19 ديسمبر، 2024 12:10 ص

الأهوار وناي عدنان شنان

الأهوار وناي عدنان شنان

ربما الى ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي كانت الفرق الموسيقية العراقية التي تظهر في التلفزيون وهي تعزف اغنيات المطربين تحتفي برجل ضخم أعمى يرتدي نظارات سوداء معتمة يعزف الناي بأجادة غريبة وشجية واسمه ( خضر الياس ) .المولود في بغداد ــ سوق الغزل ( 1928 / 1998 ) .
منذ محمد القبانجي ومرورا بسليمة مراد وانتهاءً بأغنيات حسين نعمة ، الرجل سادن لآلة الناي ولم اره في اي مقطوعة او اغنية حتى لو كانت مفرحة ان يفترش اساريره قليلا ، لقد كان وجهه معتما وجديا ومنشغلا بعذوبة هواء النغم وهو يخرج من آلته الخشبية.
غير ناي العازف خضر الياس ، هناك ناي آخر صنعته الطبيعة وليست يد نجار ماهر. أقصد نايات القصب الاخضر واليابس الذي لم تحصده مناجل المعدان ومغروس في مياه الاهوار منذ أن انحسر الطوفان عن المكان ووصلت سفينة نوح الى بر الأمان في جدلية امكنة اخرى تمتد من جبل ارارات حتى طنجة.
ذلك التفاعل الروحي بين الليل الممتلئ بالنجوم ووجه القمر والموشح بالصمت الذي تحرك سكونه نسمات الهواء الباردة عندما تلامس خد الماء هي من تمازج رؤوس القصب والهواء في احتلاك خفيف لتولد من هذا المزيج المشتركة ، النسمة وراس القصبة موسيقى هادئة لايضعها ملحن ولايعزفها خضر الياس أو اي راع لاغنام ذكريات الجبلية في سفوح كردستنان يوم قضيت جنديتي في وديان ومرتفعات بنجوين وكنت ارى الرعاة الكرد يتقنون عزف الناي ، وهناك عرفت أن الناي وحده من يحرك النهار صوب احلامنا بدلا من الليل حيث يكون صوته صدى لهفة اشتياق الى الجنوب وطفولة قصص المكتبة المدرسية ايام الابتدائية في مدينة الناصرية عندما صنعت احدى القصص التي كان بطلها الراعي الذي يعزف الناي فزعا في روحي وذلك الرعب الذي سكن الخيال بدلا من الموسيقى عندما كان ذلك الراعي يأتي المدينة من مكان مجهول ويعزف عزفا ساحرا يسرق دهشة الاطفال ويمشون خلفه بدون وعي وارادة ليسحبهم معه الى خارج المدينة ومن ثم الذهاب بهم الى مكان مجهول.
الآن نايات القصب بعيدة في ليلها المُحير ، يوم يجيئها الماء وتسكنها خواطر النبي نوح ( ع ) ، ومرة يمنعون عنها الماء ويضعون النواظم والسدود فيقتل العطش كل رغبة في نهايات القصب لتلامس نسائم ليل الاهوار وتعزف شيئا ، وأن عزفت فسوف لن تكون سوى مراثي حزن لهذا الحال الذي مزق حناجر القصب وابعد عنها صدى اغاني مواويل الصيادين ورعاة الجواميس وبعض المعلمين الذين احترفوا الغناء فنا لكن قرعة التعيين دفعتهم في السنوات الثلاثة الاولى للعمل في مدارس الاهوار.
في غربتي الالمانية لم أعد اسمع الناي ، غاب في دفاتر الذكرى وسرقه صخب الموسيقى الحديثة التي تفرضها علينا قنوات العولمة والعالم والثقافة الجديدة ، لكنك حتى تتخلص من غربتك مع المكان وثقافته تذهب الى الكتب وتسجيلات الاغنيات والمعزوفات القديمة وحين تشتاق الى الناي تحاول الاتصال بعازف ناي شهير كان يعيش معك في ذكريات الشباب والصبا ويسكن مدينة كولن الالمانية التي لاتبعد سوى 20 كيلومترا ، فيأتيك صوت عازف الناي ( عدنان شنان ) فتشعره يمتلك الخيبه أن فمه لايمسك الة الناي إلا نادرا في حفلات متفرقة تقيمها الفنانة العراقية فريدة في هولندا وبعض الاماكن وربما واحدة او اثنين ، وهو الان يعمل في غير ما يعشق وبعيدا عن الته ليعيش ويكسب رزقه.
احزن لحال صديقي الفنان  ( عدنان شنان ) مع الناي ، واتمناه ان يظل يعيش مع خواطر الناي ومهارته في دفع الهواء الى روح الموسيقى ، لكن مدينة هائلة وصاخبة مثل ( كولن ) يداعب ليلها مرح وشباب وصخب موج نهر الراين ، حتما ستبعده بسبب ضغط الحياة عن تلك الآلة الساحرة التي يتقن العزف عليها بمهارة.
الآن اتذكر ليل القصب في الاهوار السومرية في جنوب الله ، يسكنني اشتياق الى كل شيء هناك حتى تثائب الجواميس واهازيج النساء في الاعراس التي تجعل ذلك الليل اسطوريا لتشعر ان القصب والماء والهة التلول الاثرية تغني ايضا.
من يغني لك الآن ؟
من يعيد عزف ازمنة ذهبت ، وصديقك السومري عدنان شنان كلما تهاتفته يبث شوقه الى قصبته التي كان يداري فيها مقامات الصبا والنهاوند والبيات .عندما بدا يعزف بآلته في طفولة المدرسة الابتدائية ومنظمة الطلائع والنشاط المدرسي ثم كبر واتقن العزف ويعزفه  مع داخل حسن وحسين نعمة وسعدون جابر والكثير.
لكنه ظل وحيدا مثلي مع غربته ، فهو يحن للناي بفمه ليعزف عليه ، وأنا اعيش الشوق  اليه بلذة السماع .
وبين الشوق والسماع أستعيد تلك الاساطير البعيدة .وبين شجن وشجن ارسم ذكرى وليل وقصبة تمارس المودة مع نسائم الليل من خلال العزف بحب وغرام.