثانية، قائمة على القطبية الثنائية بين المعسكرين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي، واستمرّ الوضع بتقاسم النفوذ ضمن حدود أقرب إلى الاتفاق بين العملاقين، مع بقاء الصراع الأيديولوجي على أشدّه وحروب بالوكالة خارج المناطق المتفق عليها، بحيث تكون هناك توافقات لرسم شكل الصراع وخريطته تقريبًا، ولا يمكن لأحد القطبين تجاوز حدوده ووضع اليد على ما يهدد مصالح الطرف الآخر.
وساد منذ أواخر الثمانينيات، وبعد انهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1989 وحتى العقد الأول من الألفية الثالثة نظام أحادي القطبية، بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الأيديولوجي من شكل إلى شكل آخر، خصوصًا في مواجهة ما أُطلق عليه الإسلام السياسي والقوى المتعصّبة والمتطرّفة التي اتّخذت منه عنوانًا في مواجهة الغرب والقوى الإمبريالية.
لكن هذا النظام الجديد في العلاقات الدولية لم يعمّر طويلًا، وكان الإيذان الأول على تصدّعه وتخلخل أساساته بعد احتلال العراق في العام 2003 واضطرار الولايات المتحدة إلى الانسحاب منه في نهاية العام 2011.
وإذا كان النظام الدولي الجديد قد أخذ يترنّح، وخصوصًا بصعود التنين الصيني والتقدّم الاقتصادي الكبير الذي أحرزته بكين، بحيث أصبحت الصين قوّة عالمية كبرى، ومن ثمّ معافاة الدب الروسي، إلّا أن ذلك لم يخلق نظامًا جديدًا، مع أن بعض ملامحه أخذت تظهر، لكن هيمنة الولايات المتحدة وتحكّمها بالقرار الدولي بقيت مسيطرة في ظلّ البيئة الدولية التي ما تزال لصالحها بالرغم من تراجع نفوذها.
نظام يحتضر وآخر لم يولد
النظام الذي تأسس في أعقاب انتهاء عهد الحرب الباردة لم ينتهي حتى الآن والجديد لم يولد بعد، مع أن بوادر قيام نظام متعدد الأقطاب هو قيد التشكّل، حتى وإن بقيت الولايات المتحدة تمثّل القوّة الاستراتيجية العالمية، اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، إلّا أن واشنطن تضطر أن تعترف بوجود قوى دولية وإقليمية لا يمكن إغفال مواقعها، مع أنها تريد أن تبقى متفوقة عليها وهذه الأخيرة تعترف بذلك وتقرّ به، وهكذا يمكن اقتسام مناطق النفوذ للدول المؤثرة ووفقًا لتوازنات القوى لكل حالة ووضعيّة، لاسيّما على الصعيد الاقتصادي شريطة أن تبقى اليد الطولى لواشنطن بحيث تتمتّع بامتيازات لا بقوّة نموذجها السياسي ، بل بفضل قوتها العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية كدولة عظمى لا تضاهيها أية دولة في العالم.
أمريكا أولًا
لقد رفع ترامب شعار “أمريكا أولًا”، و”لنعيد عظمة أمريكا”، وهو الذي جسّد طموح الأوليغارشية الجديدة بالنظر إلى المصالح الأنانية الضيقة، وعمل على تفكيك الدولة العميقة، وإقامة نظام أمني شديد الصرامة، وعدم وضع ضوابط على شركات التكنولوجيا الكبرى، ولاسيّما القائمة على منظومات الذكاء الاصطناعي. وذلك تجاوزًا على النظام الليبرالي الذي كان قائمًا، والذي حقق في السابق منجزات ترتبت عليه في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وهكذا اتّحدت مصالح الأوليغارشية مع مصالح كبريات الشركات، بعد ان أدركت الأخيرة أن الليبرالية لم تعد تلبّي طموحاتها، الأمر الذي أصبحت أكثر تماهيًا مع التوجّه الشعبوي اليميني، وهكذا أقيم تحالف جديد أساسه أصحاب الذكاء الاصطناعي ورأس المال العقاري، لدرجة باتت الشعبوية المنفلتة من عقالها تمثّل تجاوزًا على ما تحقق من منجزات في السابق.
وإذا كانت مصالح الأوليغارشة بشقيها العقاري وأصحاب الذكاء الاصطناعي متوافقة داخليًا، فإنها اتّجهت إلى الخارج ولم يعد يهمّها سوى تحقيق الأرباح، ابتداءً من الضغط على الحلفاء، وذلك بوضع ضرائب على التعامل التجاري واستيراد البضائع منه ورفع درجة التعرفة الجمركية على الأصدقاء والخصوم على حدّ سواء، الأمر الذي قد يخلق أزمة اقتصادية عالمية غير معروفة النتائج حتى الآن لا في أوروبا والبلدان النامية فحسب، بل على الصعيد الأمريكي أيضًا، خصوصًا فيما إذا نشأ تحالف دولي معلن أو غير معلن يقف بوجه الأوليغارشية الترامبية.
لم يكتف ترامب بذلك، بل أعلن عن رغبته في وضع اليد على قناة بنما، وأن تتاح له السيطرة على جزيرة غرينلاند، وانتزاعها من يد الدانمارك، علمًا بأنها غنية بالموارد الطبيعية، وضم كندا لتصبح ولاية أمريكية، ومطالبة أوكرانيا الممتحنة بالحرب منذ شباط / فبراير 2022 بتعويض ما قدمته لها من مساعدات، وارتهان مواردها الطبيعية ومقاسمتها مع الولايات المتحدة لتسديد ما في ذمتها.
لعلّ كل تلك التدابير والإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب، إضافة إلى الدعوة لإجلاء سكان غزّة المنكوبة والمدمّرة في حرب إبادة مستمرة منذ نحو عام ونصف العام بعيدًا عن أي اعتبار إنساني أو حقوقي، أقول أن كلّ تلك الخطوات التي أعلنت عنها تؤدي إلى تقويض أساس العلاقات الدولية القائمة، بما فيها نظام التجارة الحرّة.
وتعتقد الأوليغارشية الترامبية أن من شأن هذه التوجهات التهيئة لعقد صفقات دولية تضمن للولايات المتحدة إستمرار تفوقها، وهو ما حصل مع روسيا، حيث تخلّت واشنطن عن كييف، وسمحت حتى الآن بإمكانية تمدد الحلم الروسي بتحجيم أوكرانيا وضم بعض المناطق التي احتلّتها إليها، مقابل التخلي عن دمشق، الأمر الذي أدّى إلى انهيار السلطة وفرار الرئيس بشار الأسد.
ومثل هذا الأمر قد يترشّح في العلاقة مع الصين بالاعتراف بمطالبها بخصوص تايوان، وربما نشهد ضمها إلى البر الصيني، حيث تسعى بكين باستعادتها كجزء لا يتجزأ منها، وهكذا يمكن أن يتخلى ترامب بموجب المعلن من سياسته عن حلف شمالي الأطلسي وحماية دول أوروبا الغربية، وعن المسؤولية في حماية كوريا الجنوبية واليابان، والابتعاد عن قيم ما سمي بالعالم الحر والتبشير بحقوق الإنسان والديمقراطية والحريّات. وهكذا ينشأ التعارض بين مصالح القوى الشعبوية الأوروبية بين مصالح الأوليغارشية الأمريكية، التي تريد إخضاع الأولى إليها.
أمّا انعكاسات سياسات ترامب الأوليغارشة على منطقتنا فهي تتوافق مع الفاشية الإسرائيلية التي تريد فرض الهيمنة على دول المنطقة، ابتداءً من نزع سلاح سوريا بالقصف غير المعهود عليها لفرض منطقة نفوذ في الجنوب السوري، وذلك لمواجهة النفوذ التركي في الشمال السوري، إضافة إلى العدوان المستمر على جنوب لبنان وعدم الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار بحجة نزع سلاح حزب الله، وتريد من الدول العربية مساعدتها في ذلك تمهيدًا للتطبيع الذي بدأ قبل عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023.
وتطالب الأوليغارشية الترامبية دول الخليج العربي بدفع الأموال بطرق مختلفة، سواء عبر صفقات السلاح أو الاستثمارات أو غيرها، تعويضًا لحمايتها وثمنًا للتحالف معها.
وإذا اكتمل هذا السيناريو سيؤدي إلى هيمنة إسرائيلية على المشرق العربي، وقد يعود إلى توريط بعض الدول العربية للمساعدة في شن الحرب على إيران، حيث يضغط الرئيس ترامب على طهران، أما بالتفاوض المباشر أو تلقيها ضربات غير مسبوقة من القصف الأمريكي، الذي لو حدث لحوّل المنطقة إلى برميل بارود لا يعرف إلّا الله مدى اشتعاله واستمراره.
الولايات المتحدة بقيادة الطغمة الأوليغارشية ومعها حليفتها إسرائيل تريد التحكّم بمن يدير غزّة ومن يقود السلطة الفلسطينية ومن يحكم العراق وسوريا ولبنان واليمن ومن يبقى في السلطة ومن يخرج منها، كما تريد ضمانات لحماية ما يسمّى “أمن إسرائيل” التي سيكون لها اليد العليا، المتفوقة اقتصاديًا وعلميًا وتكنولوجيًا وعسكريًا في المنطقة، التي ينبغي تحويلها إلى “أقليات” عرقية وإثنية ودينية وطائفية، أقرب إلى كانتونات وليست دولًا قوية وراسخة، بل كيانات متقاتلة ومحتربة بين بعضها البعض، وتكون “إسرائيل” الأقلية الأكثر نفوذًا بينها حسب خطة برنارد لويس منذ العام 1979، والتي صادق عليها الكونغرس في جلسة سريّة العام 1983، والتي تعتبر اليوم برسم التنفيذ.
وإذا كانت ثمة عناصر قوّة تمتلكها البلاد العربية ولكنها لم تستغلها، فذلك يحتاج إلى بيئة عربية ودولية لكي تستطيع أن تقوم بتفعيلها داخل كل بلد عربي وعلى النطاق القومي، سواء عبر تحالفات داخلية أو تعاون عربي أو عبر توافقات دولية جديدة بالانفتاح على الصين وروسيا، ولست من باب التمني أقول ذلك، لكن إذا أدركت القوى الحاكمة أن طريق ترامب يمر عبر بلدانها، فحينئذٍ يمكن أن تفكّر بمصلحتها باتباع سياسة أكثر انسجامًا مع مصالح شعوبها خارج دوائر الصراعات الضيقة والاصطفافات الموهومة، بل عبر تصوّر عربي وربما إقليمي فيما إذا شعرت دول الإقليم أن مصلحتها هي الأخرى تقتضي الوقوف عند ذات المواقع بعيدًا عن التدخّل بالشؤون الداخلية ومحاولات فرض التسيّد والهيمنة على الآخر، وأن ذلك يستجيب لمصالح شعوبها أيضًا، عند ذلك سيكون بداية جديدة، في محاولة وقف التمدد الأوليغارشي على المنطقة، وهو الذي سيقابله محاولات أخرى على صعيد العالم.