يمكن اعتبار النساء من العصر الفيكتوري اول من خاض الحرب من أجل المساواة بين الجنسين. محاولاتهن ادت الى جميع النساء للمتابعة بعدهن، وعلى الرغم من تقدمهن ربما لم تكن حياتهن مثل حياة النساء خلال سبعينات القرن الماضي ، حيث لم يكن لهن تأثير كبير انذاك. لم يكن الحديث حول النسوية صريحا كما في هذا الوقت، بل صدر من خلال الأدب، مثل الروايات بالذات. كانت القصص والروايات الوسيلة الأساسية التي توصل المعلومات والأفكار في ذلك الوقت. بدون نظم الاتصال الجماهيري كانت الكتب القليلة المعلومات تمثل أجهزة لعبور الحدود، وتصل أراضي جديدة كلما سافر الناس. ورغم أن الكثيرين يتفقون على أن جين آيير هي رواية نسوية، هناك بعض من يفترض أن الغرض الوحيد من قيام شارلوت برونتي بالكتابة بهذا الشكل تتمثل في انتقاد البنية الاجتماعية العامة في ذلك الوقت. وهم يجادلون بأن استخدام النساء كان مرده بساطة برونتي في التعبير عن الشخصية الرئيسية، وليس لإثبات أي نقطة في ما يخص المساواة بين الرجل والمرأة. ومع ذلك، أولئك الذين لا يرون النزعة النسوية في هذه الرواية يقرون بأنا لاستشهاد لاستجابة جين لاقتراح روتشستر في الفصل (23) يمثل اولى الصرخات المعبرة عن الحركة النسوية.
عندما نشرت رواية جين آيير في سنة (1847) من قبل الكاتبة شارلوت برونتي تحت الاسم الذكوري المستعار ( كيرر بيل ) , استقبلت الرواية باشادات كبيرة من بعض النقاد , وانتقادات لاذعة من قبل الاخرين . جين آيير فتاة متوسطة الجمال، ضئيلة الجسم، يتيمة الأبوين، عاشت حياة ظلم ونكد، ولكنها امتلكت من قوة العزم وصلابة الإرادة وحصافة العقل ما يجعلها أهلا لتكون النموذج الذي اختارته الكاتبة لتعبر من خلاله عن كل النزعات الإنسانية.
السيدة المحافظة ايستليك اقترحت فيما اذا كانت الرواية لامرأة فهي قد عانت من قبل المجتمع بشأن هويتها الجنسية , أضافة الى عدم وجود انوثة لديها , تمت الاشارة كذلك الى ان الرواية تمتلك روح تمرد عالية بما يشابه انتفاضات الطبقة العاملة في الجارتون في تلك الفترة , مع مطالباتهم بحق التصويت للطبقة العاملة وكذلك الثورات السياسية التي كانت تجتاح اوربا . جين ايير ارادت تغيير وجهات النظر حول كيف تتمثل المرأة و تتصرف , مما شكل من وجهة نظر سيدة مثل ايستليك , الاطاحة بالنظام الاجتماعي السائد تقريبا . على عكس البدايات التي كانت تتصف بمعاناة البطلات الشديدة في بدايات كتابة شارلوت برونتي , حيث طالبت جين بالمساواة والاحترام . “هل تعتقد” قالت جين تخاطب الشخصية الاخرى في الرواية روتشستر “أني انسان ميكانيكي ؟ … الة من غير مشاعر ؟ …خاطبته من روح الى اخرى “متساويين كشأننا في الحقيقة ” هذا الاقتباس تصوير صريح لمحاولة برونتي لرفع قضية المساواة بين الجنسين. جين تقاتل من أجل التفرد لها في هذا الاقتباس، وترفض أن يعبر عنها ك “آلة” مجرده من المشاعر. وقالت انها لن تتصرف بالطريقة التي يمليها عليها “العرف” سوف تعمل ما تراه صالحا لنفسها، ستتخذ قرارها ولكن بمحض إرادتها. هذا هو بوضوح محاولة الأنثى إلى التحرر من القالب الذي حاول المجتمع وضعها بداخله. جين تخبر روتشستر أن لديها “الكثير من الروح كما [له]” ومجرد “بالكامل كما القلب”. تبين أنها كامرأة لا تختلف عنه، وبالتالي ينبغي أن
يعاملها بشكل مختلف. في نهاية هذا الاقتباس تنص صراحة على أنه عندما يموت كل من منها سيقفان عند قدمي الله “على قدم المساواة – كما نحن” .
يمكن للقارئ ان يجد ان عناصر هذا التمرد في بدت مبكرة في بداية كتابات الكاتبة بسبب فترة حياة المراهقة لبرونتي ولغاية اواخر العشرينات من عمرها . من خلال كتابها “زيارات فيروبولس ” (1830) , النبيلة زنوبيا , التي تعلمت بعمق الحياة الكلاسيكية , والتي تخضع للسخرية من قبل العديد من الرجال . دوقة ولنغتون تفترض ان النساء مثل البجع , رشيقة في الماء , لكنها عندا تغادر مكانها الطبيعي , البيت , تكون في وضع “غير لائق” بحيث يدعو الجميع ” الى الضحك الساخر حتى يفقدوا اتزانهم ” . كذلك بشكل مثير للاهتمام , زنوبيا ايضا عرضة لنوبات من الغضب والجنون يوصف احيانا بامتلاكها جانبا هنديا غربيا , مما يجعلها ايضا تمثل جانب الزوجة المنكدة .
جين إير رواية سبقت بها تشارلوت برونتي عصرها بمختلف المقاييس , فهي تطرح فيها من جهة أفكاراً تقدمية عن المساواة بين الرجل و المرأة في عالم تسيده الرجال من بابه إلى محرابه بينما النساء فيه كائنات من الدرجة الثانية , و من جهة أخرى تقدم نموذجاً روائياً جديداً مختلفاً عن السائد في الأوساط الأدبية حينها و تحديداً في مجال الرواية الغرامية الرومانسية , دون أن ننسى التنوع الهائل في النمط الأدبي المتبع بين الرومانسية و الرعب و النقد الاجتماعي في خليط غير مألوف في مثل ذلك الوقت .
ما يلفت الأنظار في جين إير عما سواها , ليس المرأة التي تشكل الشخصية الرئيسية فيها رغم أن ذلك كان قليلاً في تلك الأيام , بل ما تميزت به تلك المرأة من استقلالية و نزوع نحو الحرية , ما جعل منها شخصية أنثوية تتحكم بمجرى أحداث الرواية و تفاصيلها , على عكس ما جرى عليه العرف الروائي في تلك الفترة , إضافة للتحليل النفسي الدقيق و الغوص عميقا ً في النفس الأنثوية وصولا ً لمنابع الصراع الداخلي الذي تعيشه جين بين الحب و الأخلاق , لتقدم برونتي في مجمل الرواية بيئة فلسفية خصبة و غنية و متقدمة عن أفكار القرن التاسع عشر التقليدية البالية .
أجل , كانت شخصية جين إير تعبيراً حقيقياً عن روح برونتي المتمردة على الواقع و المتعطشة لعالم تشرق عليه شمس الحرية و المساواة , و ليس هناك من دليل على ذلك أكبر من تقمصها اسماً ذكوريا لتتمكن من الكتابة و نشر أفكارها على نطاق واسع , و لم يكن ذلك مجرد طريقة للهروب من حصار الواقع بل كان طريقة ذكية للتسلل إليه دون أن يشعر بذلك أحد و تحدياً سافراً لذلك الواقع الذي يميز بين أبنائه ذكوراً و إناثاً , ليتجلى كل ما سبق في عبارة برونتي الشهيرة : ” لن أهجرك أيها القلم قبل أن تفارقني الروح , ولتكن أسماء الذكور قناعا نموه به قرطاسنا ” .
و هكذا , مزجت برونتي حياتها العاصفة بالألم مع طموحها الذي لا يحده شيء بحياة أفضل لبنات جنسها , و تكفلت عبقريتها الفذة بما تبقى , لتقدم للبشرية تحفة أدبية جعلت من صاحبتها واحدة من ألمع النساء و علماً خالداً يرفرف بحرية في سماء الأدب العالمي .
جين إير رواية تجاوزت معنى الزمن , و تألقت برونق فريد في سماء الأدب , و ارتقت بصاحبتها إلى قمة الشهرة و النجاح , لتبقى حتى يومنا هذا تثير جدلاً لا يقل عما أحدثته وقت صدورها الأول في منتصف القرن التاسع عشر .
فمنذ مطلع الألفية الجديدة و بتأثير تعاظم شأن تيارات ما بعد الحداثة و تيارات العبث , قيل كلام كثير حول انتهاء زمن الكلاسيكية الأدبية , و راجت تكهنات لا حصر لها بابتعاد القراء عن هذا النوع الأدبي الفريد , إلا أن جين إير أثبتت العكس و فاجأت العالم عام 2004 و هي في المرتبة العاشرة لأكثر الكتب شعبية و رواجاً في العالم حسب استطلاع للرأي قامت به هيئة الإذاعة البريطانية ال BBC , لتؤكد مجدداً أهميتها و مكانتها التي لم ينتقص منها الزمن , بل زاد عليها رونقاً و أبعاداً جمالية و إنسانية في عالم يزداد قبحاً يوماً إثر يوم .